أقلام فكرية

من براديغم التجمع إلى براديغم الجماعة عند سارتر.. التكافل الجمعوي كبديل للتكتل التجمعي

خديجة ناصريتحفل الفلسفة المعاصرة بالعديد من الخامات والكوادر الفلسفية المتميزة، والتي ساهمت في تقديم فكر أصيل يمزج بين قوة الفكرة وحلاوة الكلمة، ولعل من أبرز فلاسفة هذه الحقبة وأكثرهم شهرة بين الأوساط الفلسفية والأدبية على السواء نجد الفيلسوف الفرنسي "جون بول سارتر"الذي يمثل أحد أقطاب الفلسفة الوجودية إلى جانب مؤسسها "سورين كركيجارد" وروادها الذين تتردد أسماءهم وأفكارهم مقترنة ببعضها في شكل بناء فكري متصل الحلقات، إذ نجد أن كل واحد من هؤلاء وضع حجر أساس لهذه المدرسة الفلسفية والتي لا تكتمل إلا بالتحامها وهم "غابريال مرسال"، "كارل ياسبرس"، "مارتن هيدغر". والنقطة المفصلية التي تلتقي عندها فلسفات هؤلاء المتباينة في المظهر والمتلاحمة في الجوهر هي فكرة "الوجود أسبق من الماهية" وهي حقيقة لا تحتاج للكثير من البيان فهي تعترض كل مطلع على الفكر الوجودي مفادها أن الإنسان يخلق أولا ثم يختار مصيره بنفسه، فحياته ليست عبارة عن خطة جاهزة تتحدد ملاحها سلفا بل هي عبارة عن مشروع يتوجب العمل على بنائه بالاجتهاد في نسج كيان ذاتي مستقل يتماشى مع جوهر الذات الحقة التي يفترض أن تكون حرة، واعية، فاعلة، مدركة لحقيقتها، ومسؤولة عن خياراتها.

ومما لا يخفى على كل المهتمين بالشأن الفلسفي أن الفلسفة الوجودية تمحورت جل موضوعاتها حول الوجود الإنساني، وهو موضوع يبدو للوهلة الأولى اجتراري تكراري من حيث كونه الموضوع الأثير الذي تناوبت عليه معظم الفلسفات عبر الأطوار الزمنية المختلفة، بداية من الفلسفة اليونانية إلى أعقاب الفلسفة المعاصرة. ولأن الفلسفة الوجودية لاقت رواجا وقبولا جماهيري واسع يكاد ينعدم إيجاد فلسفة تضاهيها في ذلك، الأمر الذي يوحي أنها تتميز بالفرادة وروح التجديد، وواقع الحال يطلعنا أن هذه الفلسفة هي أقوم الفلسفات وأقدرها على تقديم تشخيص دقيق عن الواقع الإنساني وما يكابده الفرد من عناء في رحاب وجود يعتمر بالمصاعب والمشاق. ولعل من بين القراءات الوجودية التي تنم عن عمق الرؤية ودقة في التحليل نجد فلسفة سارتر وهي فلسفة مكتملة الأجزاء تحتاج لتخصيص قدر يسير من الدراسة حتى يتسنى الإلمام بها، ولهذا نقتطع من هذه الفلسفة جزء بسيط يتمحور حول فكرة التجمع والجماعة وفق الرؤية السارترية.

إن أي محاولة لفهم المضمون المعرفي لفكرتي التجمع والجماعة، لا يكون من المتيسر بما كان إلا بالعودة إلى التمييز الذي حدده سارتر عن مستويات الوجود، والتي قدمها بشيء من الإسهاب والتفصيل في كتابه الأعظم على الإطلاق "الوجود والعدم" وقد أدرجها ضمن أنواع ثلاث وهي:

الوجود في ذاته: ويقصد به عالم الأشياء والظواهر الخارجية التي يمكن ملاحظتها ومن ثمة دراستها علميا بحكم أنها تخضع لمبدأ الحتمية مع إمكانية تقييدها بقوانين، ومما يترتب عن ذلك أن جميع الأشياء تتحدد ماهيتها منذ وجودها وهذا ما يكسبها صفة الثبات والاستقرار.

الوجود لذاته: وهو الوجود الإنساني الذي يختلف عن عالم الأشياء الخارجية والتي تتحدد ماهيتها منذ وجودها، وجوهر الاختلاف يكمن في أن ماهية الذات البشرية لا تتحدد قبلا، إنما يسعى الإنسان باستمرار لإكمال ذاته والتعبير عن نفسه بما يلائم رغباته وحاجياته، فهو ليس عبارة عن معطى ثابت ونهائي بل حياته عبارة عن مشروع تتكفل الذات بهندسته على نحو متميز يكسبها صفة الاستقلالية والاختلاف عن غيرها من الذوات. ومن هنا رفض الوجوديين الصورة المثالية عن الإنسان التي تنسج على منوالها كل الذوات البشرية أو تروم كل نفس تحقيقها، فلا وجود لطبيعة بشرية تفرض منذ الأزل إنما الوجود الحقيقي للإنسان كونه حر في تصرفاته وخياراته.

الوجود الاجتماعي: حيث يفترض سارتر أن وجود الغير شرط لوجود الذات التي يتعذر عليها العيش في معزل عن الآخرين لأن ذلك بحسبه يعني الهلاك، وهو بذلك يؤسس لفلسفة "النحن" التي تلغي الحدود الفاصلة بين الأنا والغير ويرفض التسليم بالأنا وحدية المنعزلة عن الآخرين فوجودي العميق كما يقول يوجد "خارج ذاتي فلست أنا نفسي غير إحالة خالصة للغير، فذاتي تفر مني صوب الآخر وبذلك أكون مفصول عن ذاتي بعدم لا أستطيع ملأه إلا بالغير"، وبذلك يكون مناقضا لفلسفة "الهم" عند هيدغر الذي يميز بين الوجود الذاتي والوجود الجمعي هذا الأخير الذي يستغرق الذات ويحول الفرد إلى ذلك الواحد الذي هو لا أحد وهو ما يؤدي في نظره إلى سقوط الذات في العالم. ومما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن سارتر يعتبر الآخر جحيم يسلب الذات حريتها ويحيلها لموضوع له، فالآخر بحسبه "يعريني ويفضح وجودي ويمزق كياني" وهذا كله لا يلغي حقيقة حاجة الأنا للآخر حتى يكتمل وجودها ووعيها بذاتها، وهذا الاتحاد بين الذوات يفرز لنا تكتلات وتجمعات بشرية قد تكون في شكل تكتل قومي أو حزبي أو وطني أو رياضي ...الخ ويميز سارتر في هذا المقام بين نوعين من الوجود هما: الوجود مع الغير ويقابله التجمع، والوجود للغير ويقابله الجماعة، وهذا ما نفصل فيه فيما يلي:

أولا: التكتل التجمعي:

وهو الوجود الذي يكتفي فيه الفرد بالوجود مع الغير أو إذا شأنا تقريبه بصيغة مفاهمية مغايرة بالقول التواجد مع الغير، وهي عبارة تحيلنا إلى المستوى الأنطولوجي حيث يكتفي الكائن البشري بالعيش وسط أقرانه مع انتفاء وجود رابطة علائقية اتصالية تواصلية تفاعلية تتجاوز حدود الواقع اليومي، والحياة الجارية بمشاكلها الجزئية وطابعها البليد الرتيب الخالي من روح التأمل والتدبر، والساعية لتبني أهداف أبعد من توفير متطلبات الحياة اليومية. وهذا النمط الحياتي الدائر في حلقة مفرغة تكتمل دورتها عند حد الحياة البيولوجية للكائن بتوفير ما يحقق له البقاء في عالم الأحياء، هو ما يسميه سارتر بالتجمع أو السلسة (léçollectif) وهذا الشكل من الوجود يقابله فكرة الحشد عند كيركجارد أو الجمهور عند هيدغر أو القطيع عند نيتشه. والتجمع كما يورده سارتر هو عبارة عن مجموعة من الأفراد لا تربطهم أية أهداف مشتركة بعيدة المدى، بل يجتمعون للحظات مؤقتة ولظروف طارئة ومتغيرة، مثل طابور الأتوبيس أو الميترو فالكل يجتمع في فضاء موحد، غير أن كل واحد منهم يجد في الآخر منافسا يحاول استبعاده ليحل محله وفي النهاية كل سيتوقف عند محطة معينة ويسير في اتجاه مغاير للآخرين، مما يجعل هذا التجمع آني سلبي غير فاعل وغير واعي وقد أفرد سارتر جملة من السمات والخصائص التي تطبع هذا التجمع وهي العزلة، الهوية الآخرية، والتبادلية.

أما العزلة في هذا الشكل الاجتماعي فهي تلك الحالة التي يعيش فيها الأفراد وهم عبارة عن ذرات منفصلة، كل منهم يتقوقع في عالمه الخاص، والناس في عملية التذري (atomisation)هذه وهو الاسم الذي يطلقه سارتر على الحالة البشرية مشتتة الأواصر متناثرة الأطراف، يكونون أشبه بالأدوات التي توضع جنب إلى جنب في صندوق واحد، يمكن أن تستخدم كلها لتصليح وترقيع أشياء كثيرة أي تغيير العالم المحيط بها لكن هي نفسها غير قادرة على القيام بشيء أو الشروع في أي عمل، وبذلك تكون الخاصية الجوهرية للتجمع أن الناس يوجدون جنبا إلى جنب دون أدنى إحساس بالاجتماع أو بالرابطة الجماعية (communate) ، فهم ليسوا إلا مجموعة من الأفراد المنفصلين يجسدون مبدأ التخارج أي الوجود خارج الذات (etre horde soi) والمقصود هنا الفضاء العام الذي تتشارك فيه الذات وجودها مع الغير باعتباره شرط ضروري حتى يحصل للذات إدراكها ووعيها لذاتها، لكن هذا التلاقي بين الذوات في هذه الحالة يأتي في شكل انعزالي تفردي يفتقر لروح الاتحاد الإيجابي، فالأفراد هنا كما يشير سارتر يكونون متوحدين في الانفصال، وفي موضع آخر يطلق عليها العلاقة التسلسلية في الغياب وقدم بشأن ذلك مثال توضيحي لتقريب الفكرة و اختار عينة من التكتلات التجمعية من قبيل مستمعي الراديو أو متصفحي جريدة، فهم يتلقون خبر موحد لكن في أماكن مختلفة ووفق فهم مختلف يتحدد بمستواهم الثقافي والسياسي والاقتصادي ...الخ وتبعا لذلك تكون ردود أفعالهم متباينة تتماشى ومستوياتهم أو ظروفهم أو قدراتهم العلمية والعملية.

في حين تأتي سمة الهوية الآخرية أو الهوية الغيرية إذا شئنا التنويع في التوصيف، مكملة لفكرة العزلة وتصب في ذات المعنى، حيث يحدد سارتر مدلولها في القول بأن الناس وفق هذا الوضع الساري والذي أصرفنا الجهد للتدليل على ماهيته يكونون متحدين في انفصالهم ولكل منهم غايته الخارجية، واستتبع سارتر حديثه في هذا الشأن بالتأكيد على أن المجال لا يتسع في هذا النوع من التجمع البشري للفروقات الفردية، فالامتياز في التجمع لا يعد ذات قيمة، وملكة الذكاء وروح التفرد ليس مما تستدعيه حالة التجمع، فكونك ذات مستوى معرفي مقتدر أو فاقد لأبسط أبجديات المعرفة لا يشكل أي فارق ولا تعطى له أي أهمية. وهذا ما أشار إليه و أمعن النظر فيه في كتابه "جلسة سرية"، وطبعا قد تبدو الفكرة مما يستسيغه الطبع البشري الميال لإفشاء المساواة بين البشر والاذعان لروح الجماعة والتماهي الكلي فيها، وهذا ما يرفضه سارتر ويعتبره سلب للحرية الفردية واستلاب للذات الإنسانية ،وقد يبدو هذا الغشاء الهلامي الذي يكون وجهه بارز على الجهتين والذي يغطي فلسفة سارتر مداعاة للتشكيك فيها لما يبدو عليها من تناقض وتلاعب فكري، إلا أن الأمر أبسط مما يبدو عليه من تعقيد، وهو أن الفروقات الفردية في تجمع يغيب فيه الاتحاد بين الذوات ويفتقر لهدف جامع بينها لن تكون ذات فاعلية وتكون أقرب لشخص يدق مسمار في الهواء. وهنا تكون الفوضى هي التي تسود وتأطر الكيان الوجودي العام لهذا النوع من التكتلات المجتمعية.

وكنتيجة حتمية لهذه الفوضى تصبح سمة التبادلية أو ما يسميه إمكان التغير المتبادل ذات مشروعية وتدخل حيز التنفيذ بشكل تلقائي بحيث يكون هناك إمكانية للتبادل والتغير المشترك بين أعضاء التجمع دون أن يحدث ذلك أي اختلال طالما أن كل واحد في هذا التجمع ينظر إليه على أنه زائد بما أن حضوره أو غيابه ليس بالأمر الذي قد يخرب النظام العام الذي ليس له وجود من الأساس. كما أن الإنسان هنا هو ذلك الفرد العام (individu général) أي أنه فرد ليس له أي خواص نوعية شأنه شأن غيره من الأفراد، ولا أهمية للفرد هنا إلا بوصفه جزء من كل يمكن استبداله بغيره دون شرط أو قيد، وذلك مما تفرضه روح التساوي التي تسود التجمع، وإلغاء للقدرات الفردية المتميزة، والتخندق في جوف الذهنية الجماهرية العاطلة عن الإبداع والتميز، التائهة في رحاب عالم ليس له آخر، والفاقدة لبوصلة تحدد لها الوجهة وترشدها لبر الأمان، فالشمس لا تعود ذات قيمة بالنسبة لشخص معصوب العينين.

وهنا تستوقفنا فكرة قد تبدو غير مفهومة بين دعوة سارتر للاتحاد بين الذوات كشرط لازم لتحقيق الوجود الفعلي للأنا من جهة، وتشديده على ضرورة التعميق من الفروق الفردية من جهة أخرى، أي أن الفردانية وفق هذا الطرح هي السمة البارزة التي تسهم في تشكيل تكتلات تكون ذات فاعلية، والأصح هنا أن الفردانية ذات المشروعية بالمعنى الذي يقصده سارتر تلك التي تتجاوز الأنانية الشخصية، ولا يكون لها مدلول مغاير غير ذلك الذي يصب في جعلها ذات قيمة إذا ما حرصنا على التنويع في القدرات وإثراء الإمكانيات بغية تحقيق المصلحة العامة.

هذا التقديم التفصيلي الذي أورده سارتر لحال الشعوب الفاقدة للفاعلية يحيلنا على سبيل الإسقاط إلى المجتمعات العربية وما شهدته في الآونة الأخيرة من حراك شعبي وصف على أنه ثوري، اعتبره البعض ربيع عربي واستفاقة عربية من سبات عميق طال أمده للاندماج مرة أخرى في الدورة الحضارية والصيرورة التاريخية، في حين اعتبره البعض الآخر ارتطام بجدار أحلامنا وأوهامنا المتكدسة الذي عليناه لحد تعذر علينا تجاوزه. فهذه الثورات العربية هي أقرب إلى حالة التجمع التي قدمها سارتر، وتنطبق عليها جل سماته، لكونها جاءت كمحاولات منفصلة غير مبنية على فكرة التشاركية في الأهداف والمقاصد، فالهم الأوحد الذي استعبد الجماهير هو تحسين الظروف المعيشية وتحقيق الحد الأدنى لمتطلبات المواطن البسيط، وكل ذلك يفترض الرفع من مستوى الدخل الفردي ورفع سقف العائدات الفردية، أي أن القوى الدافعة للثورة تتوزع على نحو عشوائي يتماشى ومتطلبات الفرد والتي لا تتجاوز حدود ظله. مما يجعل هذه الثورات تتبنى رؤية أحادية تختزل مقاصدها في التصور الفرداني الشكلاني، بتركيزها على الفرد لا الجماعة، وانشغالها بالمستوى المعيشي لا الفكري، والانصراف لتحقيق أهداف وقتية ترتبط بالمسار العام للحدث أكثر مما تخدم المحدث لها نفسه.

ثانيا: التكافل الجمعوي:

لم يتوقف سارتر عند حد الهدم دون البناء، ولم يكتفي بنقد الحالات التجمعية التي يغيب عنها الوعي وتفتقر للفاعلية، بل قدم قراءة تجديدية تحمل معها تصور فلسفي يتلاءم والنسق المجتمعي المعاصر، فقد صرح بوجود إمكانية لتجاوز الوضع الجاري حيث أكد أن التجمع قد يتحول للجماعة متى أبدى الشعب رغبة في ذلك، ومتى تسلح بالإرادة والقوة لمجابهة القوى التي تزعزع تكتله وتفرق شمله، الأمر الذي يؤدي إلى إبدائه لآراء وتبنيه لمواقف منعزلة فاقدة للفاعلية، كما ويعجز عن الفهم العميق للسياسات المبطنة الحاملة لمساعي مستترة تفرضها دواعي ربحية، والتي كثيرا ما تلهيه وتختزل وجوده في حيز ضيق وهو الانهماك في حيثيات الواقع اليومي والسعي لتحقيق القدر المتيسر من الرفاهية والاستقرار، والتي غالبا ما يتلقاها في شكل ذبذبات متقطعة لا يتسنى له وصلها وفهم فحواها إلا في ضوء رؤية شاملة تتحد فيها القوى العامة للشعب. وللتدليل على ذلك استشهد بالثورة الفرنسية حينما تحولت الجموع إلى هيجان ثوري واتحدت أهدافهم وغاياتهم لإسقاط الحكم الملكي الذي كان ينتهج سياسة تسلطية قمعية أنهكت كاهل الفرد، فشعور الناس بالضعف إزاء النظام الحاكم وبخطر يهدد وجودهم يدفعهم إلى تشكيل جماعات سياسية لها أهداف مشتركة قد تقوم بثورة لتحقيق مطالبها وتلبية حاجاتها، وقد نسوق على ذلك العديد من النماذج الثورية التي عرفها التاريخي الإنساني، التي استطاعت أن تقف في وجه كل صنوف الاستعمار المباشر منها وغير المباشر، المادي منها والمعنوي، وما كان لها تحقيق ذلك إلا بتوحيد القوى الشعبية بتوحيد الأهداف والغايات.

ومن هنا تبرز فكرة سارتر عن الجماعة التي يقصد بها ذلك الاتحاد الذي يحتضن مجموعة من الأفراد المنتمين لشرائح مجتمعية متباينة على أنهم يمتلكون هدفا مشتركا ويجمعهم ذات المصير مثل أي تكتل حزبي أو طبقي، وهي آلية وجودية تنقلنا للمستوى الثاني المقابل للمستوى الأنطولوجي وهو المستوى الإبستيمولوجي الذي يتجاوز حقيقة الوجود مع الغير إلى الوجود من أجل الغير، أو ما يمكن تسميته إذا ما حاولنا إعطاء المصطلح صبغة وجودية تحاكي النسق العام للفلسفة السارترية، وهو التوجيد للغير بمعنى السير في سياق مغاير للمستوى الوجودي الأدنى، حيث ينتقل الفرد إلى مستوى وجودي أعلى أي الانتقال من وضعية العيش مع الغير إلى التعايش معه، من العزلة إلى الاتحاد، من مجال الحياة اليومية المنغلقة إلى مجال الحياة الفكرية المنبسطة، من الوجود الأقرب إلى الوجود الأبعد، من التجمع إلى الجماعة وكل ذلك يشترط توفير فضاء عمومي يتشارك أفراده ذات المصائر والمصالح.

وما يدفع الناس لهذا الاجتماع حسب سارتر فكرتين أساسيتين هما: الندرة ويستخدم اللفظ هنا بمعنى الحاجة والخطر أي أن الإنسان مفروض عليه خلق جو من العيش المشترك، بحكم أن وجوده لا يكتمل إلا وهو مقرون مع وجود الآخر. والأكيد أن هذا الوجود ليس بالمعنى السطحي الوقتي كما اعترضنا ذلك مع فكرة التجمع بل يكون أعمق من ذلك وأبعد مدى، فالإنسان الذي يعرف على أنه كائن مدني بالطبيعة يعيش في جماعات لا يأتي من قبيل سرد لصفات مجردة بل يدخل في عمق التجربة الوجودية له، فهو في حاجة دائمة لوجود الآخر الذي يثري وجوده بتلبية حاجاته وإعطاء المعنى لحياته، والأهم من ذلك يوفر له الحماية مع ما يستتبعها من شعور بالأمان والاستقرار. ونظرا للأهمية التي يعطيها سارتر لفكرة الجماعة فإنه مما يفرضه المنطق العقلي أنها لا تقوم على فراغ، إنما تتأسس على مقومات لخصها سارتر في صيغ ثلاث هي: العهد (assermentation) ، العنف، الرعب (terreur).

بحيث أن الجماعة تتأسس في الأصل حين يتعهد كل فرد أن يصبح عضوا فيها، ولا يخرج عليها ويخون عهده، هذا العهد أو ما يمكن تسميته أيضا بالقسم هو أشبه بتأشيرة تتيح للفرد الانضمام للجماعة، والأكيد أن هذا العهد لا يكون على هيئة موحدة عند كل جماعة وغالبا ما يكون لكل واحدة منها طقوس خاصة تلتزم بها دون سواها على أن وظيفته ثابتة والغرض منه مما تتفق عليه كل جماعة. وهو حسب سارتر من الأمور الأساسية الغير قابلة للاستبدال أو الاستغناء، فهو ليس بذلك الإجراء الروتيني أو الخاصية المتوارثة التي تسري عليها الجماعة بحكم العادة أو تجميد مفعوله بتحويله لمراسم شكلية، بل هو برتوكول رسمي لا يمكن خرق بنوده أو المساس بها لأن ذلك مما يضعف الجماعة وينذر بزوالها.

أما العنف فهو من الآليات المشروعة المتبعة من قبل الجماعة لتضمن استمرار هذا العهد وبالتالي استمرارها، فالعنف هنا يأتي بالمعنى الإيجابي، أي عدم اللجوء للعنف من أجل العنف وذلك بالتعدي على الأشخاص إن كان معنويا أو ماديا بهدف التسلط عليهم، أو أن يكون مجرد حالة طبيعية ناتجة عن الدور القيادي الذي يتبناه بعض الأطراف، والذين يخولون لأنفسهم التصرف بحرية وعلى نحو اعتباطي في اتخاذ قرارات تعسفية في شأن بعض القضايا أو التحكم في مصير بعض الأفراد. إنما دور العنف في هذا المقام ردعي يساهم في الحفاظ على تماسك الجماعة بضمان عدم التعدي على أفرادها أو التمرد على قوانينها، في مقابل ضمان الانصياع لأوامرها والالتزام بتعاليمها. وهذا النوع من العنف يتجسد في أسمى تجلياته في الدولة التي يكون من مهامها الحفاظ على كيانها وفي سبيل تحقيق ذلك تلجأ لاستخدام العنف بنوعيه الرمزي والمادي، والأكيد أن تشديد سارتر على العنف كوسيلة ناجعة تضمن بقاء الجماعة ليس من باب التحريض عليه أو تبرير العنف الإجرامي الذي ينتهج سبل وحشية ويميل للتعذيب غير المبرر فيؤول بذلك إلى حالة مرضية مستعصية يفترض علاجها، والأصح أنه أسلوب ردعي قمعي يسعى للحد من الخروقات والتجاوزات اللانظامية.

أما الرعب أو الخوف فهو ليس أكثر من نتيجة حتمية للسياسة المنتهجة من قبل الجماعة القائمة على الصرامة في اتخاذ الإجراءات الردعية في حق الخارجين عنها، وبالعودة إلى نقطة البدء التي ينطلق منها التأسيس الفعلي للجماعة، والتي تشكل في الوقت عينه أحد الدوافع الأساسية لقيامها نجد أن الخوف هو الذي أنشأ الجماعة وهو الذي يحافظ على استمراريها، فالخوف وفق المعنى الأول أي باعتباره منشئ للجماعة يأتي كمرحلة قبلية أي قبل الدخول في نظام الجماعة، ويقصد به تلك الحالة الشعورية التي يحملها كل فرد في ذاته والتي تختلف درجاتها بحسب الأحوال والأغراض، أي تلك الحالة من التوجس الدائم الذي يرافق نمط الحياة المنعزلة بالانكباب الأعمى على الذات وترك مجالسة الناس والتعايش معهم، لأن هذا النوع من الوجود يؤدي إلى اندثار الذات على المدى البعيد، فعندما أحيا منعزلا مسجونا داخل الوعي الذاتي "أصاب بالعفن والإهمال والإحساس بالهلع، ولا أشعر إلا بالبلاهة والتفاهة والسطحية" كما عبر عن ذلك "هيغل". وهذا ما يدفع بالأفراد إلى تكوين كيانات مجتمعية للتخلص من هذه الحالة التي تورث القلق والخوف من الوحدة وخوض غمار الحياة دون مساندة الآخرين. أما الخوف بالمعنى الثاني أي باعتباره محافظ على استمرارية الجماعة والذي يأتي كمرحلة بعدية أي بعد الدخول في الجماعة، هذه الأخيرة التي تمارس ضغط على الأفراد بفرض عقوبات صارمة في حق من ينقض العهد الذي سمح لهم أن يكونوا أعضاء فيها إذا ما تم تجاوز الضوابط التي تحكم النظام العام لها، الأمر الذي يولد الخوف والذعر لديهم نتيجة التفكير المستمر في العواقب الوخيمة التي قد تترتب عن الإخلال بقوانين الجماعة، مما يجعل الولاء لها أمر مطلق مسلم به بشكل قطعي، لأن الخروج عنها يعني الانتقال إلى عالم الأموات بطريقة آلية.

وما وصل إليه سارتر بعد عملية تشريحية لجسد المجتمعات البشرية، هو تأكده على أن أكثر هذه المجتمعات وعيا وفاعلية هي تلك التي تحقق التوحد بين الجماهير، وذلك بالانتقال من براديغم التجمع إلى براديغم الجماعة التي تتأسس كما تبين لنا ذلك فيما تقدم من تحليل على مجموعة من المقومات، والتي قد تبدو مغالية في الصرامة وقد تعتبر لدى البعض منافية للطبيعة الإنسانية التي تنفر من استخدام العنف بما يحمله من ترعيب وتخويف، وقد تدعو بعض الأصوات المنددة لفكرة الجماعة بالمعنى السارتري إلى انتهاج سياسة مغايرة تمكننا من تحقيق الوحدة وذلك من خلال استدراج الجماهير واستمالتهم بطرق سلمية تبتعد عن الخشونة وتميل لليونة التي تلائم الطبع البشري، إلا أن إمكانية بناء مجتمعات متماسكة مؤهلة لدفع الأمة نحو التقدم والتطور لا تتحقق إلا في ظل الاتحاد بين كل الأطراف، وتظافر كل الجهود ، واتباع لسبل منهجية مدروسة تذوب فيها المصالح الشخصية لصالح الكيان المجتمعي العام، الأمر الذي يقضي على العديد من الظواهر الاجتماعية مثل المحسوبية والرشوة التي أرقت المجتمعات العربية وكانت سببا في اخفاقها الحضاري وذلك راجع إلى توكيل المهام لغير أهلها ومنح السلطة والقرار في يد جهالتها. وكل ذلك كان نتاج لغياب الصرامة والقوة التي تتكفل بتنظيم المجتمع والتحكم فيه وتوجيه أفراده بما يحملونه من مؤهلات ومقدرات إذا ما تم استغلالها وضبطها بالشكل الصحيح يتحقق للأمة التطور والازدهار، وذلك كله لا يكون متاح إلا في ظل ما يسميه سارتر بالجماعة المنصهرة (le groupe en fusion) أي العمل على صهر كل الإمكانيات في بوتقة واحدة تشكل توليفة مجتمعية واعية وفاعلة تسير بالأمم نحو التقدم والتطور.

 

بقلم: ناصري خديجة – الجزائر

 

 

في المثقف اليوم