أقلام فكرية

الأسطورة ودلالتها في الدراسات المعاصرة

عامر عبدزيد الوائليلقد مرت الأسطورة بوصفها موضوعا للبحث والدراسة بمراحل متعددة تأثرت بها وبالمعنى الذي تم إضفاؤه عليها إذ علينا أن نميز بين المعنى الحرفي الملاصق لخطاب ما، وبين أثار المعنى المتولد عن قراءته لدى القراء . فقد يفهم القراء إيحاءات وأشياء في النص لم يكن يقصدها المؤلف ولم يفكر بها . فالقراءة تخلق النص أيضا). بمعنى أن هناك معنى خاصا بالنص (الأسطورة) مرتبطاً بالظرف التاريخي الذي كان يحيط بالنص (فكل الحوادث التي حصلت في تاريخ البشرية تعتمد على التمفصل المبتغى مباشرة من قبل المبشرين والقديسين والإبطال التاريخيين ومن المعلوم إن مقدرة هؤلاء جميعا على توليد أثار معنى جديد أو معاني جديدة تعتمد على شيئين أساسيين:

أولا: جاذبيتهم الشخصية .

ثانيا: مساعدة الظرف التاريخي أو المنعطف التاريخي لهم واجتماع هذين العاملين معاً هو الذي يؤدي إلى نجاح الشخصية التاريخية في مهمتها .

أ‌- القراءات الحديثة التي تناولت الأسطورة:

قد ساعدت تلك الوظيفة المهمة للأسطورة على القراءات المعاصرة لها والتي تنطلق من ظروف فكرية مختلفة تحاول إن تبحث في الأساطير عن معنى يهدف الى تحقيق دراسة مقارنة بين تلك الأساطير والنصوص المقدسة التي تدعي المقارنة أو محاولة البحث عن المركزية الأوربية وتطورها العرقي أو محاولة تهدف إلى دراسة التطور المعرفي الذي مر به المجتمع البشري بهدف وضع اطر علمية، لهذا تنوعت تلك الدراسات وتنوعت مناهجها واطروحتها وتأويلاتها للنصوص الأسطورية .

أمثلة من القراءات المعاصرة للأسطورة:

ذهب (ماركس مل) إلى أن دراسة اللغة هي الوسيلة العلمية الوحيدة للكشف عن جوهر الأسطورة . فتعدد المعاني والمرادفات في الكلمات ليس من المظاهر العرضية للغة أنما هو ناتج عن طبيعتها ذاتها . والذي يترتب على هذا انه أستشراك أشياء مختلفة في الاسم الواحد، وبالعكس .

وهذه هي نقطة ضعف اللغة . ولكن نقطة الضعف هذه ستمثل بالوقت نفسه الأصل التاريخي الذي انبعثت منه الأسطورة . إن تسمية الشيء الواحد باسمين مختلفين مثلا قد أدى إلى انبعاث شخصين مختلفين من الاسمين، وهذا أمر طبيعي لا مندوحة من حدوثه، ولما كان من المستطاع رواية القصة نفسها عن كليهما لذا ليس من المستبعد تصوير هاتين الشخصيتين كأخ وأخت وأب وابنة، وهكذا فان الأسطورة ليست أكثر من وهم كبير، فهي ليست خدعة واهية ولكنها خدعة ترتبت على طبيعة العقل الإنساني، فجاءت أولا - وبوجه خاص- لطبيعة الكلام الإنساني

أما سيجموند فرويد . فقد بدت الأسطورة عنده بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية، تعتمد على غريزة أساسية لايمكن دفعها إلا وهي الغريزة الجنسية . لقد انتهى (فرويد) عبر دراسة نظام الحرمان والنظام الطوطمي إلى وجود التوافق في المضمون بين ما ينتهي نفسه إليه هذا ن النظامان من عدم قتل الحيوان الطوطم، وعدم استعمال امرأة تابعة الطوطم نفسه ؛ لأية إغراض جنسية، من جهة وجريمة (اوديب) بذبح أبيه ثم جريمته الثانية عندما اتخذ أمه زوجة له، من جهة أخرى . والتوافق من جانب أخر بينهما وبين الرغبتين الأوليتين للطفل المتمثلين بالتجاذب الجنسي بين الطفل أمه الأم، وكراهية الطفل و لأبيه  .

أما مرسيا الياد . فقد خطى خطوة ابعد في الكشف عن جوهر الأسطورة عندما رأى فيها واقعا ثقافيا . وانطلاقا من هذا المنظور حددت الأسطورة باعتبارها قصة مقدسة تشير إلى حدث، ذلك أن الأسطورة تروي كيف إن واقعا كان قد تحقق بفضل مأثرة كائنات ما فوق الطبيعة ولا يهم إن يكون هذا الواقع هو الواقع الكلي (الكون مثلا) أو جزء منه فقط (نوعا بنائيا مثالا إن الأسطورة بهذا المعنى تمثل قصة (الخلق) فهي تروي كيف إن شيئا ما كان قد اتخذ طريق الكينونة والوجود ولكن الأسطورة لا تتحدث عن ذلك كما كان قد تم فعلا فأشخاص الأسطورة يتمثلون بكائنات ما فوق طبيعية فالذي كان قد تم كان قد تم على يد هذه الكائنات، وقد تم في الزمن المهيب (للبدايات) الأولى . إن الأسطورة تكشف، إذن عن النشاطات الخلاقة كمظهر للقدسية التي تتميز بها إعمال هذه الكائنات . فالأسطورة بهذا ترتبط بمعرفة سر اصل الأشياء من خلال منظر متميز، ويمكن إجمال أهم مميزات الأسطورة فيما يأتي:

1- أنها تمثل تاريخ الأعمال التي تقوم بها الكائنات ما فوق الطبيعية .

2- إن هذا التاريخ ينظر إليه من قبل الإنسان الذي يخضع لها بعدّه حقيقيا بشكل مطلق، بحكم كونه من عمل الكائنات ما فوق الطبيعية .

3- إن الأسطورة ترتبط (بالخلق) فهي تروي كيف إن الأشياء قد جاءت إلى الوجود وكيف ظهر إلى الوجود سلوك أو مؤسسة أو أسلوب ما في العمل كان .

4- من خلال معرفة الأسطورة، إذ يمكننا عبره أن نتعرف على (اصل الأشياء)، ومن ثم بلوغ القدرة في الهيمنة عليها والتصرف بها طبقا للإرادة .

كاسيرو: يذهب إلى أننا لا نستطيع إن ننكر بأن الأسطورة هي شكل من إشكال الوهم . فإذا ما سلمنا بان الأسطورة هي مجموعة من الأفكار أو بالأحرى مجموعة من المعتقدات فأن هذه المعتقدات ستتميز بأنها تتناقض تناقضا صريحا مع تجاربنا الحسية، فضلاً عن هذا، فأنه لا توجد أية موضوعات طبيعية تناظر التخيلات الأسطورية، وربما لهذا السبب نستطيع إن نقول بان الأسطورة هي شكل من إشكال الوهم .

ثم إن كاسيرو نظر إلى الأسطورة بأنها تقوم في الجوهر على أساس من رغبة حماسية تدفع الأفراد إلى الشعور بوجود هوية بينهم وبين المجتمع والطبيعة، ويتحقق إشباع هذه الرغبة بوساطة الطقوس الدينية فهناك تذوب الفوارق بين الأفراد ويتحولون إلى كل لا يعرف التمايز.

ويشير جورج تومسن: إلى أن الأسطورة لا تمثل (كما ذهب إلى ذلك بعض المختصين)، تفسيرا للطقوس، وإنما هي بالأحرى عبارة عن شكل المنطوق للأداء الطقسي في المرحلة الأولى في الأقل أنها التعبير الجماعي عن التجارب التي لا يمكن نسيانها،التي يشارك فيها المشاركون في الطقوس ذاتها بصورة دورية .

ب – الأسطورة والأدب:

إذ تحدثنا عن الرابطة التي تجمع بين الأسطورة والأدب فإننا لاشك سنجد أنها علاقة بين مستوى من الفكر وأداة تعبير، ولاشك ان العلاقة قوية بين الاثنين؛ لأن الأسطورة هي أدب (فالحقيقة إن الصلة بين الأسطورة والتاريخ صلة قوية تحتم ضرورة الاستفادة من المادة الأسطورية كمصدر للمادة التاريخية فالأسطورة تعبير أدبي عن أنشطة الإنسان القديم الذي لم يكن قد طور بعد أسلوبا للكتابة التاريخية يعينه على تسجيل إحداث يومه فكانت الأسطورة هي الوعاء الذي وضع فيه خلاصة فكره، والوسيلة التي عبر بها عن هذا الفكر وعن الأنشطة الإنسانية المختلفة التي مارسها بما فيها النشاط السياسي والديني والاقتصادي)

إن الحديث عن هذه العلاقة يعني الحديث عن ثلاث مستويات، الأول يتعلق بالأسطورة، والثاني يتعلق بالأدب الأسطوري، والثالث يتعلق بالمضمون الفكري للأسطورة .

أولا- الأسطورة: تشكل الأسطورة ظاهرة تتسم بالشمول؛ لأنها تحوي حقب الحضارية ففي أعماق تاريخ كل شعب ظهرت الأسطورة، بل هناك من يراها حتى في الحضارة المعاصرة التي بدورها تشكل أساطير جديدة (كما قال بارت) الذي يرى أن الأسطورة(ظاهرة لازمة المجتمعات قديمها وحديثها بحيث لا يخلو تراث أي أمة من الأمم منها.

والأسطورة من ناحية اللغة ما سطر القدماء والأساطير: الأباطيل والخرافات بوجه عام، وليس مهماً الكشف عن مصادر هذه الخرافات والشكل الذي صبغت به  .

والسطر اللغة هو الصف من الكتاب والشجر والنخل، والجمع من كل ذلك اسطر واسطار وأساطير وأسطورة كما قالوا أحدوثة وأحاديث، قال تعالى: "، والقلم وما يسطرون "، أي وما تكتب الملائكة .

وفي اللغة الإنكليزية يتشكل الحقل التداولي الذي تعتمده في تقديم تعريف للأسطورة: (tale) حكاية، أو كذبة، وشائعة (Fiction) قصة أو خيال أو تخيل و (Fictilious) خيالي أو زائف و(Romance) قصة حب ومغامرة و (Legend) أسطورة (Myth) أسطورة أو خرافة وتفريقا عن المصطلح الأخير (Mythical) أسطورة أو خرافي أو خيالي ولكن (Mythology) تعني مجموعة أساطير وبخاصة الأساطير المتصلة بالإله وأصناف الالهه في (عصور الوثنية) والإبطال الخرافيين عند شعب ما كما تعني: علم الأساطير  .

وان كلمة (Myth) مشتقة من الكلمة اليونانية (Mythos) التي تعني كلمة أو كلام ولم تستعمل هذه الكلمة بمعنى القصة إلا متأخرا() .و (Fabe) خرافة ذات مغزى .

من الملاحظ إن الحقل الدلالي يظهر ان المشترك كونها قصة أو حكاية أو أسطورة تتسم بكونها خالية زائفة خرافية متصلة بحياة الإله، وهي كلام، وقد جعلت هذه المعاني من الأسطورة لتجعل منها مرتبطة بالماضي، وكأن الأسطورة لا ترتبط إلا به . وهو تفكير غير دقيق، ذلك لان الأسطورة تواكب مسيرة الإنسان في ماضيه وفي حاضره، وفي مستقبله، إن هذا الفهم التقليدي للأسطورة - أي ربطها بالماضي – يرتبط بلا شك، بمفهومنا للمعقول واللامعقول بموضوع ما، إذ لا يمكن إن ينسجم مع الترتيب القائم للأشياء، وهي نظرة (ارسطية) تقوم على مفهوم (ماهو مؤكد سلفا) وماهو مثبت وقائم من وجهة نظر الاتفاق العام .

لكن تبقى الأسطورة ذات أهمية كبيرة لكونها تبقى هي حلقة الوصل بين (الحدث) الطبيعي وبين الفعل المقدس والفلسفي وهنا تظهر أهمية أخرى للأسطورة بعدها عتبة مهمة في فهم القدسي والفلسفي العقلي وعلى هذا تظهر ضرورة الأتي:

تشكل الأسطورة دور الوسيط بين " الحدث الطبيعي " والنص القدسي والفلسفي، لهذا يجب إضفاء الأساطير المتوسطة بين الحدث والتجريد الميتافيزيقي واللاهوتي ويجب أيضا كشف الظرف التاريخي للحدث، وعلى هذا يمكن متابعة آليات تشكل المعنى، فالتغير الذي يطرأ على الحدث الطبيعي أو التاريخي يكمن في بعدين:

البعد الأول:

إما إن يرتفع (الحدث) ليندمج في الأساطير ومن ثم تقديم تاريخ مؤسطر أو إنزال الأساطير واسطرة (الحدث) كالذي سوف يشكل معنى مضاد لتلك الأساطير، لان الأساطير في البدء جاءت استجابة لحالة وتفسيراً لظاهرة، مرتبطة بوعي معلن فإذا ما تم إنزال تلك الأساطير وإسباغها على حدث تاريخي فان هذا سيولد الضد (كما قلنا) بمعنى انه سيخلق قطيعة مع ذلك الوعي الذي نشأ فيه أي الوعي الطبيعي . لان التوظيف سوف يسبغ معنى جديداً وسوف يحرف في المعنى الأول لهذا آثرنا هنا أن نصف ذلك المعنى الأول ب"المحيط التداولي الطبيعي" . الذي شكل تعاليا بالحدث من بعده التاريخي إلى الأسطورة من خلال الآليات آلاتية:

1- حذف الزمان، مما يجعل الحدث الممتد عرضة للتغيير عبر مسيرته من الشفاهية إلى التدوين .

2- إنزال الأساطير وإضفائها على حدث أخر، عبر أسطرته وتقديم تفسير ووصف له، ذي بعد أسطوري متعال على التاريخية .

3- إخضاع الحدث إلى الطقس، مما يجعله عرضة للتكرار في سبيل إدراك الحدث الأول، المعنى الأصلي ولا تذكر الحدث ابدأ وتحسينه يساعد الإنسان البدائي على تحقيق الحقيقي والاحتفاظ به .

4- ربطه بمكان رمزي فيصل بالأعلى من ناحية وبالعالم السفلي من ناحية أخرى وهذا المكان يتغير بتغير المتحدثين الذين يريدون إضفاء ذلك التراث على أحداثهم(وإعادة امتلاك تلك الحقائق وإسباغها على تراثها من خلال إحلال ألهيتها محل الإلهية القديمة في فعالية تعكس صراع التواجد وفرض السلطة وامتلاك الأرض و" الرأسمال الرمزي" وتأميمه)

وقد تنوعت الأساطير بأشكال وهيئات فنذكر منها الأتي:

1- الأسطورة من حيث الشكل – وهي، قصة قد تكون شديدة التركيز وكأنها موعظة أو ممتدة كأنها حكاية أو تاريخ لكنها في كل الأحوال تصدر عن اعتقاد ديني يصور قصة تخضع لقواعد السرد القصصي من حبكة وشخصيات وحركة في الزمن وطابعها صوري والرمزية فيها واضحة .

2- الأسطورة ذات الصيغة الحضارية في القدم يمكن إن تتعرض للتطور(صيغتان أو صيغة منها) كما يمكن إن تتعدد طرائق روايتها ولكن هذه المستويات تجري جميعا بقوة عصرها وليس العصور التالية، إن من شروط الأسطورة أنها أبداع مارسته الجماعة، وليس من وضع شخص معين فهي ثمرة ممارسة وتأملات وخيالات مسيطرة على جماعة محددة .

3- تدور موضوعات الأساطير حول الوجود الكوني والخلق الإلهي للبشر، ولهذا تكون الآلهة، وإنصاف الإله مصدر القرار ومحور العمل في الأسطورة فإذا أظهرت في سياق الأسطورة (بعض البشر) فانه سيكون مجرد أداة ويسهم في تحمل شيء محدد .

4- الأسطورة تصور مقالا خارقا جوهريا بالنسبة للكون أو الإنسان، وهذا العدد من الجدية هو الذي جعل عصر الأساطير مقدمة ضرورية لعصر الفلسفة فلم تكن الفلسفة – في بدايتها – أكثر من قراءة رمزية للأساطير تحاول ان تستخلص من مجموعها معنى للعالم وللخلق وللوجود البشري وحماية كيانه الاجتماعي .

5- الأسطورة حكاية مقدسة، انبثقت عن الشعائر الأولى وقد منحها هذا سلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم في زمانها ومن خلال المنظور الديني الذي تنتمي إليه وتثبت معتقدات تلك المنظومة وسطوتها على الاعتقاد والسلوك العام ..

 

د- عامر عبد زيد الوائلي

 

 

 

في المثقف اليوم