أقلام ثقافية

علاء البغداديّ: نَحنُ والأمكنة

غالباً ما يراودنا الحنين إلى الأمكنةِ التي تركت في داخلنا أثراً ما..

أثرٌ أقربُ ما يكون إلى ذكرى جميلة، عَصيّة على مغادرةِ الذّاكرة..

ذكرى تبقى مطبوعة في لمساتها الأخيرة على جدار الذّكريات..

وعندما نستدعي حضور الأمكنة عبر الذّاكرة، نشعر كما لو أنّنا نستعيد ملامح إنسان أثير لَدينا..

فالمكان المطبوع في ذاكرتنا والمتوغّل عميقاً في مجرى الشّعور، يقارب في ملامحهِ أو يقترب من ملامح الإنسان..

فطالما دفعنا الحنين لرؤيةِ أمكنةٍ باتت في عداد الذّكريات وأضحَت محضُ ذكرى، تنمو جماليّاً بمرور الزّمن، وتأخذ شَكلاً مغايراً، له نكهة ورائحة ولون لم يكن يتوافر عليها المكان في أوّل عَهدنا به.

ما مبعث تلك التّغيّرات التي حَدَثَت في مجرى الشّعور؟ فالمكان لم تُجرِ على ملامحهِ تبدّلات، بَقيَ كما هو في الذّاكرة، ولكن بقي الحنين إليهِ يزداد بإطراد، تتضاعف وتيرته كُلّما طوى الزّمن مسافة خلاله مروره، تاركاً جمرة الحنين تَتّقد..

ما علاقة الزّمان بالمكان؟ أيّةِ وشيجةٍ تصل بينهما؟

المكان كما يتراءى لنا مخلوقاً قائماً بذاته، مخلوقٌ كما نحن، مشدودٌ لجذورهِ أكثر مِنّا..

هل سمع أو رأى أحد ما مكاناً غادر مكانه!

الأمكنة لا تغادر أمكنتها ولا تستطيع أن تتحرّر من مكانها، مستأنسة في عزلتها، وربّما تأمّلاتها السّرمديّة، ولكن كيف تُلقي بظلالها عَلينا؟ بتأثيرها؟ بالحنين؟ بالتّوق إليها؟ كيف أفلحت في تبديل مشاعرنا حيالها؟ ما صلتنا نحن بالمكان، ذلك المخلوق المُحايد؟!

إلّا إذا أعددنا المكان كما نحن بوصفه روح، فنتبادل التّأثير فيما بيننا..

لا أستطيع أن أخال المكان بلا روح، وإلّا بماذا أُفسّر أو أسوّغ إنشدادنا إليه إن لم يكن يملك روحاً؟ روح كانت تفيض عَلينا بجمالها وحنينها ومؤثّراتها.. وعندما نُغادرها في وقتٍ ما، تبقى ذكراها مطبوعة في الدّاخل تلازمنا.

لو كانت الأمكنة خالية من الرّوح أو بلا إحساس أو لاتملك وجدان فَلِمَ نتوقُ إليها؟

رُبّما ينبري أحد ما ويقول: الأمكنة لا تملك أيّ شيءٍ من الذي ذكرت، وإنّما أنت تُضفي إليها من عنديّاتك ما ليس فيها.. هل بوسع مشاعرك أن تنجذب لأمكنةٍ لم تَرها أو تعش فيها؟

الجواب: لو لا المكان لما كانت الحياة ولا الذّكريات ولا المشاعر والجمال، نحن خارج المكان عَدم، المكان هو من يُضفي على وجودنا معنىً جَماليّ..

الجمال الذي نتحسّسه هو نتاج المكان، فالأمكنة لا تموت ولا تغادر، نحن من يَرحل ويتحلّل وربّما يغدو جزءاً حميماً من المكان عبر تحوّلات عضويّة تصيب الجسد، وربّما نغدو حجراً أو شجراً أو عشباً طافياً على سطح مياه ما..

وربّما كُنّا نحن جزءاً من مكانٍ ما في سالف العصور، وما حنينا إلّا توقٌ إلى جزئنا الذي تركناه هناك يمرّ بتحوّلات الزّمان.. جزئنا الذي تركته الرّوح القديمة، التي عادت إلينا ولكن بملامحٍ مغايرة..

 الأمكنة لا تموت، فما زالت الكهوف شاخصة، ماثلةٌ للعيان..

مات الإنسان وترك آثاره على الكهوف التي لن تموت أو تبرح مواقعها..

***

علاء البغداد - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

 

في المثقف اليوم