أقلام ثقافية

ماياكوفسكي وبوشكين

ضياء نافعلم يعترف ماياكوفسكي بالاسماء الكبرى في تاريخ الادب الروسي في بداية طريقه الادبي، مثل بقية الادباء الذين كانوا ينتمون الى تيّار أدبي وفني برز في بداية القرن العشرين بروسيا وهو – (الفوتوريزم)، اي (المستقبلية)، ولا مجال هنا طبعا للحديث عن هذا التيّار ومكانته في مسيرة الادب والفن في روسيا . كان ماياكوفسكي متحمسا جدا لتلك الآراء، ومتطرفا كالعادة في مواقفه الحادة، ولهذا فقد رفض حتى بوشكين، انطلاقا من ضرورة التخلص من الماضي، والارتباط مع الحاضر فقط، والانطلاق منه نحو المستقبل. لقد دعى ماياكوفسكي في تلك الفترة المبكرة من مسيرته الابداعية الى (...اسقاط بوشكين من منصة العصر الحديث وخلعه والاطاحة به..)، وهذه الكلمات موثّقة ومنشورة في المصادر الروسية عن ماياكوفسكي وعن تيّار المستقبلية وأنصارها عموما. وأذكر ان أحد أصدقائي من الطلبة الروس، الذي كان يدرس معي في جامعة موسكو في الستينيا ت، والذي كان معجبا جدا بماياكوفسكي، قال لنا مرة، انه قرأ حول تلك الفترة من مسيرة ماياكوفسكي ما معناه، ان ماياكوفسكي كان يرغب ان يقود بوشكين الى جدار ويوقفه عند ذلك الجدار ويعدمه رميا بالرصاص، ولازلت أتذكر الاشمئزاز والامتعاض والاستهجان الذي ساد عند جميع الطلبة من الذين كانوا يستمعون الى ذلك الحديث آنذاك، وقد علّق أحد المستمعين عندها قائلا – طبعا اراد ماياكوفسكي ان يعدم بوشكين لانه كان يرغب ان يخلق اوزانا موسيقيّة جديدة ومبتكرة من قبله في مسيرة الشعر الروسي، ولكن بوشكين العظيم كان له بالمرصاد، ولم يسمح له بتاتا بذلك، رغم ان بوشكين عاش ومات قبل ماياكوفسكي بقرن كامل من الزمن . وفي تاريخ الادب الروسي توجد حادثة طريفة (سبق لي ان تحدثت عنها تفصيلا في احدى مقالاتي القديمة ببغداد السبعينات حول ماياكوفسكي)، واعيد ملخّصها الان، وهي ان لينين حضر في احدى مؤتمرات الشباب السوفيتي مرة، وسألهم – (هل تقرأون شعر بوشكين؟)، فأجابوه – كلا، نحن لا نقرأ شعر البرجوازي بوشكين، وانما نقرأ شعر البروليتاري ماياكوفسكي، فاجابهم لينين مبتسما بجملته الشهيرة والواضحة وضوح الشمس كما يقول تعبيرنا العربي الجميل، اذ قال – لكن شعر بوشكين أفضل .

موقف ماياكوفسكي من بوشكين بدأ بالتغيّر تدريجيا، اذ انه صرّح برغبته (الاطاحة !) ببوشكين في عام 1912 (ولد ماياكوفسكي العام 1893)، ومن الواضح تماما، ان مثل هذه (الاقوال!) يطلقها عادة الشباب الغض المتطرف في كل زمان ومكان (قالها عن بوشكين ايضا بازاروف – بطل رواية تورغينيف الآباء والبنون) . ان الآراء الفكرية و المواقف المرتبطة بها، مثل كل البشر، تنضج وتتطور وتتغيّر بمرور الايام والشهور والاعوام، وهذا ماحدث طبعا مع ماياكوفسكي، الذي كتب العام 1924، اي بعد 12 سنة من أقواله المتطرفة تلك، كتب قصيدة طويلة جدا وجميلة ومكتوبة طبعا باسلوب ماياكوفسكي و بعنوان – (اليوبيلية)، وهي مكرسّة للذكرى (125) لميلاد بوشكين، وتوجد اشارة في المصادر الروسية الى ان ماياكوفسكي كتب هذه القصيدة وكان الشاعر ماندلشتام يقرأ له رواية بوشكين الشعرية – (يفغيني اونيغين)، رغم ان ماياكوفسكي – كما تشير تلك المصادر نفسها – كان يعرفها عن ظهر قلب تقريبا.

لم يصل ماياكوفسكي طبعا الى قصيدته عن بوشكين تلك رأسا، اذ ان آراء المستقبليين وغيرهم من الشباب المتطرف حول (الاطاحة!) بالتراث الادبي الروسي (بما فيهم تولستوي ودستويفسكي ايضا) اصطدمت واقعيا بموقف الناس الطبيعي والسليم دائما من ذلك التراث العظيم، بل ان موقف لوناتشارسكي، وزير التعليم والثقافة السوفيتي الاول (انظر مقالتنا بعنوان - لوناتشارسكي الفيلسوف والاديب والوزير) من ذلك التراث كان مضادا كليا لتلك الآراء المتطرفة تجاه رفض التراث، وقد بدأ موقف ماياكوفسكي من بوشكين يتغيّر، اذ أعلن انه ضد تحويل بوشكين الى تمثال، اي الى مفهوم (الصنم!) ان صح التعبير، وانما هو (اي ماياكوفسكي) مع التفاعل الحيوي والحياتي بشعر بوشكين، وقد كتب ماياكوفسكي في قصيدته الجميلة تلك كل ما اراد ان يقوله عن بوشكين –

أنا الوحيد / الذي يأسف / لانك لست حيّا / ....... احبك / لكن حيّا / وليس مومياء .......

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم