أقلام فكرية

التفكير في معنى النظرية السياسة (1): النظرية

علي رسول الربيعيبعد فشل سياسات التجريب فيما كان يسمى العالم الثالت، ولا سيما في الدول العربية ما بعد الاستعمار اصبح من مما له راهنيه هو التفكير في السياسة بطريقة مختلفة عن سابقها وإعادة النظر فيها. والمنطلق الأول لإعادة النظر هذه، هو تجاوز سياسات التجريب من خلال إعادة الاعتبار لأهمية النظرية السياسية في التفكير والممارسة السياسية. ومن هذا الموقع نرى ضرورة التفكير في النظرية السياسية فيما تعني مِن أُسِسها ومُقوماتها.

ما الذي يجعل قضايا معينة توصف بالسياسية؟ قد يكون تميزها بهذا الوصف عندما ترتبط ببعض مؤسسات الدولة مثل: السلطة القضائية، الحكومة، السلطة التشريعية. كما تشير إلى سلطة اتخاذ القرار في هذه المؤسسات. هل يُبنى على ذلك أن المصطلح "سياسية" يشير إلى أي مؤسسة عامة تملك سلطة اتخاذ القرارات وإجراءاتها؟ تمتلك القرارات القدرة على التأثير على كل عضو من أعضاء المجتمع المعني تقريبًا، حتى عندما يبدو أن قرارًا معينًا يستهدف مجموعة محددة، فإنه يرتبط ويؤثر على المجموعات الأخرى. فهل يشير مصطلح "سياسية" إلى السلطة المشتركة لاتخاذ قرارات حول الحياة المشتركة للمجتمع؟

إنه سيكون من الخطأ أن نختزل هذا المصطلح بهذه القوة المشتركة لمؤسسات الدولة فقط. فلو أخذنا بنظر الأعتبار مثال المنظمات النسائية (التي بدأت تنتشر في الدول العربية)  والتي تحتج على الإقصاء أو المعاملة غير المتكافئة للنساء. يعتبر هكذا عمل من قبل مجموعة من النساء طبقا لفهم  معنى الـ "سياسية"  هذا  ليس سياسيا. لكن لماذا؟ لأن المنظمات النسائية ليست جزءًا من الدولة. ولكن بالتأكيد، أي فهم بديهي لمثل هذا العمل يُعتبر سياسي، وعليه فإن مثل هذا الاحتجاج من قبل مجموعة نسائية هو أمر سياسي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يجبرنا على تغيير أو توسيع فهمنا لمصطلح "سياسية". ليس هذا الاحتجاج سياسياً فقط لأنه عمل جماعي من قبل مجموعة ضد بعض ممارسات اجتماعية مستمرة أو قرار حكومي به تمييز ضد النساء ولكن أيضاً لأن الهدف الأساسي من هذا الاحتجاج، ألا وهو معاملة النساء غير المتساوية هو جزء مما نفهمه بمصطلح "سياسية".

تشير النظرة المتفحصة عن قرب الى أن السياسية هي ذلك المجال أو البعد في حياتنا الجماعية الذي نناضل به من أجل مصالحنا، ونقدم به ادعاءاتنا، بما في ذلك مطالباتنا الأخلاقية، على بعضنا البعض، حيث يتم التنازع على القضايا الهامة والعاجلة ايضا. فالمطالب، والاحتجاجات، والشكاوى لا يمكن إلا أن تولد الصراع. فيبدو أن السياسية جزء مكون من  طبيعتها هو النزاع أو الصراع. أخيراً، قد ننظر إلى السياسة بمعنى مختلف. وهو أنها قد تتضمن رؤية لعالم مستقبلي  يكون فيه الجميع متساوين.  لدى الكثير منا رأي حول معظم هذه القضايا السياسية. يهتم بعضنا بالبحث عن تفسير ما إذا كان هناك أي دوافع وراء أعمال هؤلاء الفاعلين في الشأن السياسي؟ هل تخدم أفعالهم مصلحة المجتمع بأكمله، أم المصالح الضيقة لطبقة أو جماعة معينة، أو ربما تخدم نخبة سياسية صغيرة؟ على سبيل المثال، قد يجادل البعض بأن مسألة هوية جماعة معينة تستخدم لتعزيز مصالح فئة من هذه الجماعة، بينما يدعي آخرون أن الهوية ليست هي القضية، وأن الدافع الحقيقي وراء كل إجراء سياسي هو المصلحة الطبقية. أو قد يكون عدم  تنفيذ مطالب بعينها ناجماً عن تحيزات مؤسسية نظامية كامنة تعبر عن طبيعة وعي من يمسكون بمواقع السلطة.

هل تقوم النظرية السياسية بالطريقة نفسها التي يجري بها تفسير فعل أو ممارسة أو حدث؟ لا يبدو هذا كذلك. فعلى الرغم من أن التفسير هو جزء من النظرية السياسية لكنه بالتأكيد ليس كلها. ويعود ذلك لسببين مختلفين. أولا، لأن لا يشكل التفسير في حد ذاته نظرية. إذا قلت أنني سقطت لأنني تعثرت بدون علم على حجر أكون قد قدمت تفسيراً عن سبب سقوطي، لكن هل عرضت نظرية عما حدث؟ أو إذا قلت إن الولايات المتحدة قد غزت العراق للحصول على النفط بسهولة، سأكون قدمت بعض التفسير لماذا تصرفت الولايات المتحدة بالطريقة التي تصرفت بها. ولكن هل يمثل هذا نظرية؟ بالتأكيد لا ولكن لماذا؟ ربما لأن تفسيراً واحداً لا يقدم نظرية. مطلوب بعض المقومات الأخرى، بالتزامن مع التفسير لتصبح نظرية تفسيرية. ثانيا، ليس جميع النظريات تفسيرية. هناك أنواع أخرى من النظريات (النظريات التتبريرية أو التسويغية). على سبيل المثال، توفر بعض النظريات مبررات أو مسوًغات لإجراءات أو لأفعال تحدث. فمثلا قد يدين بعضنا بصمت الحقوق المتساوية للمرأة في الأرث أو يبرر قسوة الشرطة. قد يختلف الآخرون ويشجبون اسلوب الشرطة هذا بوصفه انتهاكا لأبسط حقوق الإنسان، أو يبتهجون للمساواة في الأرث لأنه يعالج قضية جنسانية مهمة تم إهمالها حتى الآن. لاتشكل هذه الأراء التبريرية نظرية ولكنها قد تكون من مكوناتها الأساسية. علاوة على ذلك، يعبر شجب اسلوب الشرطة عن موقف تقييمي بشكل سلبي. فجميع التبريرات تفترض التقييم، وأن وراء هذه الأحكام التقييمية قضايا أعمق. لماذا يجب، مثلاً، معاملة النساء والرجال على قدم المساواة؟ وما هو الرد المناسب من قبل الحكومة على عمليات القتل الجماعي؟ ما العلاقة بين ضمان التوظيف للجميع والعدالة الاجتماعية؟ ما هي الوظيفة الصحيحة للشرطة في دولة ديمقراطية. نلاحظ  كثيرا ما يتم ضرب العمال المحتجين بسبب عصيانهم للدولة. لكن لماذا يجب أن نطيع الدولة على الإطلاق؟ لماذا يجب أن نكون مواطنين يحترمون القانون؟ مثل هذه الأسئلة لها علاقة بالصواب والخطأ، الخير والشر؛ أيً ، بالأخلاق، والمعيار. قد لا تشكل الإجابات عن هذه الأسئلة من تلقاء نفسها نظرية، لكن ما هي السمات الإضافية الضرورية لكي تصبح نظرية؟ تتبادل النظرية السياسية الخصائص مع نظريات ظواهر أخرى. فقد يكون لها بعض السمات المشتركة مع نظريات الفيزيائية أو البيولوجية. ومع ذلك، بحكم كونها نظرية سياسية لابد من أن تمتلك خصائصه الذاتية التي تميزها. تفصل بعض هذه الخصائص أو السمات النظرية عن نظريات العلوم الطبيعية ولكن لاتفصلها من نظريات تتعلق بشؤون الإنسان بشكل عام. ينبغي أن تنشأ  خصائصها المميزة من تركيزها على السياسية. نوجز في ما يلي، الخصائص الأكثر شمولية لأي نظرية، وعلى وجه الخصوص الخصائص لنظرية تتعلق بالوضع البشري وبالعمل أو الفعل. من أجل القيام بذلك، نربط النظرية ونميزها عن الأشكال الأخرى من التأملات أو التفكير مثل الفن والأدب ووجهات النظر الدينية عن العالم. أخيراً ، نسأل السؤال "ما هي السياسية" ، ونوجز السمات المحددة للنظرية السياسية.

مميزات النظرية

النظرية أحد أشكال التعبير المنظومية المنهجية المتناسقة التي تعتمد على اللغة، وهي تختلف عن أشكال أخرى من التفكير. فتختلف عن المقال الذي له شكل معين يمزج بين الوصف والتحليل الموجز، ويختلف عن الحوار المكتوب وكذلك عن الشعر والحكايات الشعبية والقصص والأساطير. تعبر النظرية، شأنها شأن تعبيرات أخرى، في وسط معين عن عالم مفاهيمي، وتحيا عمليًا بواسطة مجموعة محددة من الفاعلين أو العوامل البشرية. وتعبر عن ذلك بطريقتها الخاصة. ما الذي يميز النظرية عن التعبيرات الأخرى المعتمدة على اللغة؟ سأقدم هنا ستة ميزات للنظرية، تشترك أربعة منها مع الفلسفة واثنين خاصة بها كنظرية.

تتعلق الميزة الأولى بالبنية الداخلية للمفاهيم، وكيفية ارتباطها ببعضها البعض، وكيف تتشكل في مجموعات، وكيف تعيًن بدورها حدودها الخاصة. يركز الفيلسوف أو المنظّر - سأستعمل هذه المصطلحات بشكل تبادلي - على معنى الكلمات/ المفاهيم، وعلى الطرق المختلفة التي تُستعمل بها الكلمات بحيث يمكنه في النهاية الإجابة عن أسئلة، ما هي العدالة مثلا؟ ما معنى عبارة "الثورة الاجتماعية" وكيف تختلف عن "الإصلاح الاجتماعي "أو" الهندسة الاجتماعية "؟ ما هي الفكرة الأساسية للحرية، إذا كان هناك فكرة اساس واحدة؟ ما هي التفسيرات المختلفة لهذه الفكرة الأساسية؟ ما هي العلاقة بين الحرية والمساواة؟ وبين الحرية والعدالة؟ ما الذي يميز السلطة عن النفوذ أو القوة أو العنف أو الإقناع؟ نستعمل في الحياة العادية، الكلمات بشكل أو بآخر، ولا نضطر عادة إلى طرح مثل هذه الأسئلة. ولكن يجب على الفلاسفة طرح هذه الأسئلة وفهمها بطريقة معينة. عندما يُسألون ما هو الوقت، لا نتوقع منه النظر إلى ساعاتهم وإخبارنا بالوقت الدقيق لهذا اليوم. يُتوقع من الفلاسفة أن ينقلوا إلينا ما معنى الوقت أو الزمن وماذا يعني لنا أن نعيش في الزمن. وبالمثل، إذا طُرح سؤال على فيلسوف حول الاحتياجات الأساسية، فلا يُتوقع منه أن يقدم لنا قائمة بأكثر رغباتنا إلحاحا، بل ليجعلنا نفهم كيف تختلف الاحتياجات عن الرغبات العادية وما هو الفرق بين أكثر ما نحتاج إليه وما لا يمكن تفاديه أوأن نعيش بدونه.

لا نهتم عادةً باستعمال كلمة ما حرفياً أو مجازًا أو كليهما طالما تخدم غرضنا. يستعمل الشعراء والروائيون وكتاب المقالات كلمات باسلوب  شخصي عن وعي وبحرص شديد، ولكن ليس من شأنهم أن يشرحوا لماذا اختاروا استعمال هذه الكلمة بدلاً من كلمة أخرى أو عمل صلات واضحة بين المفاهيم المختلفة. ان هذا من وظيفة الفيلسوف بوصف الفلسفة جزء من النظرية أو التفكير النظري، ووظيفة المنظر هي تحقيق هذا بالضبط. إن الحساسية تجاه شبكة المفاهيم والالتزام بصياغتها هي الميزة الأولى للنظرية.

دعني أوضح هذا بمثال آخر. لنفترض أن أحدهم دعى الى الحرية: يجب أن نكون جميعًا أحرارًا!

بدايةً، يجب أن يفهم الناس ماذا يعني أن تكون حراً. بمجرد فهمهم لمعنى الحرية أو بالأحرى المعاني المختلفة لها، قد يسألون لماذا يجب أن يكونوا أحرارًا  أو، على الأقل، لماذا يجب أن يكونوا أحرارًا في هذا المعنى بدلاً من بعض المعاني الأخرى. (في زمن مضى قامت بعض تقاليد النظرية السياسية إلى تقليص دور النظرية على تحليل المفاهيم السياسية، رغم تجاوز هذا لاحقا الا أنه يبقى للتحليل المفاهيمي أهمية  كبير جدا كجزء من النظرية السياسية). أن تكون متحررا من شيء ما هو  أن تتخلص منه. وما ترغب في التخلص منه لابد أن يكون شيئًا ما تقيمه بشكل سلبي. عادة ما تسمى في الأدبيات المتعلقة بالحرية، الأشياء التي ترغب في التخلص منها بالقيود. لذلك أن تكون حراً هو أن تكون  تخلصت من القيود. لكن ما هي طبيعة هذه القيود؟ من المؤكد أن أفكارنا حول الحرية تعتمد على فهمنا لماهية هذه القيود. هل هذه القيود مادية بحتة؟ خذ المثال النموذجي للحرية. يعتبر الانسان المقيد في سلاسل التخلص من هذه السلاسل هو الحرية. وبالطريقة نفسها، يصبح السجناء احرار فور اطلاق سراحهم. نلاحظ قد تغيًر مفهوم القيد بالفعل مع هذا المثال الأخير؟ المسألة هنا ليست مجرد فكرة القيود المادية ولكن القانونية أيضاً. قد يكون الشخص وضع وراء القضبان لأنه تم القبض عليه يسرق. إنه قام بالسرقة لأنه كان حرًا و تم سجنه لأنه من  غير القانوني للقيام بذلك. أنه كان حرًا فتمكن من السرقة ومع ذلك، تم سجنه لأنه من غير القانوني القيام بذلك.

هل هذا كل ما في الحرية؟ لاحظ أن القيود المادية والقانونية هي خارجية. فقد يكون الشخص غير حر ليس بسبب وجود قيود جسدية وقانونية -  ولكن بسبب الحواجز النفسية، والعقبات الموجودة في تكوينه العقلي. لنفترض أن عبدا تم إطلاق سراحه و أصبح الآن مساويًا من الناحية الشكلية والعملية لسيده السابق. ولنفترض أن كلاهما يتنافسان في امتحان مفتوح،  ينجح السيد السابق في الأمتحان بشكل جيد، إلا أن العبد السابق لا يستطيع أداء الأمتحان بنجاح. لقد أخذت منه  قرون من العبودية الثقة الذاتية الأساسية اللازمة لأداء ناجح. وهو غير قادر على تحقيق أهدافه ليس بسبب القيود المادية أو القانونية وإنما بسبب القيود النفسية الداخلية. إن الذي يتصور مفهوم الحرية بمصطلحات مادية أو قانونية بحتة لا يستطيع أن يستوعب آلية عدم الحرية التي تعمل هنا. ويمكننا كذلك التحدث عن قيود ليست خارجية بحتة ولا داخلية بحتة، لكن من كلاهما، الا وهي القيود الاجتماعية. يكون الشخص حرًا ماديًا وقانونيًا للدخول إلى نظام التعليم العالي. لقد نجح في امتحاناته المدرسية، وهو ما يكفي للحصول على مكان في كلية عالية المستوى. لكن التعليم العالي مكلف. ولا توجد إعانات أو منح دراسية. فرغم أن الشخص واثق من أنه سوف ينجح  ولديه كل الأسباب ليشعر بذلك. ولكن لأنه لايحصل على إعانات أو منح دراسية فأنه لا يستطيع الحصول على التعليم العالي.  أنه يعاني من الفقر وهذا ما يشكل  قيدًا اجتماعيًا اقتصاديًا كبيرًا على ما يود فعله. يتضمن هذا مفهوم مختلف للحرية:  فهناك غير القيود المادية والقانونية والنفسية وهي الاجتماعية والاقتصادية.

ركزنا حتى الآن على القيود. غير أن مفهومنا للحرية يتغير مع أفكارنا حول ما نرغب فعله بمجرد تحريرنا من القيود أيضاً. يزعم البعض أنه يكفي أن نكون قادرين على الوفاء بكل ما نتمناه حاليا. إذا كنت أرغب في التدخين ولا توجد قيود تمنعني من القيام بذلك، فأنا حر. يرى آخرون بأن التركيز على الرغبات غير المثمرة يسىء الى فهم مسألة موضوع النقاش حول الحرية. يعمل هؤلاء الناس الآخرون مع مفهوم أقل عقلانية وأكثر قوة من العقل ويعتقدون ويجادلون بأن المرء يتمتع بالحرية فقط عندما يكون هناك غياب للقيود وفرصة حقيقية للقيام بما نقيمه ليكون جيدًا لنا. من وجهة النظر هذه، إذا كانت المعلومات التي تفيد بأن السجائر ضارة بالصحة متاحة لنا ولكننا نواصل الرغبة في التدخين وتحقيق هذه الرغبة، فإننا في الواقع لا نتحرر. نحن لسنا أحرار لأننا نستسلم لعادة أو إدمان فنتجاوز تماما، أو نتجاهل، أو نتهرب من ما يقوله عقلنا ما هو جيد بالنسبة لنا. أن تقع فريسة للرغبات الظرفية غير القيًمة، تعتبر من وجهة النظر هذه، أنك غير حر. الحرية هي شرط من شروط الحياة والقيام بالأشياء التي يتم تقييمها لتكون جيدة بالنسبة لنا، ولتحقيق الرغبات التي يستحق أن يكون لها قيمة في المقام الأول. يؤدي هذا الرأي إلى فكرة أن الحرية متطابقة مع تحقيق الذات. إن التفصيل الموسع  للمفاهيم المختلفة للحرية هو أحد مهام  النظريات السياسية. المهمة الأخرى هي تقديم السبب لأختيار مفهوم معين للحرية بدلا من مفهوم أخر. إنه بالأحرى تقديم تسويغ لماذا  مفهوم معين أفضل من المفاهيم الأخرى .

وهذا يقودني إلى الميزة المميزة الثانية للنظرية، وهي أن كل ما يقال ويفعل، هو مشروع عقلاني، حيث يفهم مصطلح العقلاني هنا على نطاق واسع بوصفه يعني أن الاستنتاج الذي اصل اليه له أسباب تكمن خلفه، لا يعني هذا القول ضمناً أن الفلاسفة أو المنظرين لا يعتمدون على الغرائز أو العواطف أو ومضات البصيرة، ولا يعني أيضاً أن التحقيق الفلسفي أو النظري يجب أن يمتلك بنية حجة محددة من النوع الذي يقول به علماء المنطق على الرغم من أن بعض الفلسفات والنظريات قد يكون لها هذا النمط.. ولكنه يعني عندما يقوم الفلاسفة والمنظرين بتأكيد  قضية أو اقتراح ما، يجب عليهم ذكر سبب قيامهم بذلك. وبعبارة أخرى، يجب عليهم إعطاء سبب. قد لا نكون راضين، مثلاً، عن تقديم سبب واحد والتوقف عن  التسـاؤل عند هذه المرحلة. فيمكن أن يكون هناك سببٌ لسبب سبق تقديمه وسببٌ سبَّبَ السبب الأولي. بعبارة أخرى، هناك سلسلة من الأسباب التي لا يمكن الاستغناء عنها في العمل النظري أو الفلسفي سواء تم الأشارة اليها بصورة مباشرة أوغير مباشرة. هل يعني هذا أننا نستطيع الوصول إلى السبب النهائي، سبب لا يوجد بعده سبب، وهو أساس لكل الأسباب؟ يبدو أن بعض الفلاسفة مهووسين بفكرة السبب النهائي أو المسوغ النهائي لحدث أو فعل. لكن أشك في أننا لا نستطيع أن نصل إلى القاع الأسفل لكل الأشياء.

خذ عن سبيل المثال النظريات العلمية. لنفترض أن أحداً أدعى أن الماء مركب. يجب عليه في هذه الحالة أن يدعم أدعاءه هذا ببعض الأدلة التي تثبت أنه يتكون من عنصرين هما الهيدروجين والأكسجين، وأن هذه التركيبة ليست مجرد مزيج  لخصائصهما، بل هي مادة جديدة ذات خصائص ذاتية. علاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا الدليل مدعومًا بمزاعم أكثر عمومية حول الآليًة التي تتم بها هذه العمليًة.

يضيء العنصر العقلاني في النظرية سمة أخرى من سماتها الهامة، وهي الميزة الثالثة، أنها التطلع إلى الحقيقة والموضوعية. المطلوب أن يكون هذا الادعاء شديد الحذر لكنه واضح. فليست النظريات الاجتماعية والسياسية صالحة لكل زمان ومكان. فمعظم النظريات تعتمد على السياق، وبالتالي، تقتصر على أوقات وأماكن محددة. هناك فقط بعض النظريات الاستثنائية التي تكون عابرة للزمان والمكان. انها قابلة للتحقيق لكن على أي حال هي في النهاية محدودة جداً. يجب أن نتخلص من الوهم القائل بأننا مثل الله، فيمكننا نحن البشر أن نقف خارج كل وجهات النظر ونحرز موضوعية الله أو نصل الى حقيقة نهائية للمسألة المطروحة. تعتمد الحقيقة التي نحرزها على المنطق الجماعي للبشر، حتى لو وافق جميع الأشخاص العقلانيين في وقت ما على أنهم وصلوا إلى حقيقة مسألة معينة، فقد يتم اكتشاف معلومات جديدة أو عيب في أحد الأدلة أو الحجج في وقت لاحق يمكن أن يجبرنا على مراجعة مزاعمنا عن تلك  الحقيقة.لا تستطيع المعرفة البشرية أن تفلت تماما من وجهات النظر الشخصية، ولكن أيضاً لا تُسجن في إطار التحيزات الشخصية للطبقات الثرية أو الكتل السياسية القوية أو حتى المثقفين. قد تنتشر مثل هذه الآراء كمعرفة لبعض الوقت ولكن تظهر محدوديتها عاجلاً أم آجلاً، ربما نصل إلى صياغة مقبولة يمكن المطالبة بها كحقيقة.إنه إنجاز غير ممكن دون استعمال العقل، على الرغم من أن العقل وحده لا يمكن أن يساعدنا في تحقيق ذلك.

إذن نحن غير قادرين على الوقوف خارج جميع وجهات النظر، ولا نتمكن من الارتباط بعالمنا إلا بمساعدة بعض المنظورات، فبعض الرغبات بالمنفعة، والحكم المسبق، والافتراض المسبق، والتحامل أو التحيز سوف تكون موجودة في "الأساس" دائمًا. إن الطريق  المثمر والأكثر فعالية هو الاعتراف بهذا والتعبير عنه، والانخراط في النقد الذاتي له. إن تجاهل ذلك أو العيش في وهم أننا تجاوزنا ذلك سيبعدنا عن حقيقة وموضوعية ممكنة إنسانيا ويغرقنا في مزيد من الجهل. هذه هي البصيرة العظيمة للفلاسفة الاجتماعيين مثل غادامير. بكل بساطة، نحن بحاجة إلى الابتعاد عن زخارف البحث غير المجدي عن اليقين العقلاني المطلق، والأدلة الحاسمة، والاستنتاجات التي توصلنا إلى أحكام نهائية.

الميزة الرابعة للنظرية هي أنها ملتزمة بكشف خلفية الافتراضات المسبقة لآراءنا ومعتقداتنا وأفعالنا وممارساتنا. عن سبيل المثال، يفترض كل عملنا قوة الجاذبية. قد لا نعبّر عن هذا دائمًا، ولا يدرك الكثيرون منا أن الأمر كذلك. ومع ذلك، لا يمكن للناس الوجود على هذه الأرض، من دون قوة الجاذبية. نحن نعمل ونفكر جميعًا بوجود هذه الافتراضات المسبقة، ولكننا لا نوضحها دائمًا. لنأخذ مثالاً، في القرن السابع عشر في إنجلترا ، بدأ يفكر السياسيون بالسياسة دون اللجوء الى المبادئ الدينية. لكن في كثير من الأحيان، لم يعترفوا بذلك. لقد تُركت لهوبز مهمة التعبير عن هذه الافتراضات الأساسية الجديدة ولإبراز أنه من الممكن ممارسة السياسة بطريقة علمانية بدون ضمانات لاهوتية. وهكذا، ضمن حدود معقولة، يلتزم الفلاسفة والمنظرين بتوضيح هذه الافتراضات المسبقة.

إن كشف مثل هذه الافتراضات المسبقة له قيمة إدراكية. إنه يساعد على زيادة إحساسنا بما هو على المحك. فيتطلب من الباحثين، عند تفسير أي ظاهرة بشرية، ألا يتجاهلوا العامل أو الفعل البشري. فالفعل هو السلوك الذي يسترشد بالنوايا والمعتقدات والرغبات والأغراض، وهلم جرا. توجد هذه النوايا في عقول الأفراد. لذلك، لشرح أي ظاهرة بشرية، جماعية أو فردية، يجب على المرء أن يشير إلى الكيانات الموجودة في عقول الأفراد؛ والى تلك التي قد توجد خارج عقول الأفراد أيضا في البيئة الخارجية للفاعلين، أيً، في مجتمعهم أو فيما يسمى بالعقل الجمعي. فيقع على المنَّظِر أو الفيلسوف مهمة إعادة فحص هذه المطالبة بالحفر أعمق.

الميزة الخامسة للنظرية - وهنا قد تبدأ الفلسفة والنظرية في الاختلاف – هي: طموح النظرية إلى أكتساب درجة من العمومية والتجريد بهدف أن تغطي مجموعة واسعة من الظواهر المتابينة التي تتصل بعمل النظرية. لا يعني هذا أن جميع النظريات هي عالمية في نطاقها.  لكنه يعني لا يمكن  للنظرية أن تتعامل مع مادة محددة في صيغة المفرد فقط. لدينا، مثلا، نظرية الحركة التي تنطبق على الكواكب كما كما على الحجارة المتدحرجة بالتساوي. لدي هذه النظرية درجة عالية جدا من العمومية في مايخص الحركة. فلا يمكن أن تكون هناك نظرية حصرية للحجارة المتدحرجة. وبالمثل، يمكن أن يكون لدينا دراسة وصفية للقومية التركية أو دراسة تجريبية لأسباب ودواعي وبواعث القومية التركية. لكن من غير المرجح أن تكون لدينا نظرية عن القومية تنطبق على تركيا فقط.

وأخيرًا، الميزة السادسة للنظرية، وهي من نتاج الظروف الحديثة حيث ظهرت مع ولادة العلوم الحديثة. فالنظريات الحديثة ليست تأملية بحتة وأنما تمر من خلال العالم التجريبي. فلا يمكنها تجاوز العالم التجريبي تماما. ترتبط هذه الميزة بالنقطة المذكورة سابقًا. فلا يمكن للمنظرين تجاهل البيانات التي هي نتاج التجربة الجماعية الحيًة لشعب؛ وما تم ملاحظته ودراسته من قبل  مفكرين وعلماء إجتماع بارعين. ولهذا السبب، يجب أن تكون النظرية، في الوقت نفسه، متجذرة ومتتجاوز للتجربة الحية المعاشة لشعب ما، ولممارساته جماعية لمجتمع، ولتفاهماته واتفاقاته المتجسدة في الوعى العمومي والحس المشترك. لا توجد نظرية إذا كان هناك مجرد وصف للتجربة المعيشية والحس المشترك، وتبقى النظرية بالأسم فقط  إذا كانت الافتراضات النظرية منفصلة تمامًا عن الخبرة والممارسات والبيانات التي تم جمعها من خلال استفسارات تجريبية دقيقة وسليمة.

دعني ألخص. النظرية هي شكل من أشكال التفكير المنهجي في ست ميزات: (1) الحساسية المفاهيمية؛ (2) بنية عقلانية؛ (3) التطلع إلى حقيقة وموضوعية يمكن تحقيقهما إنسانيا؛ (4) العمومية، (5) كشف الافتراضات والافتراضات المسبقة، (6) التزام قوي في الحاجة إلى عدم تجاوز نتائج التحقيقات الدقيقة بوجه الخصوص. المطلوب أن تمتلك النظرية هذه الميزات الستة ولو بنسب متفاوته. وعليه تتطلب النظرية لتمتلك صفتها أن تكون متميزة بذاتها ومستقلة عن التأملات المجردة، والتبصرات، والتخيلات، والقصص وهكذا. كما تمييز عن الأيديولوجية، ورؤى العالم، وهكذا قد تكون عينة نادرة النظرية ذات السمة العالمية أو تصل إلى الأسس ولكن، على وجه العموم، لا تشتمل السمات التأسيسية لنظرية ما على التزام تجاه الأسسية أو الشمولية.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم