أقلام ثقافية

نهاد الحديثي: نحتفي بعظمائنا ومبدعينا بعد موتهم!؟

بدعوة شَرف من المكتب الخاص للدكتور حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق ورئيس إئتلاف النصر، إلتئم بمنزله الكريم (70) كاتبا وأديبا ومثقفا وفنانا وناقدا وأكاديميا، ونَقل الدعوة لمجموعة (70)، الرجل  الإنسان الدكتور سلام الزبيدي، وقال، إنها جَلسَة أسبوعية مفتوحة، وتعقد بشكل دوري للنُخب المُجتمعية في العراق الحبيب، وكنت أحد ال (70) ..

و(إهتز قلبي) لكلمة الدكتور العبادي الترحيبية من فرط جمال الكلمات وعذوبتها، ومن فرط الموضوعية التي تحدث بها أمام مجموعة (70)، وملخصُها الثناء على الدور الكبير الذي يقوم به الكاتب والأديب والمُثقف والفنان والناقد والأكاديمي في دعم المُتغيرات والإصلاحات التي يشهدها العراق في جميع مناحي الحياة، و(حشى فوهة المدفع بالإطلاقة الصحيحة) حين أكد، أن أي بُنية للنظام السياسي لا يُمكنها الصمود من دون بُنية ثقافية، وغاص أكثر حين قال، أن الأدب يُمثل تأريخ ثقافة الشعوب كونه يُعزز الوعي بالهوية الوطنية ومواجهة التحديات الفكرية والإجتماعية التي يَمر بها العراق ..

وحديث الدكتور حيدر العبادي هذا صحيح مئة بالمئة حين قال: عندما نقول أن بُنيتنا ديمقراطية، فقَيم الحُرية والمسؤولية والعدالة هي البُنى الأساس لضمان كون النظام ديمقراطيا وعلى السِكة السليمة، ونشاطره الرأي حين ذهب بعيدا وهو يؤكد، أن هذه هي مُهمة الأديب الذي تقع عليه مسؤولية ذاتية، وأن يَخلص في تحمل المسؤولية كونه يقع عليه دورا مُهما في إصلاح المُجتمع والدولة ..

إستبدل (قلبي إهتزازه) ب (إهتزاز الجَسد) بأكمله، حين طرَّح بعض أركان مجموعة ال (70) المأساة التي يواجهها الكاتب والأديب والمُثقف والفنان والناقد بوصفهم الأداة المُهمة لإحداث التغيير الإجتماعي والسياسي، وعاد (قلبي) من جديد لِيشارك (إهتزاز الجَسد)، حين أتاح الدكتور حيدر العبادي فُرصة للنقاش المفتوح حول سُبل دعم المشهد الثقافي في العراق، بما في ذلك تحسين فُرص النشر لِلكتاب وتطوير منافذ الأدب والمساحات التي ينشط فيها، حتى (هاجم أصحاب النقاش)، الذي كان يُديره بعناية وحكمة شديدتين الزميل الأنيق سعد اللامي، على الدكتور العبادي بأراء وأفكار كانت مضامينها حزينة لكنها كانت موضوعية جدا، وكنت قريبا من التوقع من أن الدكتور العبادي سيمتعض لكن توقعي هذا لم يكن في محله، حينها تخلَّص (القلب) و(الجسد) من (الإهتزاز)، وصارا مُستقرين تماما حين راح الدكتور العبادي يزيح الحُزن والألم من (صدور المُهاجمين) وهو، يرد على نزالاتهم بموضوعية الفارس الشُجاع وحكمته في كيفية تخطي الصِعاب من خلال إيجاد الحلول المُناسبة لها، وتلك هي مواصفات الرجل  الإنسان الذي يُشجع على النقد الموضوعي، حتى صار مُقترحي الذي قدمَّته للدكتور العبادي يحظى بقبوله وقبول مجموعة ال (70)، ويقضي المُقترح هذا بتشكيل (مجلس لدعم الثقافة العراقية)، ويستهدف دعم الكاتب والأديب والمُثقف والفنان والناقد، وتبني نتاجاتهم الفكرية كونهم الأكثر تأثيرا في إحداث التغيير الإجتماعي والسياسي الموضوعي بحسب الدكتور العبادي، والهادف إلى تحقيق المصلحة العامة، وتعزيز المسار الديمقراطي من خلال وضع الإستراتيجيات وخطط تطوير الأداء، وتقديم الأفكار الإبداعية، وتفعيل التواصل والعلاقات بين بين الجهات المعنية، والإسهام بطرح مُبادرات مُنظمة في مجالات الأدب والثقافة والفن المُشتركة بما يخدم العراق، وذلك هو الهجوم الموضوعي الذي بدأه صانع الحياة الأديب الأريب شوقي كريم، وخَرَج منه سالما وهو، يتلقى ثناء الدكتور العبادي وشُكره وتقديره له على موضوعية طرحه ..

يومها تذكرت (الطركاعة) (إللي طاحت) على شوقي كريم حين كان قد هاجم (صدام) في عقر قصره مُنتقدا بذات الموضوعية، وقادته من (القصر الجمهوري) هذا، المُستبدل بمقترح صهيوني منذ اليوم الأول من أيام الإحتلال الأمريكي للعراق ب (المنطقة الخضراء)، إلى السِجن ليقضي فيه بضعة من سنوات الشباب، وتذكرت يومها (جماعة تضاد) التي أسست في زمن النظام السابق، وكان شوقي كريم أحد أركانها ..

وفي الختام أسال، هل تكون مجموعة ال (70) صنوا او بديلا ل (جماعة تضاد)، مع ملاحظة أن هذا السؤال قد يُؤوقنا ويربكنا، وقد يجعلنا نستعظم، نحن شريحة الأدباء، حجم المُهمة الفلسفية الموضوعية  العسيرة المُلقاة على عاتقنا في إحداث التغيير الديمقراطي ووضعه في الإتجاه الصحيح بدلا من (التغليس السياسي) القائم منذ (23) عاما، وما زالت أركان (التغليس) تتصايح (أشتردون بعد طمينة الدكتاتورية .. وجبنالكم الديمقراطية) ..

وفي هذا السِياق كان ذلك (التغليس) أحد أسباب مُهاجمة المجتمع للنظام الديمقراطي القائم، والسعي لمحاكمته كما لو أن البعض ينصبون أعواد المشانق من دون محاكمة موضوعية، ولم يعوا أن (الموضوعية) ونقودها هي عكس (الأنا  الذات) مُتناسين أن (الموضوعية) هذه مُعززة للوعي المُجتمعي، وإن التخلي عنها، وعن الفكرة، تبتعد عن الإدراك الحسي لفهم حقيقة ما يجري من حولنا وما يدور في الفلك السياسي ..

اِن ظاهرة تكريم المبدعين وذكر خصالهم الحميدة بعد موتهم لم تكن حكراً على الثقافة العربية، إنما هي عقلية عربية، فالموت عند الإنسان في الثقافة العربية يرتبط بالكمال، وعليه أعتقد أن هذه الامتدادات التراثية أثرت على السلوك الثقافي وهو أننا لا نحتفي بالتجارب إلا إذا مات صاحبها، وهذا الأمر يجب تجاوزه من خلال إعادة علاقتنا

يتعرض الكثير من المبدعين ممن قدّموا خدمات جليلة لأوطانهم للإهمال والنسيان وبخاصة في أواخر أعمارهم، فيعيشون الفاقة والفقر أحياناً، أو المرض في أحيانٍ أخرى وكأنهم نسيٌ منسي، بعد أن ذبلت سنيّ أعمارهم على طريق خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم

سمعنا خلال السنوات الماضية  الكثير من القصص لمبدعين لم يأخذوا حقهم من الاهتمام، بل إن بعضهم لم يجد ما يسد رمقه أو علاج مرضه، ولم تلتفت لهم المؤسسات الثقافية العربية أو المسؤولين، وهذا يشكل نكراناً لجهودهم وخدماتهم.

يقول أحد الكُتّاب: “نحن نجوّع الرموز والكتاب والشعراء حتى نقتلهم جوعاً وغبناً، ثم نحتفي بهم بعد موتهم ونضع صورهم على العملات ونسمي الشوارع بأسمائهم، ونقيم المهرجانات التي تصرف عليها الملايين وتستفيد منها فئة معينة”، وعلى الأغلب لا يتم ذكرهم أو تكريمهم والاحتفاء بهم، إلا بعد موتهم، وهو ما سماه بعض الكُتّاب ب (التكريم القاسي) أو التكريم (بعد فوات الأوان)، وكان رحيل هؤلاء المبدعين منبهاً أو صحوةً أعادت لنا وعينا فاكتشفناهم ولم نكن نفطن لوجودهم بيننا، أو كنا نتجاهلهم، بل هم مبدعون لهم آثارهم التي عُرِفوا من خلالها.

وفي مكان آخر يقول كاتب آخر: “كلمة مديحٍ لي وأنا على قيد الحياة خيرٌ من ألف كتابٍ يُكتب بعد موتي، ولكن للأسف يكرّم المبدع بعد موته فأين نحن منه في حياته”. وكأننا في حالٍ كهذا نقول له: أيها المبدع العربي الكبير، إننا ننتظر موتك لنقوم بتكريمك والاحتفاء بك، ولكنك ستبقى مهملاً لا أحد يهتم بك وأنت حي، وكأني بلسان حال الفقيد يقول:

لأعرفنك بعد الموت تندبني

في حياتي ما زودتني زادي

*

فإن حييت فلا أحسبك في وطني

وإن مرضت فلا أحسبك عوادي

إن تكريم المبدع العربي في حياته يرفع من شأنه أمام مجتمعٍ يعرف به أبناء وطنه أكثر فأكثر ويزداد إبداعاً، والمبدعون في جميع المجالات بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية، يمثل التكريم بالنسبة لهم اعترافاً من المجتمع بإبداعاتهم، والاهتمام بالمبدعين في حياتهم يعطي صورة عن احترام الأمة ثروتها البشرية واعتزازها بحاضرها من أجل بناء مستقبلها، كما أنه يمثل صورةً إيجابيةً للأجيال اللاحقة لتشجيعهم على الإبداع والتميّز، أما إهمال هذه الفئة فإنه يمثّل تجاهلاً للجهد الذي قدّموه وعدم الوفاء لتاريخهم الإبداعي وسنوات عمرهم التي أفنوها في سبيل خدمة وطنهم العربي ومجتمعاتهم.

د. رحيم هادي الشمخي

تكريم المبدعين ظاهرة ثقافية وسلوك حضاري في حياة أي مجتمع كونه يحفز ويحافظ على التوازن الفكري والنفسي للنخب المثقفة من شعراء وأدباء وفنانين تشكيليين، غير أنه وبحسب ما تمليه ذهنيات تأبى التغيير ولا تريد تخطي أشياء ما عادت نافعة ولا لائقة سواء لشريحة المبدعين أو للحراك الثقافي ككل، وهي متفشية في الوطن العربي، لا يعترف بالمثقف والمبدع إلا إذا تمدد في قبره وتأكد أنه لن ينهض أبداً... عندها يفزع الكل ويجري أولو الأمر من مسؤولين وقائمين على الشأن الثقافي لإقامة احتفاليات التكريم وتنظيم الملتقيات والندوات على شرف رحيل المبدع، فكأنما يعربون عن فرحتهم بمغادرته الحياة وتخلصهم منه...

وإن كنا لا نعارض تكريم المثقفين الراحلين لما يحمله من عرفان لأعمالهم وما أضافوه للحقل الثقافي والمعرفي، فإننا نتساءل مع جل المثقفين والمبدعين: متى نقلع ونكف عن هكذا حرمان وتنكر وتجاهل للمثقف فقط لأنه موصوم بالحياة ويعاني من شبهة الحاضر ونجري لتبجيله والاحتفاء به فقط لأننا تأكدنا أنه ما عاد هنا... مات وغاب عن الوجود؟

لقد سمعنا خلال السنوات الماضية  الكثير من القصص لمبدعين لم يأخذوا حقهم من الاهتمام، بل إن بعضهم لم يجد ما يسد رمقه أو علاج مرضه، ولم تلتفت لهم المؤسسات الثقافية العربية أو المسؤولين، وهذا يشكل نكراناً لجهودهم وخدماتهم.

وللأسف الشديد فالرموز والكتاب والشعراء نقتلهم جوعاً وغبناً، ثم نحتفي بهم بعد موتهم، نسمي الشوارع بأسمائهم، ونقيم المهرجانات التي تصرف عليها الملايين وتستفيد منها فئة معينة، وعلى الأغلب لا يتم ذكرهم أو تكريمهم والاحتفاء بهم، إلا بعد موتهم، وهو ما سماه بعض الكُتّاب ب (التكريم القاسي) أو التكريم (بعد فوات الأوان)، وكان رحيل هؤلاء المبدعين منبهاً أو صحوة أعادت لنا وعينا فاكتشفناهم ولم نكن نفطن لوجودهم بيننا، أو كنا نتجاهلهم، بل هم مبدعون لهم آثارهم التي عُرِفوا من خلالها. وكأننا في حالٍ كهذا نقول لهم: أيها المبدعون العرب الكبار، إننا ننتظر موتكم لنقوم بتكريمكم والاحتفاء بكم، ولكنكم ستبقون مهملين لا أحد يهتم بكم وأنتم أحياء.

اِن ظاهرة تكريم المبدعين وذكر خصالهم الحميدة بعد موتهم لم تكن حكراً على الثقافة العربية، إنما هي عقلية عربية، فالموت عند الإنسان في الثقافة العربية يرتبط بالكمال، وعليه أعتقد أن هذه الامتدادات التراثية أثرت على السلوك الثقافي وهو أننا لا نحتفي بالتجارب إلا إذا مات صاحبها، وهذا الأمر يجب تجاوزه من خلال إعادة علاقتنا بالحياة إلى مجراها الطبيعي وأن نكون أبناء الحياة وإذا جاء الموت كنا أبناء الآخرة، أما أن نكون أبناء الموت قبل أن يأتي ونكون سفراؤه بالحياة وهو لم يكلفنا بذلك أمر غريب وبشع، بالمقابل لا يمكن أن نقول عن التكريم سوى أنه تقليد طيب مهما كانت نوايا القائمين عليه لأنه يدخل في ثقافة الاعتراف وعليه لابد من تكريسه في مشهدنا الثقافي والسياسي والاجتماعي والإعلامي، علينا أن تكون لنا الجرأة وأن نعترف بالتجارب الجيدة والجادة مهما كانت حتى وإن لم توافق مزاجنا الفكري، وعلينا أن نعترف بالجيد حتى نخلق نوعاً من التراكم والإمداد والتواصل.

ولا يختلف كثيراً عما يحصل حالياً مع بعض المبدعين وأصحاب الفكر، والذين يعمون أعينهم تحت وطأة ضوء خافت لتأليف كتاب تاريخي وثائقي مهم أو للكتابة عن أديب يستحق الوقوف عنده، وتفنى عظامهم على بسط يتيمة ترسم نقوشها على أجسادهم ثم يموتون عليها ويدفنون تحتها دون أن يدري أحد بهم أو يعيرهم أدنى اهتمام.

وفي ظاهرة غريبة نسمع أن فنانين ومبدعين عرب كرموا في الخارج بدول عربية وأوربية بينما يقومون بدور مزمار الحي الذي لا يطرب ببلدهم... و إذا أتينا لمعاناة الأدباء والكتاب نرى المشكلة أكثر تعقيداً وأشد إيلاماً، فربما تكون مقولة أن القارئ هو من يمنح الكاتب انتشاره صحيحة، حينما يتم الترويج لهذا الكاتب بالشكل الذي يستحقه. أمّا حجة أن شعبنا العربي لا يقرأ في زمن تغلبت فيه الصورة على الكتابة ليست دقيقة، بل إن صحوة ثقافية تسود مجتمعنا بعد ابتذال الصورة وعدم تعبيرها. كما لن نقول إن الأدب الأصيل اللافت للانتباه ذهب مع الريح، بل يجب أن نسأل كيف لأديب يفترش البساط ويلتحف السماء أو السقف القرميدي أن يحقق انتشاراً لرواياته ويوزعها بآلاف النسخ وبتكلفة باهظة حتى يُعرف، وهنا تبرز مسؤولية الحكومات العربية وغيرها في البحث عن المبدعين، وتكريمهم بتحويل كتاباتهم إلى أعمال سينمائية ودرامية تلفزيونية.

اِن التراجع والانحسار الذي حدث على المستوى الثقافي العربي، جعل المثقف في حالة يرثى لها، نحن مصابون بالانكسار، كل ما في واقعنا يسيطر عليه أشباه المثقفين الذين يتيوؤون مناصب في مجالات مختلفة في هذه الحياة لا سيما في مجال الإبداع الثقافي، المثقف عندما يصاب بالترف الفكري أي يصبح لديه كماً معرفياً وحشداً للمعلومات في مخيلته وهذا الترف يستخدمه للممارسة اليومية للتعبير عن هموم شعبه وعن محيطه، وإن لم يستطع أن يعبر عن ذلك فهو يمتلك آلة تعطيل الحركة والتفاعل والحيوية والتواصل ويمتلك من القدرات، آلة التآمر لجعل المثقفين الحقيقيين في موقع هامشي، لأنه يخشاهم وهو يعرف أنهم الأحق بمنصبه وأنهم الحق في أن يتبوؤوا المكانة التي يستحقونها في وجدان الأمة، حين نقول إننا متخلفون فهذا ليس وصفاً شعرياً، إنما نمط علاقة الناس فيما بينهم لأننا لسنا منفتحين على العالم وعلى ذواتنا، وحين نتكلم عن الأمراض والأوبئة التي تعشش بدواخلنا فإني لا أحمّل الناس مسؤولية ذلك إنما أحمّل الأزمة الشاملة التي تمر منها الأمة العربية، ولهذا أقول إن التكريم الذي يأتي بعد الموت يعتبر انتقاصاً من قيمة المبدع، ولا يقدم هذا التكريم أي إضافة للمكرم الراحل، لأنه في حكم الغائب ولا يرى ولا يحس بطعم ولذة تكريمه لا من بعيد ولا من قريب.

فالمبدع إجمالاً يعيش حالة انهزام مستمرة وحنين دائم إلى وطنه وإلى حالة مجتمعه، فهو يحتاج إلى مساعدة ومساندة الآخرين له، وحالة المبدع في الوطن العربي تنذر بالخطر إذ هناك من لا يتوفر على على قوت يومه ويستدين أموالاً حتى يتمكن من الاستمرار في هذه الحياة، وهناك الكثير من الحالات التي تعاني من ضيق العيش وتحيى حياة الضنك والفقر، رغم أن المبدع يفرط في صحته ويستهلك طاقته ويتآكل داخلياً، كل ذلك في سبيل إنتاج مادة فكرية تستعمل كمرجع يستمد منه حلولاً لتساؤلات تطرحها التنمية البشرية والاقتصادية…

في محاولة منه لتبيان أننا لا يجب أن نحيل واجب التكريم والجزاء إلى اللاهوت، بل يجب أن نبدأه نحن. وأنا أقول: (ما أجمل أن ينال العظام الخلود الذاتي قبل موتهم أيضاً، وحينها لا بأس من الأسف عليهم بعد وفاتهم لا بسبب تقصيرنا نحوهم بل لفقدانهم فحسب).

عندما اشتد المرض على الدكتور علي الوردي وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره أرسلت له دعوة لتكريمه في أحد النوادي الأدبية أو الثقافية -وهو المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي المعروف- فاعتذر بهذا البيت «لأبي فراس الحمداني»:

أَتَت وَحياض المَوت بَيني وَبَينَها

وَجادَت بِوصل حَيث لا يَنفَع الوَصل!

نعم يا وطن.. فلا بعد الموت تكريم، ولا بعد المرض عرفان، وسيكون من اللائق جداً أن يكرم المفكر والعالم والمبدع ورجل الدولة في أوج عطائهم كمحرك لتطور الوطن بتطور مبدعيه وتحفيزهم ودفعهم إلى الأمام، فاجعلوا التكريم مرتبطاً بالحياة لا بالموت.

أعلان رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني ، توقيع محضر عقد مع شركة مصرية لتشييد مدينة "علي الوردي" السكنية الجديدة، جنوب شرقي بغداد، وفيما وصف المشروع بأنه "الأكبر" بين مشاريع المدن الخمس,, واطلاق اسم الفنان الكبير فائق حسن على المجسر الجديد ببغداد فعل من أفعال التخليد , تحسب لصالح حكومة السيد السوداني،كذلك قامت الحكومة المحلية في البصرة بإطلاق اسم الاديبين محمد خضير وكاظم الحجاج، على شارعين في المدينة، ولا يقع تمثال الشاعر موفق محمد في بابل خارج التفكير العملي هذا، الذي يقضي ببعث الروح الوطنية، عبر قناة الثقافة في ضمير الشعب التي مزقتها الاديان والمذاهب والطوائف والحروب بالنيابة وغيرها

يفرحنا جداً حين يكون قادتنا بهذا الوفاء , ويؤسفنا جداحين لم يبادر أي مسؤول في الدولة ولا الوزير المعني طيلة السنوات الماضية لجعل تكريم المبدعين في مجالاتهم من أولويات سياستنا الداخلية فلطالما سمعنا عن تكريم فلان بعد وفاته، وهذا لا يتفق إطلاقاً ومبدأ الوفاء والعرفان لمبدعينا من أدباء وشعراء ومفكرين وموظفين في كل القطاعات، فأتساءل دائماً لماذا لا يتم تكريم المبدعين وهم أحياء؛ بل وفي عز عطائهم وليس بعد أن يبلغوا من العمر عتيا. حتى أصبح لسان حال البعض أن لا يأتي ذلك اليوم الذي أُكرم فيه لارتباط هذا اليوم بالموت أو أرذل العمر في أحسن الأحوال وكأن المرض أو الموت يوقظنا من غفلتنا عن تقدير هؤلاء والاعتراف بعطائهم,, لقد صدق أوغست كونت حينما قال: (الرجال العظام ينالون الخلود الذاتي بعد موتهم عن طريق تكريم الأجيال المتلاحقة لهم) إلى متى نبقى لا نعرف قيمة عظمائنا، إلا بعد أن نفقدهم ولا نحتفي بالعظام إلا بعد موتهم؟ أما التكريم ما بعد الموت فإنه وفاءٌ متأخر, لذلك نرى أنه من الضروري من القائمين على الهيآت الثقافية والفنية في العراق , وربما, الوطن العربي أن يهتدوا إلى تكريم المبدعين قبل أن تغلق جفونهم ويغادرون عالم الأحياء ويلتحقون بعالم الأموات لأنه حينها لا يجديه التكريم نفعاً ولا ضراً، فالتكريم بالنسبة للمبدع وهو حي يزيد من قيمته ويضاعف أعماله وطاقته مما يمكنه من مواصلة إنتاجه وعطائه. فمن المهم تخليد العلماء والمبدعين الذين رحلوا من خلال تسمية الشوارع والساحات والمدارس والمؤسسات بأسمائهم، من أجل تخليدهم واستذكار منجزهم الإبداعي لتشجيع الشباب على اقتفاء آثارهم في التميّز والإبداع، لكن الأهم من هذا كله الاهتمام بهم في حياتهم والحفاظ على كرامتهم، وتوفير العيش الكريم لهم وفاءً لما قدّموه, من المهم تخليد العلماء والمبدعين الذين رحلوا من خلال تسمية الشوارع والساحات والمدارس والمؤسسات بأسمائهم، من أجل تخليدهم واستذكار منجزهم الإبداعي لتشجيع الشباب على اقتفاء آثارهم في التميّز والإبداع، لكن الأهم من هذا كله الاهتمام بهم في حياتهم والحفاظ على كرامتهم، وتوفير العيش الكريم لهم وفاءً لما قدّموه, إلى متى نبقى لا نعرف قيمة عظمائنا، إلا بعد أن نفقدهم ولا نحتفي بالعظام إلا بعد موتهم؟

تختلف الشعوب على الزعامات السياسية، وتزداد نسب الحب والكراهية بين شخصية وأخرى، وبين نقطتي اليمين واليسار يتأرجح كثيرون، ممن اختلفوا على هذا وذاك، وهو امر طبيعي في السياسة، وفي الاقتصاد ربما، وباقي مفاصل الحياة المادية، لكنها لا تختلف على قيم الفن والجمال والشعر والموسيقى، فهذه أدوات محايدة، لا تؤثر فيها الميول ولا الاتجاهات، ورأينا خلود امرئ القيس والمتنبي والجاحظ وناظم الغزالي ومائدة نزهت ووو في ضمائرنا، ولم تنل من بريق اسمائهم وافعالهم تقاطعات الحياة، ولا بنادق المحتربين. كان وزير المستعمرات البريطاني يقول:" بأن حكومة جلالة الملكة اليزابث فخورة بانها تصدر الى العالم أرقى المكائن والمعدات ومعها شكسبير".

ربما يرى البعض بأننا لم نخلق في ثقافتنا وأدبنا من الاسماء الى ما يرقى الى الافعال تلك، وأنَّ ثقافتنا عاجزة عن استيعاب مثل هكذا تسميات في شوارعنا وساحاتنا العامة، وهو قول مردود، لا قيمة له، ذلك لأننا لم نسوّق مثقفينا كما يجب، وأنَّ أسماءهم واعمالهم تم تجاهلها بفعل ممنهج وقصدي، لصالح كل ما هو ديني وطائفي ومذهبي ومحترب في حياتنا، إذْ لم تأخذ الاسماء التي فرضتها على أعيننا بعضُ الجهات أهميتها وشيوعها من كونها فاعلة، ومؤثرة في الحياة، لكنَّ الاصرار على وجودها هناك هو الذي منحها حق الشيوع والتسيد. هناك العشرات والمئات من الصور التي تصادفنا يومياً ولا نعرف تواريخ ومنجزات أصحابها، ولم نقف على شيئٍ عن أعمالهم، لكنها لم تكن لتوجد وتكتسب شرعية وجودها خارج الرافعات الدينية والطائفية التي تقف وراءها.

نعلم أن وجود أمثال هؤلاء هو وجود آني، مرهون بوجود القبضة الحديدية التي تفرضهم، وأنَّ البقاء للأصلح، كما تقول القاعدة الحياتية، إلا أنَّ ذلك يضرُّ بمصلحة البلاد، ويبقي على الكراهية والبغضاء في النفوس، لأننا مجتمع متعدد الطوائف، ومختلف المشارب والاهواء، وعدد الذين ينشدون الحياة فيه يفوق عدد الذين مازالوا يرددون نشيد الموت، وسنن الوجود ترجّح كفّة الصفح والعفو والعيش الآمن المشترك. ذات يوم ستنتهي الحاجة الى أمثال هؤلاء، فلماذا نضع العصيَّ بعجلة التحول والتطور الانساني والمديني، لماذا لا نقدم رموزنا التي لا يختلف عليها أحد، بدلاً عن الرموز المختلف عليها عقائديا وطائفيا؟

لا يستجيب الجنديُّ السنيُّ لنداء من يقول: دافعوا عن وطن جعفر الصادق، ومثله لن يستجيب الجندي الشيعي إذا سمع نداء يقول: دافعوا عن وطن ابي حنيفة، لكنهم سيدافعون مشتركين، ومن خندق واحد إذا سمعوا نداء يقول دافعوا عن العراق! لم نسأل ونحن طلاباً عن هوية الاب الكرملي ومعروف الرصافي والزهاوي و الكاظمي والجواهري والسياب ونازك الملائكة... ممن صنعوا ثقافتنا والجانب المشرق من هويتنا، ولولا النبش القميء الذي قام به زعماء حروب الطوائف لما عرفنا عن معتقداتهم شيئاً. في المدن التي نزورها نقرأ اسماء ادبائها وموسيقييها وفنانيها في لوحات التعريف بالشوارع والساحات، فكانت مدعاة لنا للبحث عن نتاجهم في مشغل الجوكل، وكثيرا ما نقع على الجميل والعظيم من كتبهم ومؤلفاتهم، ترى على ماذا سيقع المتصفح العراقي إن بحث عن عشرات الصور المعلقة في شوارعنا اليوم؟

***

نهاد الحديثي

 

في المثقف اليوم