أقلام ثقافية

غوغول في ايطاليا

ضياء نافععندما كنّا طلبة في روسيا الستينات من القرن الماضي، كان  الطلبة الروس حولنا في جامعة موسكو  يقولون لنا (ونحن نتناول سوية طعامنا في مطاعم الطلبة البسيطة، ومنها البطاطا والمعكرونه بالاساس)، ان الكاتب الشهير غوغول هو الذي جلب لنا، نحن الروس، (المعكرونه) من ايطاليا ، وكنّا نضحك ونقول لهم – لو انه جلب  ايضا من ايطاليا انواعا اخرى من الطعام عدا المعكرونه لكان ذلك أفضل لنا جميعا،  وكانوا يقولون لنا، ان غوغول كان مشغولا ب (ارواحه الميتة) فقط، ولم يفكر بالطلبة  وطعامهم (خصوصا بعد قرنين من الزمان!!)، ولهذا يجب ان نحمد الله لانه جلب لنا المعكرونه في الاقل . تذكرت كل تلك الاحاديث والنكات والاشاعات والتحليلات (العميقة!) الطلابية الشبابية في كليّة الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) بجامعة موسكو حول الاديب الروسي العظيم وانا اكتب مقالتي هذه عن غوغول  في ايطاليا، علما ان مصادر المطبخ الروسي تشير، الى ان المعكرونه قد بدأت بالظهور في روسيا قبل غوغول، لكنها لم تنتشر سريعا في المطبخ الروسي التقليدي آنذاك، لكن غوغول كان يحب المعكرونه في ايطاليا وكان يحاول ان يحضّرها لأصدقائه، وقد كتب العديد من أصدقائه حول ذلك، ولهذا السبب انطلقت تلك الاشاعات والاقاويل بين الطلبة الروس عندما كنّا ندرس معهم .

كان غوغول عاشقا كبيرا  لايطاليا، وقد قارنها مرة في احدى رسائله ب (السماء) وكتب يقول، ان الذي كان في السماء لا يرغب ان يحيا في اي بقعة من بقاع الارض، وقال عنها انها (مثل اليوم المشمس) مقارنة مع (اليوم الغائم المكفهر)، وتوجد مقاطع كثيرة جدا في رسائل غوغول عن ايطاليا وحبه لها واندهاشه امام جمالها وطبيعتها، وتحمل تلك الرسائل طبعا روحية غوغول وجمالية اسلوبه في الكتابة ومبالاغاته الطريفة والمتميّزة واسلوبه الغريب، ويقول مثلا، في احدى هذه الرسائل، انه يتمنى ان يتحوّل كليّا الى أنف كبير كي يستنشق الهواء العليل في ايطاليا، ولا مجال هنا للاستشهاد بنصوص كثيرة اخرى من تلك الرسائل الجميلة . وكان غوغول يؤكد دائما، انه (فقط في ايطاليا يستطيع الكتابة عن روسيا!)، وقد كتبوا هذه الجملة الغريبة والعجيبة والطريفة على تمثاله (وهو يجلس  في حالة تأمّل) في روما وباللغتين الروسية والايطالية، هذا التمثال  الذي تم تدشينه العام 2002 لمناسبة الذكرى (150) لوفاته، وفي نفس المتنزه الذي يوجد فيه تمثال بوشكين في روما بايطاليا .

 

 لقد عاش غوغول حوالي خمس سنوات في ايطاليا (من عام 1837الى عام 1842)، وكان يتقن اللغة الايطالية قراءة وكتابة ومحادثة بشكل جيد جدا . وتوجد جملة كتبها أحد الايطاليين حوله تقول – لا أحد من بين الروس تكلم بشكل ساطع عن ايطاليا مثل (السنيور نيقولا)، الذي عاش في بيوت روما القديمة . وهناك الان (في بيوت روما القديمة) توجد لوحة من المرمر معلقة على الطابق الثاني من شارع بروما تشير الى الشقة التي عاش فيها غوغول، وباللغتين الايطالية والروسية، وانه كتب هناك روايته الخالدة (الارواح الميتة)، وتوجد في تلك اللوحة المرمرية  حتى اشارة، الى ان القيصر الروسي صرف له خمسة الآف روبل من خزينة الدولة الروسية اثناء حياته في ايطاليا. ومن الطريف ان نشير هنا، الى ان هذه اللوحة المرمرية قد وضعتها الجالية الروسية في روما، وبمبادرة شخصية بحتة، ولا علاقة لها بالدولة الروسية آنذاك ابدا، و قد تم افتتاحها في ربيع عام 1902، ولا زالت طبعا موجودة لحد الان في ذلك الشارع العتيق بروما، وتعدّ في الوقت الحاضر احدى الشواهد، المرتبطة بغوغول في ايطاليا، والتي يزورها السوّاح الروس والاجانب و عشاق غوغول طبعا من كل الاجناس   .

من الضروري جدا ان نتوقف قليلا (ونحن نتكلم عن غوغول في ايطاليا) عند جمعية ثقافية تأسست في ايطاليا عام 2009 لمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد غوغول، والجمعية هذه اسمها – جمعية (جائزة غوغول في ايطاليا) الثقافية، وهي جمعية خيرية تسعى للنهوض الثقافي والروحي للتراث الفكري في ايطاليا، وقد  ساهمت في تأسيس هذه الجمعية الثقافية  كل من روسيا واوكراينا وايطاليا وفرنسا والمانيا، وتمنح هذه الجمعية سنويا (جائزة غوغول في ايطاليا) لكل من يساهم في تطوير الحوار الثقافي الروسي – الايطالي من الادباء والمترجمين والباحثين وفناني المسرح والسينما والفن التشكيلي وغيرها من الفنون المختلفة الاخرى، وقد حصل على  (جائزة غوغول في ايطاليا) الكثيرون من فناني ايطاليا وروسيا منذ تأسيسها ولحد الان، ويجري توزيعها  بشكل مهيب جدا في أحد أكبر مسارح روما، وبحضور جمهور كبير جدا وتغطية اعلامية واسعة في ايطاليا وروسيا.

موضوعة (غوغول وايطاليا) كبيرة جدا ومتشعبة جدا، وقد تم كتابة عدة كتب روسية حولها، ومنها كتاب صدر حتى في اواسط القرن التاسع عشر في روسيا، وتتناول تلك المصادر رسائل غوغول وعلاقاته الواسعة مع الجالية الروسية هناك (ومنهم الرسام الروسي الكبير ايفانوف)، الذي رسم لوحة (ظهور المسيح للشعب) في ايطاليا، وهي لوحة كبيرة  جدا لازالت معلقة في المتحف الروسي لحد الان، وفي تلك اللوحة يوجد غوغول واقفا بين الذين ينتظرون  السيد المسيح .

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم