أقلام ثقافية

شمس الدين العوني: عن تجربة الفنان الفوتوغرافي أمين بوصفارة

ها هي اللحظة بكامل بهائها حيث يقبض الحالم.. بنظرة طفل على جمرة شؤونها وشجونها في غفلة من الزمن قولا بالبهاء الكامن فيها من جمال وقسوة وأمل وشجن في حالة من والحب والحيرة والأسئلة الفاتنة.. انها فتنة الصورة وهي تحاور الأشياء والعناصر والتفاصيل نحتا للسيرة والدواخل حيث للأمكنة والجهات والمعالم والمشاهد والكائنات ومختلف العوالم تلك الأسرار التي بها وفيها واليها يبوح القلب بما يعتري شواسعه ذهابا تجاه العميق من الأشياء والدال عليها..

هكذا هي اللعبة الفنية مع الصورة التي هي حالة قنص وحوار مع الزمن  لابراز الأهمية والجميل والبشع بكثير من صدق اللحظة وما يعتريها من انشائية ممكنة قولا بجمالية أخرى تقترحها الآلة التي تطلب وهنا النظر بعين القلب لا بعين الوجه لتقول بالنهاية تلك الصورة ما يخطه المبدع بل أكثر فهي تغني أحيانا وأكثر هذه الأحيان عن الكلام.. والكلمات.. الصورة أبلغ من النص..

من هنا نمضي مع تجربة في مجال الفن المتصل بالصورة والفوتوغرافيا حيث القول بالمكان والمعمار وما به تتسع الذاكرة وهي تفصح عن المهمل والمتروك والمهمش والبهي الذي لم يعد موجودا ليخلف الحسرات بفعل اللامبالاة والاهمال لتتعدد هذه المعاني تجاه الأزقة والأحياء والعمارة والأمكنة والمشاهد والشخوص و.. وغيرها وكل ما دل ويدل على شيئ من أحوالنا الشتى..

انها الصورة بأهمية ما تخطه لتقترح علينا نصوصها من سرد وشعر وتوثيق وتأريخ.. بابداعية وحلم وحنين وغناء لا ينتهي معه العزف والنزف.. هي الصورة حيث العين الدالة الى ثيماتها تقود الفنان الى ما غفل عنه القوم.. الى جوهر الأشياء في كثير من الحب.. حب الالصورة والمصور وما هو موضوع تصوير.. هذا الحب الذي هو عنفوان رفعة وسمو للقول بالذات تجترح فعلها الجمالي ولا ترنو لغير ما هو كامن في ذلك على أنه عين من عيون الفن القصر الفسيح عالي الأسوار والحكايات ويطلبه ذلك من مكابدة ودأب واصرار..

و من هنا أيضا نمضي ضمن سياقات الفن مع عوالم الفنان الفوتوغرافي عاشق الصورة وما يحف بها من ممكنات ودلالات.. الفنان أمين بوصفارة الذي يبحث ومنذ سنوات في مجالات هذا الفن عن لعبته المشتهاة مثل أطفال الأحياء متجولا بينها مثل قناص ماهر يتخير مكامن الأهمية في التعاطي مع الآلة لأجل القول بالحالة..

في عمله الفني غوص في تفاصيل الأمكنة حيث المواضيع على قارعة الطرقات يحاورها ويحاوله بما به من دهشة ولوعة وحنين.. وهكذا كانت مؤلفاته المصورة عناوين متعددة لما تخيره طيلة عقود لتكون الثمرة معارض فردية وجماعية ومشاركات في تونس وخارجها وصولا الى الكتاب الأنيق بعنوان " تصور لمصور " الذي يحكي شيئا من قصته الجميلة هذه مع الصورة وفنونها وشؤونها وشجونها..

الكتاب في صفحاته يأخذك الى مجالات شتى من عوالم تونسنا الجميلة بأمزجتها وأحوالها المختلفة ولكن بكثير من حميمية الفن ولحظاته الفارقة وذلك بروح فنان هام بالأشياء يجترح ضمنها حيزا من فكرة الصورة لديه.

فناننا أمين بوصفارة أصيل مدينة المهدية التي شهدت خطاه الأولى في التعلق بالصورة والتصوير منذ طفولته وقد برز عشقه هذا بنادي التصوير بدار الشباب بالمهدية وعمره 12 سنة في عام 1986حيث كانت له تجارب عمل كمصور بخابر التصوير وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي تخير الذهاب والمغامرة في فنون الصورة والتصوير بعد تزايد شغفه بعالم الفوتوغرافيا ليصبح كل ذلك همه وفي كثير من النزوع الى الجمالية والابداع لتبرز في صوره المنجزة تلوينات من حياة الناس والمشاهد والجدران وما علق بها من عبارات دالة وصور وخربشات والمعمار و.. غيرها.

برزت خصوصيات العمارة والمعمار في الأحياء التونسية في صوره وفي هذا الكتاب الفني وخاصة المباني التي شهدها القرن التاسع عشر وما بها من آثار مبتكرة تعود الى فترات المعماريين من ايطاليين ومالطيين وفرنسيين وغيرهم.. صور لجمال عابر وبعضه مقيم حيث الصور التي تكاد تكون الأخيرة قبيل التداعي والاندثار.

أمين بوصفارة فنان خبر عوالم وخفايا وعطور الصورة بما هي مادة قول ووسيلة ذكرى وذاكرة وأيضا شاهدة عصر قدام هذا الخواء والسقوط الذي تشهده الانسانية التي تدوسها العولمة قتلا للخصوصيات والهويات لأجل التنميط حتى يكون الانسان رقما ومتحفا مهجورا..

هذا وقد انتظمت لهذا الكتاب الفني – الكاتالوغ الأنيق للفنان بوصفارة عدة حصص وحفلات للتوقيع بحضور عدد من الفنانين والنقاد والذين هاموا بعالم الصورة حبا وعشقا وغراما وبالنظر لمحتوى هذا الكتاب المتضمن لشيء مهم من ذاكرتنا. ذاكرة العناصر والأشياء..

الأمين طفل شغوف يحمي شغفه بالصورة بهذا الدأب اليومي والانكباب على ما به يتجدد ويجدد من علاقاته المختلفة بالناس والأمكنة والتفاصيل والعوالم نحتا للقيمة وقولا بالفن يعلي من شأن الدلالات..  ودفعا باتجاه رغبات شتى ومنها رغبات الطفولة المقيمة بدواخله كذات حالمة ومسافرة ومقيمة في ذات الآن  حيث الصورة تسطو على الكثير من مساحات الانسان الوجدانية والجمالية والحضارية.

***

شمس الدين العوني

في المثقف اليوم