أقلام فكرية

فلسفة الاشتغال الفني

محمد كريم الساعديتعد الاعمال الفنية هي الصور التي تميز كل امة عن غيرها من الامم، لإن هذه الاعمال تكشف عن مرحلة مهم في تاريخ كل امة ومدى تطورها وازدهارها ورقيها من خلال رقي ثقافتها سواء كانت في الآداب أو الفنون أو العلوم او غيرها من النشاطات الثقافية المختلفة، وما دُون في كتب التاريخ من اعمال فنية خالدة مَجدت تلك الامم وجعلتها في الحضارات المؤسسة للتاريخ البشري، كما في الحضارات العراقية القديمة،السومرية والبابلية والحضارة المصرية والصينية والهندية . ..الخ . لذلك تركز دور العظماء في التاريخ من الملوك والقادة على تمجيد اعمالهم من خلال الرسوم و الملاحم والاساطير التي كانت مادة ثرة للإبداع البشري سابقاً ولاحقاً .ان تركيز الامبراطوريات القديمة وملوكها واباطرتها على الفن كان ضرورياً لتمجيد افعالهم واعمالهم وكان وسيلة ناجحة في الوصول الى الخلود وما ملحمة كلكامش الا صورة واضحة لذلك الاهتمام وكذلك الرسوم واللقى الاثرية وما رسم عليها وعلى جدران القصور والمعابد صور للانتصارات والقوانين والشرائع كما في مسلة حمورابي وغيرها هذا يؤكد اهتمام الامم السابقة بالفن لتأكيد تميزها على غيرها من الامم الاخرى على اعتبار ان الفن "نشاطاً يهدف الى غايات عقلية ثقافية مميزة تبقى محفورة على جدران الذاكرة الجمعية للامة التي طًورت ادواتها بفعل قدرات ابنائها المبدعين من فنانين وشعراء وادباء وغيرهم في مجالات الحياة المختلفة.

ان الاعمال الفنية التي انتجتها الامم السابقة وحتى في الوقت الحاضر قدمت لنا صور مختلفة ومعبرة عن مجالات متنوعة في الحياة، واختلفت منابع رؤياها بحسب اختلاف المنتج لها لان العمل الفني هو الجهد الفكري المدرب والمنظم والمرتبط بمستوى ثقافة وتربية نمط حياة صاحبه ومنتجه، كما يرتبط مدى نجاحة ومستواه بمستوى الحكم على نجاح ورقي الامة والحضارة التي ينُسب اليها، وبهذا يكون العمل الفني جهداً انسانياً بل هو نمط او محاولة انسانية للتعبير عما يدور في داخل الانسان من مشاعر واحاسيس مختلفة بل هو محاولة البشر لتصوير الايقاع الذي يتلقونه من حقائق الوجود او من تصورهم لحقائق الوجود .

أن العمل الفني يتكون من ثلاث عناصر اساسية يجب ان تتوافر فيه كي يكون صورة نافعة يمكن الاستفادة منها في تفسير الرؤيا الخاصة به، حيث يرى (زكريا ابراهيم) بأن العمل الفني اذا اُريد له ان يكون ضمن المنظور الاستاطيقي سواء كان عملاً تشكيلياً او موسيقية أو غيره فلابد ان نلاحظ وحدته المادية التي تجعل منه موضوعاً حسياً يتصف بالتماسك والانسجام من ناحية، كما ان له مدلوله الباطني الذي يشير الى موضوع خاص ويعبر عن حقيقة روحية من جهة اخرى فلا بد للعمل الفني بنية (مكانية) تعد بمثابة المظهر الحسي الذي يتجلى على نحوه الموضوع الجمالي، كما انه لابد ايضا من بنية (زمانية) تعبر عن حركته الباطنية ومدلوله الروحي بوصفه عملاً انسانياً حياً.

تبعاً لذلك فقد ذهب بعض علماء الجمال الى ا ن ثمة عناصر ثلاثة لابد من ان تدخل في تكوين العمل الفني، الا وهي على التعاقب :المادة والموضوع والتعبير .

تدخل في بناء العمل الفني ثلاث محاور اساسية في تكوين حقيقة العمل الفني سواء كان فردياً او جماعياً وهي :-

اولاً-البناء التشكيلي : الذي يتكون من عناصر اساسية في العمل الفني ومنها الوحدة والانسجام والتناسب والايقاع وهذا البناء التشكيلي له عناصر هي اللون والخط والشكل .

ثانياً- المضمون : الذي يتكون من الموضوع، الفكرة، المحتوى، والهدف.

ثالثاً- الخامة: التي وهي مادة العمل الفني كاللون (الرسم والتصوير)، والصوت (الموسيقى) والحركة (الرقص)، والمادة (النحت والخزف) والممثل والخشبة (المسرح) واللغة المكتوبة والمنطوقة كما في الادب والشعر وايضاً المسرح والسينما.

ان الرؤية الفلسفية (الجمالية) للعمل الفني قد تعددت واختلفت وحسب وجهه نظر الفيلسوف للفن وللعمل الفني وهنا سوف نستعرض بعض اراء الفلاسفة عن حقيقة رؤيتهم للعمل الفني وبمختلف اختصاصاته. حيث يرى (افلاطون) ان الفنون التي لا تحث على الفضيلة وتفسد العقل يجب ان ترفض، لأنها، اي الفنون، يجب ان تطبع بصورة الخير ويعتبر ان القيم الجمالية لابد ان تتوحد مع القيم الاخلاقية . وحسب رؤية افلاطون القيم الاخلاقية هي التي تسود في العمل الفني،واذا لم يحتوي العمل الفني تلك القيم فهو مرفوض، اذن ما هو الوصف الذي يطلق على بعض الاعمال الفنية سواء كانت مسرحية كما في مسرحية اوديب ملكاً الذي يتزوج امه ويقتل اباه، فهل هذا العمل بمكوناته ومضمونه يدعو الى الخطيئة التي استيقنها اوديب متأخراً، اذن فأن نظرة افلاطون للعمل الفني سوف تحيلنا الى تقسيم الاعمال بين اخلاقي ولا اخلاقي بحسب قيم الخير التي توجد في العمل الفني وهذه النظرة الافلاطونية للفن والاعمال الفنية نراها قد تكررت عند (روسو والعدميين الروس) فقد اعُتبر جان جاك روسو قبيل الثورة الفرنسية ان الفن شأنه شأن الصناعة فهو يُدنس الطبيعة، وفي روسيا وجدت جماعة يسمون انفسهم انصار العدمية حملوا على الفن بأسم الثورة حتى ان احد افراد هذه الجماعة وهو (بيساريف) نادى بإنحلال القيم الجمالية لحساب القيم العملية او البراغماتية.

اما ارسطو فرأى العمل الفني مكمل للطبيعة ومقومها لان هكذا اعمال يجسدها الانسان لاستكمال ما يراه غير مكتمل في الطبيعة وهو ما يندرج تحت نظرية المحاكاة الأرسطية التي يفصلها لنا في كتابه فن الشعر والذي يرى بأن فن الشعر قد نشأ في الانسان بفضل غريزة طبيعية فيه هي غريزة المحاكاة. والتي انتجت لنا مفهوم التطهير الذي ينظف النفس البشرية مما علق بها من

ادران من خلال الخوف والشفقة . وهو ما نراه واضحاً في اعمال اسخيلوس (اغاممنون) وسوفوكلس (اوديب ملكاً) ويوربيدس وغيرها من الاعمال المسرحية.

اما افلاطون صاحب النظرة الصوفية للعمل الفني فأنه يرى بأن الفنان "ينقل فكرتة الى المادة، ويعبر من خلال وسط مادي عن ادراكه لحضور المبدأ الالهي للعالم الزماني والمكاني، ولنتأمل ذلك الحجر الذي تحول على يد الفنان الى تمثال، ويكتسب بفضل هذا التحول جمالاً.

وترى مجموعة من الفلاسفة بان الفن والعمل الفني هو متعة ووعظ حيث تزعم هذه الرؤية (عمانوئيل كانط) وقال بها (هيجل) و(كروتشيه) حيث يرى (كانط) ان الربط بين العقل النظري والعقل العملي يأتي من خلال اقامة جسر بينهما عن طريق التجربة الجمالية .اذ يعلن ان عالم الطبيعة و عالم الاخلاقية يتداخل احدهما بالآخر تماماً بحيث ما هو محكوم عليه بالجمال في العالم الاول يثير علاقة سارة بشكل متناسق مع العالم الاخر. وهنا يكون العمل الفني هو الذي يصبح الجسر الذي يربط العقلين العملي والنظري. أي يربط عالم الطبيعة من خلال الشكل بعالم الاخلاق من حيث المضمون لذلك فأن العمل الفني المتمثل في ملحمة كلكامش والذي يروي قصة كلكامش في بحثه عن الخلود يروي لنا شكل المغامرة التي تتضمن الانسان بكل تناقضاته والتي يبدأها كلكامش بالشر والدكتاتورية وينهيها بالعدل وحسن السلوك تضمنت مضموناً بأن الخلود بالأفعال الخيرية لا بالأفعال الشريرة.

ونصل الى نظرة (برغسون) للفن والفنان والعمل الفني، فهو يرى بأن للفن عيناً ميتافيزيقية، ويرى الفنان ذلك الانسان الذي يذهب الى برؤياه ابعد مما يذهب اليه غير الفنانين ويرى في العمل الفني بأنه "كمثل الكون بأسره من حيث هو سمفونية الموسيقار الاعظم- يملك من الجد والاصالة والصيغة الابداعية، ما يجعل من المستحيل على اي عقل كائناً من كان ان يتنبأ سلفاً بما سيكون عليه.

إذن، فأن الرؤية الفلسفية للعمل الفني يمكن ان نحرج منها بما يأتي:

اولاً- تعددت الرؤيا الفلسفية اتجاه العمل الفني بحسب رؤية الفلاسفة لكل من الفن والفنان والعمل الفني وبحسب اهميته ونوعيه تناوله للموضوع وما يمثله من فائدة للبشرية او عكس ذلك.

ثانياً- ان النظرة الفلسفية عند بعض الفلاسفة للعمل الفني لم تكن على اساس عناصره واهميه هذه العناصر للعمل او للمتلقي بل جاءت على اساس ما يفيد به المجتمع البشري، فالبعض من الفلاسفة وعلى رأسهم افلاطون رفضوا العمل الفني ان لم يكن يحتوي على قيم خيرة بل البعض الاخر رأى بأنه لم يكن ملزم للبشرية كما في نظرة العدميين الروس وجان جاك روسو.

ثالثاً- توزعت الرؤيا الفلسفية للعمل الفني حسب انتماء الفيلسوف الى المدرسة الفلسفية واراء فلاسفتها، فكانت هناك رؤية اخلاقية واخرى صوفية وثالثة متعة ووعظ ورابعة رافضة للفن كضرورة وخامسة كونية كما عند برغسون اي خارج عن حدود معرفة الانسان العادي وسادسة تعد بأن العمل الفني هو محاكاة للطبيعة كما عند ارسطو.

رابعاً- من خلال النظريات المتعددة للفن والعمل الفني يستطيع الناقد الواعي ان يميز بين رؤية كل فلسفة للعمل الفني ومكوناته وجنسه وكيفيه تمييز هذه الاجناس والانواع عن بعضها البعض من خلال عناصرها وهيأتها وشكلها ومضمونها وغير ذلك.

 

في المثقف اليوم