أقلام ثقافية

المولدي فرّوج: قصيدة النّثر وأخطاؤها القاتلة

المولدي فروجهل استطاعت قصيدة النّثر وقد فات عمرها السّبعين أن تفرض نفسها كجنس أدبيّ متكامل ومتناسق؟

وسعيا منّا إلى الإجابة عن السؤال بموضوعيّة، حاولنا ان نتخلّص من كلّ أحكام مسبقة فلم نجاهر بمحبّة لهذا الصّنف أو بعداوة لذاك. وقمنا بجرد للشّعراء التّونسيّين لتوفّرهم بين أيدينا.وقرأنا ثلاثة كتب تناولت قصيدة النثر بالتحليل والدراسة: كتاب المهدي بن عثمان قصيدة النثر في تونس وكتاب أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء وكتاب نور الدين بوجلبان قصيدة النثر وانبناء الشعرية. وقد تنوعت هذه الكتب بين الموقف الانطباعي وبين الانحياز وبين الموقف الموضوعي المبني على حجج.

 وبعد هذه الرحلة بين الشخوص والنصوص ثبتت عندنا ملاحظات عديدة منها:

ـ ثلاثة أرباع الشّعراء يكتبون الشّعر الموزون (العمودي وشعر التفعيلة).

ـ  تخلّي العديد من شعراء التّسعينات عن قصيدة النّثر والتحاقهم بشعر التّفعيلة.

ـ ظهور جيل من الشعراء الشّبّان خرّيجيّ الجامعة يكتبون الشّعر العمودي. ومردّ هذا ان دراسة العروض سحبتْ من برامج التّعليم الثّانوي واقتصرت على طلاب الجامعة وبالتّالي فإنّنا سنرى مستقبلا نوعين من الشّعراء: واحدا بمستوى تعليمي متواضع يجهل أسباب الشّعر وشروطه وثانيا أكاديميّا يشرح الشّعر ويكتبه (مسألة للمتابعة). ولكن هذا لا يفسّر تخلّف قصيدة النّثر لذلك سنحاول البحث عن الأسباب منذ نشأة قصيدة النثر.

ولعلّ السّبب الرئيسي في خيبة قصيدة النّثر يعود إلى بداياتها فقد لبست جلباب الخاطرة بل امتصّتها وصار كتّاب الخاطرة يقدّمون إنتاجهم على أساس انّه شعر يستحقّ الدّعوة إلى الأمسيّات الشّعرية فأصبحنا لا نقرأ ولا نسمع خاطرة واحدة.أليست الخاطرة في ظاهرها من النثر وفي باطنها من الشّعر؟

سبب آخر عطّل نموّ قصيدة النّثر هو مبادرة روّادها بإعلان عداوة لما سبق وإهدار طاقات البحث في حرب وهميّة شعارها ضرورة قتل الأب وهو في اعتقادي خطأ قاتل ارتكبته قصيدة النثر فمشت مباشرة إلى هدم ديوان العرب متمثلا في القصيدة العمودية، النمطية، الكلاسيكية، القديمة، الرجعية، المتخلّفة، الساكنة، الصمّاء. وكلها تُهم لم تنجح قصيدة النثر لا في إثباتها ولا في إقناع العرب بها. وقد بيّن نور الدين بوجلبان هذه المسألة وناقشها مع أنسي الحاج في كتابه"لن". حيث يضع الحاج الهدم شرطا أساسيا لقصيدة النّثر.وما كل هدم يفضي إلى بناء.وهنا نطرح سؤالا جوهريا: لماذا سعت قصيدة النّثر بكلّ غباء، إلى هدم قصيدة التفعيلة وهي تعرف مسبقا أن العرب لن يسلّموا ديوانهم بهذه البساطة؟ ألم تكن قادرة لوحدها على أن تنحت كيانها وتفرض نفسها بالاعتماد على نفسها؟ ألم تحمل كفنها على أكتافها مكان الفأس الذي ستحفر به قبر شقيقتها.

أما القول بأن قصيدة النثر مشروع ثوريّ ينتصر للشّعوب الكادحة فهو كلام ساذج يجعل من القصيدة حزبا سياسيّا يقوم على نفي الأحزاب الأخرى لا على برنامج خاص. فكانت النتيجة ان النّكبات التي عاشها الوطن العربي حملت الشّعراء إلى تحديث مجالات الكتابة وتغيير مواضيعها فبرز درويش والبرغوثي الأب والابن، الجخ، الوهايبي، أولاد أحمد وكثيرون آخرون. ولم يبرز في الشقّ الدّعائي إلا نفر قليل جدّا.

وتدعي قصيدة النثر أنها حرّرت الشّعراء من القيود التي تكبّل قصيدة التّفعيلة، وفي الحقيقة أن قيد الوزن وهمي لأن عدد البحور الــ 128 (ولا 16 فقط وقد وضّح ذلك الدكتور مدحت الجيّار) يبيح حرّيات كثيرة لا حرية اختيار بحر واحد. أما الشّروط الأخرى التي تفرضها اللغة من إعراب وصرف ونحو فهي شروط مشتركة تهمّ كل الكتابة بل يمكن القول ان القيود المفروضة على قصيدة النثر أكثر من تلك المفروضة على قصيدة التفعيلة لأنه يجوز لكاتب هذه الأخيرة ما لا يجوز لكاتب النثر.ولعلّ الشروط الأربعة (الوحدة العضوية، الإيجاز، التوهج، المجانية) التي حدّدها أنسي الحاج في كتابه "لن" عصيّة على أغلب شعراء قصيدة النثر. بل لم يستطع أن يوفّرها واضِعُها في كتابه حسب ما أورد نور الدين بوجلبان بالحجة في كتابه قصيدة النثر وانبناء الشعرية.

ومثلما الحلال بيّن والحرام بيّن فإن الشّعر واضح بصوره وبمعانيه لا بشكله.لأنّ الشعر أنماط لا يمكن حصرها إذا ما نظرنا إليه من باطنه.ولأن الشعر أكبر من أن يحبس نفسه في تعريف يتيم.

 

المولدي فرّوج

 

 

في المثقف اليوم