أقلام فكرية

فلسفة العلم من الحداثة إلي ما بعد الحداثة

محمود محمد عليكانت فلسفة العلم حتي منتصف القرن العشرين، قد انصبت كل مجهوداتها في التركيز علي أهمية وقيمة المنهج العلمي والمعرفة الموضوعية، فنجد دعاة الوضعية المنطقية يعولون علي أن المنهج العلمي لا بد من تطبيقه في مرحلتي المشاهدة وجمع المعطيات، ومرحلة الحكم والتحليل. وبتعبير " آلان شالمرز": "وتأتي موضوعية العلم الاستقرائي النزعة من كون الملاحظة والاستدلال الاستقرائي موضوعين هما ذاتهما . فمن الممكن أن تجد منطوقات الملاحظة تأكيدها في أي ملاحظ يستعمل حواسه استعمالاً عادياً . فلا مكان هنا للبعد الشخصي والذاتي . فصلاحية منطوقات الملاحظة التي تحصل علي نحو صحيح، لا تتوقف علي ذوق الملاحظ ولا علي رأيه أو آماله أو انتصاراته . وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلال الاستقرائي الذي ينتج المعرفة من منطوقات الملاحظة .فأما أن تستجيب الاستقراءات للشروط المطلوبة وإما أن    لا تستجيب . فتلك ليست مسألة ذاتية متعلقة بالرأي  ".

وإذا انتقلنا إلي موقف " كارل بوبر" Karl Popper ( 1902-1994) من المعرفة الموضوعية، نجد أن الموضوعية عند بوبر ليست صفة يمكن العثور عليها بسهولة، إذا فهمنا الموضوعية بمعني المطابقة للواقع، إلا أنه يقبل النوع الآخر للموضوعية وهو إمكان الحكم للعموم، وبحسب تعبيره : "ما أقصده من لفظ موضوعي وذهني ليس بعيداً كل البعد عن ما يقصده كانط منهما؛ فهو يقصد من وصف المعرفة العلمية بالموضوعية أن يكون صوابها بعيداً عن الوهم والرغبات الخاصة بهذا وذاك. والدليل على الموضوعية عنده (كانط) هو أن تكون القضية قابلة للتدقيق لكل من أراد ذلك واستطاعة. ولكن الفرق بيني وبينه، هو أنني اعتقد عدم إمكان الحكم بالصواب بمعناه الكامل على أي نظرية علمية. وعليه، فالموضوعية ليست إلا إمكان التجربة والاختبار للنظرية العلمية فحسب" .

ولذا يرفض بوبر النظرية الذاتية لدراسة نمو المعرفة، وهي النظرية التي تطابق بين المعرفة العلمية والذوات المنتجة لها، وذلك لأنه يري أن المعرفة العلمية معرفة موضوعية وتوجد في العالم الثالث Third world .

ولقد سار علي نهج بوبر في الإيمان بفكرة الموضوعية هو العالم والفيلسوف المجري " إمري لاكاتوش " Imre Lakatos (1922-1974)، الذي يؤيد النرعة الموضوعية في العلم .

وفي عام 1962م قام " توماس كونThomas Kuhn  (1922-1996) "بنشر كتابه ( بنية الثورات العلمية)، الذي خصصه لدراسة العلم في أطر جديدة تقوم علي تقييم العلم من الناحية الاجتماعية، حيث لم يعول علي القوانين المنطقية التي قدمها دعاة الوضعية المنطقية في الفلسفة، ليس هذا فقط بل عارض كل المواقف التقليدية في فلسفة العلم، فهو يقول " لقد بحثت المناقشات التقليدية للمنهج العلمي عن مجموعة من القواعد التي سوف تتيح لأي فرد أن يحرص علي اتباعها أن يصل إلي معرفة صحيحة . وقد حاولت - بدلاً عن ذلك – التأكيد علي أنه بالرغم من أن العلم يمارسه أفراد، إلا أن المعرفة العلمية في حقيقتها نتاج جماعة . ولن تفهم فعاليتها المميزة ولا الأسلوب الذي تتطور به دون الإشارة إلي الطبيعة الخاصة بالجماعات التي تنتجها .

وهذا البعد السوسيولوجي الذي حاول كون إدخاله في فلسفة العلم، جعله ينظر للنزعة الموضوعية في العلم في إطار القيم المشتركة للمجتمع العلمي، وهذه القيم ليست محددة ويختلف تطبيقها من فرد لآخر، حيث لا وجود لمشاهدة صرفة محايدة ، بل النموذج القياسي الارشادي العلمي هو الذي يجعل العلماء يرون الواقع بشكل خاص دون غيره. وعليه فإن النموذج الذي يختاره العالم هو الذي يجعله يعتقد أن بعض الأمور المشاهدة مهمة وأساسية وغيرها فرعي لا أهمية له. وبالتالي عندما تكون المعايير المتبناة للموضوعية تابعة للنموذج، عندها سوف لن يكون هناك أي معيار موضوعي وغير ذاتي لتقييم المعرفة. ومع أننا نستطيع الموازنة بين النظريات ضمن نموذج واحد، إلا أن تقييم النماذج والحكم على موضوعيتها أمر لا يمكن نيله والوصول إليه .

ويشرح " كون هذا بقوله :" إننا لا نعتقد أنه لا توجد قواعد لا ستقراء النظريات الصحيحة من الوقائع، كما أننا لا نعتقد حتي أن النظريات – سواء أكانت صحيحة – يتم استقراؤها علي الإطلاق . وبدلاً عن ذلك، فإننا نري هذه النظريات بوصفها تخمينات مبدئية يتم ابتكارها ككل من أجل التطبيق علي الطبيعة ... ومن ثم فلن يتم – من منظورنا – ارتكاب خطأ عند الوصول إلي النظام البطلمي، ولذا من العسير أن أفهم ماذا يقصد سير كارل (يقصد هنا كارل بوبر) عندما يطلق علي هذا النظام بأنه خطأ" .

إن هذا النص يبين أن العلم تحت النموذج القياسي الجديد لا يخضع لأية معايير تجريبية، كدرجة التأييد أو افتراض استقرائي ولا عن طريق التعزيز، وإنما يخضع هذا القبول إلي معيار ذاتي اجتماعي، أي لا بد أن يكون هناك اجماع بين العلماء وتعلق بهذا النموذج القياسي الجديد.

وإذا انتقلنا إلي " بول كارل فييرآبند " Paul Karl Feyerabend (1924-1994)، نجد أنه قد تناول في فلسفته العلمية مشكلة الصدق والحقيقة الموضوعيين بالمناقشة والنقد، فليس ثمة صدق موضوعي أو حقيقة موضوعية في العلم، حيث أن الصدق نسبي من منطقة إلي أخري، ومن مكان إلي مكان، ومن شخص إلي شخص، ويهتم فييرآبند بالنسباوية الابستمولوجية التي تنكر أن تكون ثمة أفكار جديدة أو أشكال معرفية جديدة تفرض نفوذها علي التقاليد الأخرى، وتثبت أن هناك تقليد واحد هو الصحيح بحجة أنه موضوعي، ولهذا فإن فكرة الصدق الموضوعي أو الحقيقة الموضوعية، وإن كانت مستقلة عن الرغبات الإنسانية، إلا إنها يتم اكتشافها عن طريق التأثير الإنساني ... بالإضافة إلي أن النظريات العلمية تتفرع إلي إتجاهات مختلفة وتستخدم تصورات مختلفة وأحياناً غير قابلة للقياس، فأي من هذه المضامين المتعددة يوصف علي أنه دليلاً علي موضوعية نظرية ما؟ وأي منها يوصف علي أنه إجراء علمي موضوعي مناسب لها؟ إن الإجابة، لا يوجد، فكل هذا يعتمد علي الاتجاهات والحجج التي تتغير من وقت لآخر ومن جماعة بحث إلي جماعة أخري بحث أخري لاحقة لها .

إن الفكرة المسبقة التي يعول عليها فييرآبند هي أن المعرفة تتخذ من من الاعتقاد المسبق أساساً تنطلق منه النظرية العلمية المكتشفة، كما تدخل فيها الذات الإنسانية بشكل أساسي . وهذا يؤدي إلي شيئين أو نتيجتين :-

1- إستحالة الوصول إلي معرفة موضوعية تماما عن العالم المادي . وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا وفروضنا المسبقة .

2- إن معرفتنا عبارة عن تركيب عقلي Mental Construction تلعب فيه الذات دوراً أساسياً، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للوقائع .

ومن هنا ذهب فييرآبند إلي أن العلم لا يتمتع بأي ميزة أو مكانة تجعله يتفوق علي الأنشطة والفعاليات الفكرية الإنسانية المختلفة .من هنا نراه يدافع عن المجتمع ضد كل الايديولوجيات، والعلم من بينها بل قل هو علي رأسها . وهو يري أننا يجب ألا نتعامل مع هذه الايديولوجيات باهتمام كبير أو نعطيها قدراً أو حجماً أكبر مما تستحق، بل ينبغي أن نقرأها كما نقرأ الحكايات الخيالية .

ومن هذا المنطق والتوجة الفكري القائم علي ما بعد الحداثة عند فييرآبند، انطلق معظم مثقفي ما بعد الحداثة في معظم أقسام الانسانيات في الجامعات الأمريكية، يتبنوا فكرة أنه ليس هناك حقيقة مطلقة أو صادقة في ذاتها، بل إن الحقائق يصنعها المجتمع بجوانبه الثقافية المتعددة لأفراده . فليس هناك " حقيقة " يجب أن يقر بها الجميع، وليس هناك حق مطلق، بل الحقيقة تصنع عن طريق اللغة، وفي داخل ذهن الإنسان لوحده . وبالتالي فما يقال عن التقدم أو التطور الذي رافق " الحداثة " أو الذي تدعو إليه ليس إلا خرافة، وما يقال عن قدرة العقل عن اكتشاف الحقيقة إنما هو وهم . فالحقيقة لا تكتشف، لأنه ما ثم حقيقة أصلاً، وإنما الحقيقة " تخلق " ولاتكتشف، فالإنسان هو الذي يخلق حقائقه . فأفكارنا ليست إلا إنعكاساً للواقع بل قراءة له، وهي قراءة تتخذ صيغاً أسطورية وايديولوجية ودينية ونظرية، وكل منظومة متعقدية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتميل إلي اعتبار كل ما يناقضها ويخالف حقيقتها أكذوبة أو خطا . إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يقوم في التمليك الوحيد الجانب للحقيقة .

إذن فمذهب ما بعد الحداثة يقوم في الجملة علي أفكار التشكيك واللا- واقعية والذاتية والنفعية والنسبية، حتي أضحي الأمر بأنه عندما يتهور أحد العلماء، ويلفظ كلمة " حقيقة "، فمن الأرجح أنه سيجابه من اللجاج الفلسفي يذهب إلي ما يشبه القول بأنه :" لا توجد حقيقة مطلقة . إنك تفترق شيئاً من نوع من الاعتقاد الشخصي عندما توعم أن المنهج العلمي، بما في ذلك الرياضيات والمنطق، هو الطريق المتميز إلي الحقيقة . هناك ثقافات أخري قد تعتقد أن الحقيقة هي ما يعثر عليه في أحشاء أرنب أو في هذيان متنبئ في نوبة خبل . إن ما يؤدي بك إلي تحبيذك لنوعك هذا من الحقيقة هو فحسب أن لديك إيماناً شخصياً بالعلم ".

وليت الأمر وقف عند ذلك، بل رأينا بعض الدراسات النسائية في العلم في أقسام الانسانيات في الجامعات الأمريكية تنبذ دراسة المنطق ومناهج البحث لما لها من نزعة تحيز جنسي، حيث أن هناك نسخة أنثوية لذلك كشفت عنها بتمكن " دافني باتاي" و" نورييتا كورنج "، وهما مؤلفتا " ممارسة مساواة الجنسين : حكايات  تحذيرية من العالم الغريب لدراسات النساء "، حيث يقولا :" يتعلم الآن طلبة الدراسات النسائية أن المنطق أداة للسيطرة والمعايير القياسية ومناهج البحث العلمي لها نزعة تحيز جنسي ٍSexist لأنها لا تتوافق مع طرائق النساء للإدراك ... هؤلاء النسوة " ذاتيات " النزعة يكون مناهج المنطق، والتحليل، والتجريد " كمناطق أجنبية تنتمي للرجال "، هن " يعلين من قيمة الحدس كطريقة تناول أكثر أمناً وإثماراً للتوصل إلي الحقيقة " .

وقد أعرب المدافعون عن العلم عن قلقهم إزاء موقف علماء الاجتماع والفلاسفة وغيرهم من الأكاديميين الذين يشككون في موضوعية العلم، وفي عام 1994 قام العالمين "بول ر. جروس Poul R.Gross  ( البيولوجي في جامعة فيرجينا )، ونورمان لفييت Norman Levitt ( الرياضي في جامعة رتكرز )، اللذين قدما في كتابهما " الخرافة الراقية – اليسار الأكاديمي ومعاركه مع العلم Higher superstition – The Academic Left and its Quarrels With Science، وفي هذا الكتاب أكدا المؤلفان بأن المجتمع العلمي كان منذ وقت قريب من القوة بحيث يمكنه تجاهل منتقديه – لكن لم يعد كذلك، فمع نقص التمويل المادي للعلوم يجب شجب كل الأتجاهات التي تدعوا لعدم صحة العلم، وذلك من خلال الوقوف ضد القوي المضادة للعلم. ومن هنا إنبري جروس وليفيت نحو تقديم  نقدا لاذعاً للبنيوية الاجتماعية ولدراسات العلم والنسبوية. ولم يكتفيا المؤلفان بذلك بل راحوا يقودان هجوماً مضاداً لدعاة ما بعد الحداثة ورأو أنهم لا يعرفون سوي القليل عن النظريات العلمية، حيث حدث سوء فهم للمناهج النظرية، كما أن قراءتهم كانت خاطئة ولم يكن لديهم الدليل والحجة .

كما تعهد جروس وليفيت في هذا الكتاب بتحدي ما أسماه " صناعة أكاديمية جديدة "- النقد النسائي للعلم . لقد أكد هذان المؤلفان أن هذا الهجوم الذي يستند إلي ثقافة رفيعة ويعتمد أيضاً علي تخصصات ذات صلة بالمجال المعروف باسم "دراسات العلم" – إنما يشكك فيما إذا كان للعلم ادعاء شرعي للحقيقة والموضوعية . وقد كتبا عن معسكر الحركة النسائية يقولان :"إن الجديد كاسح : إنه يدعي الوصول إلي صميم أسس العلم الميثودلوجية والمفاهيمية والابستمولوجية " .

ولقد لقي كتاب الخرافة الراقية إقبالاً منقطع النظير من قبل أصحاب الثقافة العلمية، حيث، وفي 1995، عقد مؤتمرا في مدينة نيويورك عام 1995 تحت عنوان " الرحلة من العلم والعقل " . وحدد المؤتمر خصائص العلم والعقل معاً وما يواجههما من تهديدات خطيرة مثل  الخلقوية العلمية  Scientific Creationism ، التي أخذت تزداد في أواخر تسعينيات القرن العشرين، حتى وصل الأمر إلى التحفظ على تدريس التظور في بعض المدارس والجامعات، أو المطالبة بتدريس التفسيرات الحرفية للكتب المقدسة على قدم المساواة، باعتبارها رؤية بديلة من حق الدارسين التعرف عليها . ولأن الدين لا يدرس في المؤسسات العلمية في أمريكا، فقد قام أنصار هذا الرأي بإضفاء لباس العلم على تفسيراتهم الحرفية، وأعطوها اسماً جذاباً : الخلقوية Creationism، معتقدين بذلك أنه يمكن تدريسها في مقابل التطور، مدعمين أن التطور ينفي الخلق ويتناقض معه . وهذا أمر غير صحيح، ودعوة إلى تدريس " اللاعلم " كعلم !!! .

والذين حضروا المؤتمر انتقدوا النظرة الأنفعالية لـ  "جروس" و"لفيت" و"جيرالد هولتون والتي نجم عنها تضارب ثقافي بين العلماء الغير المتخصصين.والمثقفون في الدراسات الاجتماعية التي تتعامل مع العلم .

ولم يتوقف هذا الأمر عند ذلك، بل وجدنا العالم " ساكان " من جامعة كورنيل، يؤلف كتاباً بعنوان " العالم الذي يسكنه الشيطان"،وقد اهتم ساكان أكثر بمن يعتقدون بوجود الأشباح وباختطاف الناس من قبل كائنات من خارج الأرض وبالخلقوية، وغيرها من الظواهر التي تناقض النظرة العلمية للعالم .

وفي أوائل سنة 1996، عقد مؤتمر بعنوان " العلم في عصر المعلومات المضللة " قرب مدينة بافلو . وقد أعلن " ب . كورتز " رئيس لجنة الفحص العلمي لادعاءات الخوارق (CSICOP) الذي نظم المؤتمر قائلاً " إلي حد كبير، يفهم الناس العلم من خلال أجهزة الأعلام . ومن المفترض أن يحصلوه في المدرسة، لكن هذا ليس إجباريا في الكثير من الحالات . إن ثلث الأمريكيين يشاهدون التلفزيون أربع ساعات أو أكثر يومياً، وتبين أن معظم الناس يحصلون معلوماتهم العلمية من التلفزيون  ".

وفي نفس العام كشف ألان سوكال النقاب عن أن مقاله له كانت تمثل محاكاة ساخرة قصد بها أن يفضح ما بعد الحداثة ويبين كم هي جوفاء، وهذا ما نكشف عنه عنه الآن .

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم