أقلام فكرية

خدعة آلان سوكال في ضوء موقف العلماء تجاه مشروع ما بعد الحداثة

محمود محمد علييذكر بعض الباحثين أن آلان سوكال، أصبح معنياً أشد العناية بهذا الجانب مما بعد الحداثة، ما دفعه إلي أن يجري تجربة بسيطة ؛ حيث كما ذكرنا من قبل بأنه جمع عدداً من الصفحات لبحث يحمل عنوان "اختراق الحدود: نحو تأويل تحولي للجاذبية الكوانتية". ونشرته في عددها المزدوج (الربيع والصيف 1996). وقد قُبل المقال للنشر من غير أن يلفت النظر إلى أي شئ غير عادي فيه.

وهنا يعلق ريتشارد دوكنز علي ذلك قائلاً: "لابد أن ورقة بحث سوكال بدت وكأنها هدية للمحررين، لأن " أحد الفيزيائيين " هو الذي يقول فيها كل الأشياء المناسبة التي يريدون سماعها، فيهاجم " هيمنة ما بعد التنوير " وتلك الأفكار غير الباردة، مثل وجود العالم الواقعي . ولم يدركوا أن سوكال قد حشا ورقة بحثه أيضاً بأخطاء علمية مفضوحة، من نوع كان سيكشفه في التو أي محكم حاصل علي أدني شهادة تخرج في الفيزياء . ولكنها لم ترسل قط إلي أي محكم من هذا النوع . إلا أن المحررين " أندرو روس " والآخرين، أرضاهم أن ما فيه من أيدولوجية يتسق مع أيدلوجيتهم، ولعلهم قد أحسوا بما يرضي غرورهم عند ذكر مراجع من مؤلفاتهم هم أنفسهم، وجعلهم عملهم بالنسبة لتحرير هذا المقال المهين يستحقون بجدارة جائزة نوبل 1996 في آداب الجهل " .

ومن الملاحظ أن ورقة البحث مكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيَّس، ومن ثم كان محاكاة تبدو إلي حد ما سافرة. وبدا مثيراً للضحك لأقصى حد؛ حتي أن " جيمس تريفل علق علي ذلك قائلاً :" وأذكر للحقيقة أنني لا أعرف عالم فيزياء تأتى له أن يقرأ أكثر من فقرة من دون أن ينفجر ضاحكاً، حتى الهوامش كانت مضحكة . وعلى أي حال أرسل سوكال البحث إلي صحيفة تنتمي بفكرها إلي فكر ما بعد الحداثة اسمها " سوشيال تكست " Social Text " للدراسات الثقافية والتي يتبني هيئة تحريرها مثل هذه المجموعات، مثل فريدريك جيمسون Fredric Jameson ،       وأندرو روس .

استقبلت إدارة المجلة مقال آلان سوكال بحماسة وبدون تردد؛ فهو شهادة نفيسة من فيزيائي محترم على مصداقية التوجه ’’المباحثي‘‘ النسباوي الذي تتبناه. وواضح أن الصحيفة كانت سعيدة جداً لحصولها علي مقال لعالم فيزياء جشم نفسه تعلم لغتها، ما حداها علي نشر المقال من دون السؤال عما إذا كان فيما يقوله أي معني مفهوم .

والسؤال الآن، ما هي حيثيات ورقة البحث التي كتبها سوكال بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيَّس، وكيف زيف سوكال تلك المقالة من خلال إعترافاته ؟

المقالة تتكون من سبع وثلاثون صفحة من القطع، ستة عشر صفحة تمثل متن البحث، والباقي هوامش وقد وضعت الهوامش آخر المتن، وليست أسفل كل صفحة ، وكما قلنا من قبل وضعت المقالة ضمن عدد خاص يشمل سلسلة مقالات تحمل عنوان " حروب العلم ".

تتكون المقالة من مدخل وستة محاور، حيث تتضمن مراجعة لكثير من المواضيع العلمية التي يشتغل بها العلماء في الفيزياء والرياضيات، ويخلص منها إلى بعض الدروس الثقافية والفلسفية والسياسية المختلفة التي يمكن أن تلاقي قبولاً عند أولئك الذين يشكون في موضوعية العلم .

وقد مهد سوكال لذلك بمقدمة ماكرة ؛ حيث زعم أن " العديد مِن علماء الطبيعة ؛ وخصوصاً الفيزيائيين، لا يزالون يرفضون فكرة أن التخصصات المهتمة بالنقد الاجتماعي والثقافي، يمكن أن تساهم بشكل خارجي في بحثِهم. وما زالَ القليل منهم يستجيب لفكرة أنه يجب إعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها نظرتهم للعالم، أو إعادة بنائها في ضوء هذه الانتقادات. وبدلاً من ذلك، يتشدقون بالايديولوجيا التي تفرضها مرحلة ما بعد التنوير كثيراً حول النظرة الثقافية الغربية، والتي يمكن إيجازها سريعاً علي النحو التالي: أن هناك عالم خارجي، يشتمل علي خصائص مستقلة عن الوجود الإنساني الفردي، ويجري حقاً علي البشرية ككل ؛ وأن يتم ترميز هذه الخصائص في شكل قوانين فيزيائية "أبديّة "؛ وأن الوجود الإنساني يمكن أَن يحصل عليها بشكل موثوقِ، حتي وإن كان يمثل معرفة تجريبية ناقصة بهذه القوانينِ المؤقته التي تهدف إلي إجراءات موضوعية وتفنيد ابستمولوجي يوصف من خلال ما يمكن أن يسمي المنهج العلمي " .

بيد أن التغيرات التصوريةَ العميقة داخل العلم في القرن العشرينِ، كما يقول سوكال :" قد قوضت هذه الميتافيزيقيا الديكارتيةِ النيوتونيةِ ودراسات تعيد النظر في تاريخ وفلسفة العلم قد ألقت مزيداً من الشكوك علي مصداقيتِها، ومعظم الانتقادات الأنثوية وما بعد البنيوية قد ناقشت المحتوي الجوهري للممارسة العلمية الغربية السائدة، كما كشفت عن عقيدة الهيمنةِ المخبأة وراء واجهةَ "الموضوعيةِ" . لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن " الواقع " الفيزيائي ليس أقل من " الواقع " الاجتماعي، بحيث يكون في القاع كياناً اجتماعياً ولغوياً ؛ وأن المعرفة العلمية أبعد ما تكون عن الموضوعية ".

ثم يعلن سوكال الهدف الذي يسعي إليه من أطروحته، فيقول :" ... وهدفي هنا هو تنفيذ هذه التحليلات العميقة في خطوة واحدة أبعد، وذلك مع الأخذ في الاعتبار التطورات الأخيرة في الجاذبيةِ الكَوانتية : وبالأخص الفرع المنبثق في فيزياء ميكانيكا الكوانتم عند هيزنبرج والنسبية العامة لأينشتين في بوتقة واحدة . وفي الجاذبيةِ الكَوانتية، كما سنرى، الحالات الموضحة للزمان- المكان توجد بوصفها واقع فيزيائي موضوعي، وتصبح الهندسة ذات محمولات علائقيةً وسياقيةَ ؛ ومحمولات تصورية تأسيسية للعِلمِ القبلي بينهم , ويصبح الوجود نفسه نسبي . هذه الثورة التصوريِة، سوف أبرهن علي أن لها نتائج عميقة لمحتوى ما بعد الحداثة والعلوم التحررية.

وينهي سوكال مقدمته قائلاً :" تناولي سوف يتمثل علي النحو التالي. أولاً، أنا سأراجع سريعاً جداً بعض الإصدارات الفلسفيةِ والأيديولوجيةِ التي نشأت من خلال ميكانيك الكوانتم، ومن خلال النسبية العامة الكلاسيكية . وبعد ذلك سأرسم الخطوط العامّةَ للنظرية الصاعدة للجاذبية الكوانتية، وأناقش بعض الإصدارات التصورية التي ظهرت أخيراً، وبعد سأعلق على النتائج الثقافية والسياسية لهذه التطورات العلمية. ويجب أن أؤكد علي أن هذا المقال يمثل ضرورة تجريبية وتمهيدية ؛ أنا لا أدعي أنني قد أجبت علي كل الأسئلة التي واجهتني. وهدفي، بالأحرى هو أن أوجه عناية القارئ إلى هذه التطورات المهمة في العلم الفيزيائي والتوصل لأهم النتائج الفلسفية والسياسية وسأحاول جاهدا الإبقاء علي الرياضيات بما يحقق الحد الأدنى، وإن كنت علي حذر لتزويد القارئ بالإشارات التي يمكن أن تفيده في كل التفاصيل الضرورية .

ونلاحظ في تلك المحاور بعد أن قرأناها قرأة متأنية، أن سوكال لا يضيف جديداً، بل هو كلام يألفه الكثير من الطلاب المبتدئين، علاوة علي أنها أنه تحوي نقولاً من بعض الكتاب الفرنسيين لا يمكن فهمها ؛ حيث أن المقالة مكتوبة بلغة بأسلوب لغوي مقعر ؛ حتي الاستشهادات التي يستشهد بها من العلماء والباحثين غير مفهومة .

وقد ذكر بعض الباحثين أن مقالة سوكال بدت وكأنها هدية للمحررين، لأن " أحد الفيزيائيين " هو الذي يقول فيها كل الأشياء المناسبة التي يريدون سماعها، فيهاجم " هيمنة ما بعد التنوير " وتلك الأفكار غير الباردة مثل وجود العالم الواقعي . ولم يدركوا أن سوكال قد حشا ورقة بحثه أيضاً بأخطاء علمية مفضوحة، من نوع كان سيكشفه في التو أي محكم حاصل علي أدني شهادة تخرج في الفيزياء ؛ علاوة علي أن اللغة التي كتبت بها ورقة البحث وإن كانت صحيحة لغوياً، إلا أنها لا تحوي أي معني وكأنها مكتوبة بلغة غير مفهومة ؛ حتي الاستشهادات التي يستشهد بها سوكال، من العلماء والباحثين غير مفهومة أيضاً، وكأنه تعمد أنه يقدمها ليضرب بها أنصار بما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، ونذكر علي سبيل لا الحصر بعض النصوص التي عول عليها، إذ تكاد تكون مضحكة .

والورقة من البداية حتي النهاية تبدو محض هراء . وهي محاكاة هزلية صيغت ببراعة للهذر المتجاوز عند أتباع ما بعد الحداثة . وقد حفز سوكال علي تأليفها كتاب لبول جروس ونرمان لفيت في كتابهما " الخرافة الراقية .

ووجد سوكال أن من الصعب عليه أن يصدق ما قرأه في هذا الكتاب فتابع ما فيه من مراجع عن أدبيات ما بعد الحداثة، ووجد أن جروس ولفيت لم يبالغا في كتابهما . وقرر أن يفعل شيئاً بهذا الشأن وحسب كلمات جاري كاميا التي عاشت الحدث : " كل من حدث له أن أنفق وقتاً كثيراً وهو يخوض هذه الأناشيد المنحرفة الزائفة الظلامية المليئة بالرطانة والتي تمرر الآن علي أنها فكر " تقدمي " في الإنسانيات، كل من حدث له ذلك يعرف أنه سيكون من المحتم إن أجلاً أو عاجلاً أن يحدث أن : واحداً من الأكاديميين البارعين وقد تسلح بكلمات السر التي هي سرية جدا ( مثل "هيرمينوطيقي "، "انتهاكي " " تابع لمذهب لاكان "، " الهيمنة "، ونحن لم نذكر هنا إلا القليل )، سوف يكتب ورقة بحث زائفة بالكامل،ويقدمها إلي أي مجلة " رائجة"، وينال قبولاً لها ... يستخدم سوكال في مقاله كل المصطلحات المناسبة . وهو يستشهد بكل من هم أفضل الكتاب .

ثم ما لبث سوكال أن كشف عن حقيقة الخدعة ؛ حيث أنه بمجرد صدور العدد الذي يتضمن المقال، بادر إلى الكشف عن خدعته من خلال مقال صادم نشره في مجلة ’’لينجوى فرنكا ‘‘ Lingua Franca الأمريكية يبين فيها أنه زيف محتوى مقاله الأول ؛ وأعلن سوكال في مقاله هذا أن الأمر كله خدعة . معترفاً بأن ما كتبه لا يعدو أن يكون خدعة لفظية وصنعة بلاغية لا يعول عليها.

ومن ناحية أخري يؤكد سوكال بأن هدفه من كتابة المقال يعد " نداء لأي فيزيائي أو رياضي نشيط (أو الفيزيائيين في المرحلة الجامعية أو أغلب الرياضيين) أن يدركوا أنها ضالة أو خدعة Spoof .وبالفعل فإن المحررين للنص الاجتماعي قد شعروا بالراحة من نشر هذا المقال عن فيزياء الكوانتم بدون الرجوع لأي لشخص ذي معرفة بهذا الموضوع .

ثم ينتقل سوكال للكشف عن الأسباب والدواعي التي جعلته يتعمد القيام ببحث عن مكانيكا الكوانتم ؛ حيث يؤكد أن ذلك يتمثل في هدفين:-

الهدف الأول :- كما يقول :" أن أقتبس بعض التصريحات الفلسفية المتناقضة لهايزنبرج وبوهر وأقر بلا جدال أن الفيزياء الكمية مرتبطة بابستمولوجيا ما بعد الحداثة " .

الهدف الثاني :- كما يقول :" أن أدعو للجمع بين دريدا و النسبية العامة، ولاكان وعلم الهندسة اللاكمية أو الطوبولوجي وبين ايريجاري Irigaray والجاذبية الكمية، وذلك من خلال بلاغة غامضة vague rhetoric عن الـ " الغير خطية nonlinearity "والجريان والترابط Flux and interconnectedness . وأخيراً فقزت ( مرة أخري بدون جدال ) لإثبات أن علم ما بعد الحداثة Postmodern Science قد ألغي abolished الواقع الموضوعي . وهنا الآن ليس هناك ما يشبه النتيجة المنطقية للفكر ؛ فالمرء قد يكتشف فقط إقتباس citations،وَتلاعب بالألفاظ plays on words، وتناظراتَ متكلفة strained analogies ومزاعمَ فارغة bald assertions " لا أساس لها .

وهنا يؤكد سوكال أن الذي دفعه على فعلته تلك هو " أن يفضح المستوى المتدني للمهنية بين المشتغلين بالبحوث الأكاديمية، وبخاصة في العلوم الإنسانية ؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخري هو إحراج النزعة النسباوية المتطرفة، بوصفها تمثل في اعتقاد سوكال خطراً يهدد وجود العلم ذاته، علاوة علي اختبار مدى جدية وصرامة المنتسبين إلى ’’ما بعد الحداثة‘‘، ولا سيما حين يتعلق الأمر بموضوع العلم " .

وثمة نقطة اخري جديرة بالإشارة يؤكد عليها سوكال، وهي أن السخافة الرئيسية the fundamental silliness لمقاله تنطوي ليس فقط من خلال تماسكها القوي، ولكن توسطها للمنطق الذي يدعمها .

وهنا يعلق " جيمس تريفل " علي هذه المغامرة قائلاً :" ولكن ما أذهلني من عواقب هذه المغامرة كلها هو رد فعل محوري صحيفة " سوشيال تكست " ومن يدعمونها . إنهم بدلا من أن يشغلوا أنفسهم باستبطان حالهم وفهم أنفسهم علي سبيل المثال : لماذا لم يعرضوا المقال علي عالم فيزياء، قنعوا بلوم سوكال لأنه " أساء استخدم ثقتهم" .

وهذا اللوم استفز سوكال نفسه حتي أنه وصفهم قائلاً :" وقبول النص الاجتماعي لمقالتي يوضح الغطرسة والتكبر العقلي the intellectual arrogance للنظرية الأدبية لما بعد الحداثة .... وليس من المدهش في أنهم لم يعبأون باستشارة الفيزيائي .

تباينت ردود الفعل حيال خدعة سوكال؛ وتوزّع الناس بين مهلل ومسفه ومتفهم، فأثار بذلك ضجة من ردود الفعل عنيفة في الصحافة اليومية والأكاديمية، فالخدعة قد وجدت طريقها في الصفحة الأولي في جريدة " New York Times " بل وفي كل صفحات الجرائد الأمريكية، كما أعدت قناة الـ " CNN " برنامج لها بعنوان : العصابة الكبيرة capital gang، وكذلك الـ " rush limbaugh". وخدعة سوكال التي قد تناولتها أجهزةِ الإعلام من راديو وتليفزيون قد نظرت إليها بأنها تمثل فضيحة سياسية رئيسية .

وذكر وانبيرج عنها قائلاً :" لقد تسليت مثل كثير من العلماء بخدعة ظريفة ساخرة قام بها الفيزيائي الرياضي آلان سوكال من جامعة نيويوك ؛ حيث قدم مقاله كاذبة لإحدي المجلات المهتمة بالدراسات الثقافية وهي مجلة " النص الاجتماعي " . وفي هذه المقالة استعرض سوكال عدداً من المواضيع الراهنة في الفيزياء والرياضيات وعرض بطريقة ساخرة بعض القضايا الثقافية والفلسفية والسياسية والأخلاقية التي أخذها من التعليقات الأكاديمية الرائجة التي كانت تشكك في العلم وموضوعيته" .

وذهب مارا بلير Mara Beller في مقالة له بعنوان The Sokal Hoax : At Whom are we Laughing إلي أن :" الخدعة التي أعدها سوكال في عام 1996 وسلمها لمحرري مجلة النص الاجتماعي سرعان ما أصبحت معروفة علي نطاف واسع ونقاش ساخن .

وذهب " إريتش إيتشمان " Erich Eichman، حيث كتب مقالة بعنوان " نهاية الخدعة "، حيث قال :" في وقت سابق من هذه السَنَة، وبشكل ملفت للنظر، قدم الفيزياوي واليساري السياسي آلان سوكال ورقة بحث مليئة بالهراء وسلمها لمحرري مجلة أكاديمية تسمي النص الاجتماعي حيث برهن علي أن الواقع الفيزيائي يمثل فقط بناء اجتماعي . وهو لم يعتقد بذلك ولكنه حاول أن يثبته . وبعد أن نشر المحررون المقالة، أعلن سوكال عن خدعته " .

 

د. محمود محمد علي

 

في المثقف اليوم