أقلام ثقافية

تولستوي وتورغينيف

ضياء نافعولد تورغينيف عام 1818، بينما ولد تولستوي عام 1828، اي ان تورغينيف اكبر عمرا من تولستوي بعشر سنوات، ومن الطبيعي انه ابتدأ مسيرته الابداعية قبل تولستوي، اذ بدأ تورغينيف بنشر قصصه في مجلة ادبية شهيرة آنذاك في روسيا عام 1847، وهي القصص التي ستظهر لاحقا في كتابه - (مذكرات صياد) . اطلع تولستوي طبعا على تلك القصص وكان من اشد المعجبين بهذه (القصص المتوهجة) حسب تعبيره، بل ان تولستوي كتب في مذكراته عام 1853 قائلا – (... قرأت مذكرات صياد لتورغينيف، و من الصعب الكتابة بعد هذا الكتاب) . توجد بين مؤلفي رواية (الاباء والبنون) لتورغينيف و رواية (الحرب والسلم) لتولستوي كثيرا من الوشائج المشتركة، وكلاهما اصبحا علميين من اعلام الادب الروسي (عرّف رسول حمزاتوف الادب الروسي مرّة في لقاء صحفي كما يأتي - انه ادب... (الاباء والبنون) و(الجريمة والعقاب) و(الحرب والسلم)...) ، رغم ان الفوارق بين اهميّة الروايتين المذكورتين ومكانتهما في الادب الروسي (والعالمي ايضا) تبين بشكل واضح ودقيق الفوارق الهائلة بين هذين الاديبين بشكل عام، اذ ان رواية تولستوي (الحرب والسلم) كانت ولازالت واحدة من اعظم الروايات في تاريخ الآداب، وهي رواية فريدة ومتميّزة بكل معنى الكلمة .  هناك – مع ذلك - الكثير من التباين والاختلافات وحتى التناقضات بينهما ايضا، بل حصل مرة خلاف بسيط بينهما وتطور، و وصل الى حد ان تولستوي دعاه الى المبارزة، والتي لم تحدث والحمد لله، اذ اعتذر بعدئذ تورغينيف بعد تدخل الاصدقاء المحيطين بهم، ولكن الامر كان خطيرا لو حدث، وكان يمكن ان يتحول الى مأساة كبيرة في تاريخ الادب الروسي، رغم انهما – بعد ذلك - تباعدا عن بعض حوالي 17 عاما باكملها، ولكن العلاقات عادت بعد ان هدأت النفوس طبعا . وكل هذه الجوانب من التشابه والتباين والتناقض بينهما يشير اليها مؤرخو الادب الروسي بالتفصيل في دراساتهم وبحوثهم عن هذين الاديبين، ولا يمكن بالطبع عرض كل ذلك للقارئ العربي في اطار مقالتنا هذه عن تولستوي وتورغينيف، ولكننا سنحاول الايجاز قدر المستطاع .

تؤكد الدراسات والبحوث قبل كل شئ على التقارب والتشابه والتناغم بين تورغينيف وتولستوي بشأن الموقف من حق العبودية او حق القنانة، الذي كان سائدا في روسيا آنذاك، رغم انهما كانا ضمن هؤلاء النبلاء من مالكي الاراضي الزراعية وفلاحيها الخاضعين للعبودية، وهو موقف سياسي وفكري طبعا، ولكنه مهم فعلا، اذ انه يعني الكثير بالنسبة لروسيا ولحركة المثقفين فيها بشكل عام، وتربط تلك الدراسات هذا الموقف مع كونهما كانا ضمن كبار ادباء تحرير مجلة (سوفريمينك) في نهاية خمسينات القرن التاسع عشر (توجد صورة جميلة و مشهورة تجمعهما في المجلة مع بقية الادباء الروس مثل غانجيروف واستروفسكي، وغالبا ما ينشروها في مختلف المصادر عنهما )، وكلاهما تركا تلك المجلة بعد ان بدأت بنشر مقالات ذات توجه ثوري، لانهما لم يتفقا مع هذا الخط الفكري، الذي بدأت المجلة بانتهاجه برئاسة الشاعر نكراسوف، وهي مواقف فكرية مشتركة طبعا من قبلهما، باعتبارهما اديبين يصوران الواقع الروسي بموضوعية، ولا يدعوان الى الثورة كأسلوب لتغيير الواقع . ولكن هذا كله لا يعني، انهما كانا في اطار (جبهة فكرية واحدة) ان صحّ التعبير، اذ ان تورغينيف فلسفيا كان يميل الى النزعة الغربية، بينما كان تولستوي يؤكد دائما، ان الانسان الحقيقي يجب ان يكون قريبا من ارضه، وان الانسان الذي يبتعد عن الارض، فانه يبتعد عن انسانيته . يتناول احد الباحثين الروس مسيرة تورغينيف وتولستوي في شبابهما، وكيف ان تورغينيف (فتح عينيه) في اجواء جامعات موسكو وبطرسبورغ وبرلين ( درس في جامعة برلين بعد انهاء دراسته في روسيا)، اما تولستوي، فقد درس في جامعة قازان (درس اللغة العربية والتركية فترة، ثم درس القانون لفترة) ثم ترك الدراسة الجامعية، وتطوع بعدئذ في صفوف الجيش، وهكذا يصل هذا الباحث، الى ان تربية تورغينيف ومسيرته قد أدّت به الى النزعة الغربية نتيجة لدراسته الاكاديمية العميقة (كان تورغينيف معجبا جدا بحضارة اوربا)، بينما تولستوي كان أقرب الى الروح الشعبية الروسية، المرتبطة بالارض . ان هذه الطروحات فلسفية بحتة، ولا يمكن طبعا الاتفاق معها او الاقرار بها دون دراسة معمقة ومناقشة شاملة ومتعددة الجوانب، ولكن هذا الباحث – مع ذلك - استند الى وقائع حياتية محددة ودقيقة عندما عمل استنتاجاته حولهما.

نختتم هذه الملاحظات الوجيزة حول هذا الموضوع الكبير في تاريخ الادب الروسي بالتوقف عند الرسائل الاخيرة، التي تبادلاها تولستوي وتورغينيف، عندما كان تورغينيف في باريس طريحا على فراش الموت، اذ كتب تولستوي اليه رسالة مؤثرة يقول له فيها – (لقد شعرت كم احبكم أنا، وحتى فكرت ان اسافر الى باريس لرؤيتكم ...) وينهي تولستوي رسالته هكذا – (.. اعانقك ايها الانسان والصديق القديم والحبيب والعزيز عليّ جدا)، اما تورغينيف فقد طلب منه في جوابه ان يرجع الى الكتابة الادبية، وقد أسماه - (الكاتب العظيم للارض الروسية)

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم