أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: "كارمن" إشراقة فنية في رحاب المسرح المصري

لا يمكن للمرء أن يعايش لحظة فنية بهية كتلك التي وفقت إليها في مسرح الطليعة، حيث استقبلتنا تحفة مسرحية تذكرنا بأن الفن الحقيقي، ذلك الفن الذي يخترق الأزمان ويعبر الحدود، ما زال ينبت في أرض مصر الخصبة، كالنخلة الشامخة التي تصمد أمام رياح التغيير العاتية. "كارمن"، الرواية الفرنسية التي أبدعها بروسبير ميريميه، عادت إلينا بلغة عربية فصيحة، وكأنها ولدت من جديد في حلة شرقية تليق بعراقة المسرح المصري. 

ما أشد حاجتنا اليوم إلى هذا الالتزام باللغة العربية الفصيحة، لغة الضاد التي كادت تذوي في زحام العاميات والألفاظ الدخيلة! فقد جاءت حوارات المسرحية مشكلة تشكيلا دقيقا، منطلقة من أفواه الممثلين بسلاسة تذهل السامع، وكأنها نقلت من بطون الكتب القديمة إلى خشبة المسرح حية نابضة. فلم نسمع لحنا في القول، ولا زلة في الإعراب، بل سمعنا لغة تغني كما تغني "كارمن" نفسها، لغة تصف العاطفة الجياشة والصراع الإنساني ببلاغة تذكرنا بأسلوب كبار الأدباء. 

أما الديكور والملابس، فحدث ولا حرج! لقد صاغ الفنان أحمد شربي عالما يجسد روح "كارمن" بكل ما فيها من نار وثورة، دون أن يهمل التفاصيل الصغيرة التي تكسب العمل مصداقيته. فكل قطعة في الديكور، وكل ثوب يرتديه الممثلون، كان شاهدا على إخلاص القائمين للعمل. والإضاءة، ذلك العنصر الذي يغفله الكثيرون، جاءت هنا لتكمل اللوحة، فكانت تارة خافتة كهمس العشاق، وتارة حادة كصرخة الغضب. 

ولا يمكن إغفال الاستعراضات التي أبدعتها سالي أحمد، فكانت حركات الممثلين على أنغام الموسيقى كالكلمات المنظومة في قصيدة، تعبر عن المشاعر دون حاجة إلى كلام. أما الممثلون، وعلى رأسهم ريم أحمد وميدو عبدالقادر، فقد أحيوا شخصيات الرواية ببراعة، فلم يكونوا ممثلين فحسب، بل أصبحوا أبطال القصة أنفسهم. 

 الفن الذي لا يموت 

بينما يتساءل الكثيرون اليوم عن مصير الفن الأصيل، تأتي "كارمن" لتجيب بأن مصر، رغم كل شيء، ما زالت تضم بين جنباتها فنانين يجددون التراث دون أن يخونوه، ويخوضون غمار التجديد دون أن يقطعوا جذور الأصالة. فتحية لناصر عبدالمنعم ومن معه، أولئك الذين يذكروننا بأن المسرح، كما قالوا، هو بيت الإبداع الأول، وأن مصر، ما دام فيها مثل هؤلاء، ستظل بخير. 

هكذا، أيها القارئ، يصبح المسرح مرآة تعيد إلينا ثقتنا بأن الجمال والحقيقة ما زالا يضيئان دروبنا، إذا نحن أردنا لهما ذلك. 

المسرح مرآة للهوية الثقافية 

لم تكن "كارمن" مجرد نقل حرفي لنص غربي إلى خشبة المسرح العربي، بل كانت حوارا جريئا مع الذات والآخر. فبينما يحتفظ العمل بالروح الثائرة للبطلة التي أبدعها ميريميه، فإنه يعيد تشكيلها في إطار شرقي يذكرنا بتلك الشخصيات النسوية المتمردة في تراثنا، كـ"ليلى العامرية" أو "عنترة بن شداد"، لكن بعين معاصرة. فـ"كارمن" هنا ليست مجرد امرأة غجرية، بل أصبحت رمزا للحرية التي تتحدى الأعراف دون أن تفقد أنوثتها أو كرامتها. 

أما المخرج ناصر عبدالمنعم، فقد قدم لنا عملا يعبر به المسرح المصري من المدرسة الواقعية التقليدية إلى فضاء أكثر تجريدا، دون أن يقع في فخ الغموض أو التكلف. لاحظنا كيف مزج بين العناصر السينمائية (كالإضاءة المظلمة في مشاهد الغيرة) والمسرحية الصرفة (كالحوار المباشر مع الجمهور في لحظات التهكم). هذا التنقل المتقن بين الأساليب يجسد رؤية فنية ناضجة، تدرك أن المسرح ليس وسيلة تسلية فحسب، بل أداة تفكيك للذات والمجتمع. 

لا يسع الناقد إلا أن يقف إجلالا أمام أداء ريم أحمد التي حولت "كارمن" من أيقونة غربية إلى امرأة شرقية بكل تناقضاتها: قوية لكنها هشة، متحررة لكنها أسيرة عواطفها. أما ميدو عبدالقادر (دون خوسيه)، فقد قدم شخصية معقدة، تجسد صراع الرجل الشرقي بين حبه المدمر وغروره الذكوري. والأكثر إدهاشا هو أداء ليديا سليمان في دور "ميكايلا"، التي حولت شخصية ثانوية إلى نموذج للإنسانية الهادئة، وكأنها تذكرنا بأن المسرح لا يبنى على الأصوات العالية وحدها. 

الموسيقى والاستعراض 

لعل أبرز ما يلفت النظر في هذا العمل هو تحويل الموسيقى الغربية الأصيلة لـ"كارمن" إلى لوحات استعراضية تحمل روح الفن الشعبي المصري. فلم تكن الرقصات تقليدية، بل مزجت بين الفلامنكو والرقص الشرقي، وكأنها تعلن أن الفنون لا تعرف حدودا. هذا التفاعل بين الثقافات لم يضع هوية العمل، بل عززها، كما فعل يوسف شاهين في فيلم "وداعا بونابارت" حين حول التاريخ الفرنسي إلى حكاية مصرية. 

 سؤال يظل معلقا: هل يمكن للمسرح أن يكون وطن المهمشين؟ 

رغم كل هذا الإبهار، فإن الناقد لا يمكن أن يتجاهل سؤالا جوهريا: إلى أي مدى استطاعت هذه المسرحية أن تمثل صوت المهمشين الحقيقيين في مجتمعنا؟ فـ"كارمن" في النهاية شخصية نخبوية، حتى في ثورتها. ألم يكن الأجدر بالمسرح، ذلك الصندوق الأسود للجماهير، أن يمنح صوتا للفئات الأكثر هشاشة؟ هذا لا يقلل من قيمة العمل، بل يفتح الباب أمام حوار أعمق عن دور الفن في زمن اللاانتماء. 

"كارمن" ليست عرضا مسرحيا عابرا، بل بيانا فنيا يعلن أن المسرح المصري، رغم كل التحديات، ما زال قادرا على أن ينتج أعمالا تحافظ على الجذور وتغرف من المعاصرة. فإذا كان الفن هو آخر ما يموت في الأمم، فإن هذا العمل يثبت أن مصر، برواد مسرحها، ستظل حاضنة للإبداع الذي يضاء كشمعة في عتمة الزمن العابث. 

فهل ندرك نحن، كمتلقين، قيمة هذه الشموع قبل أن تنطفئ؟!

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم