أقلام فكرية

التحولات المجتمعية ومفهوم "الاستعصاء المتجدد"

محمد المرجانيتلخص السؤال المركزي لهذه المداخلة[2] فيما يلي:

إذا كانت التشكيلات الاجتماعية تتحدد حسب تطورها وحسب حركاتها الخاصة، وبأهمية وضرورة الصيرورات المتولدة عن التناقضات التي تكونها وتحدد مستقبلها، فأي دور يقوم به الفعل السياسي من أجل الدفع بهذه التشكيلة نحو التغير والتحول الاجتماعي؟ هل العلاقة الممكنة بين السياسي والاجتماعي تتأسس على رؤى تطورية أم تحولية؟ كيف يمكن أن يتحقق التحول في بنية ما دون أن تصبح مهددة بالزوال؟

1- الفعل السياسي هو فعل اجتماعي: حاول كلود لوفور قلب المعادلة الدوركهايمية القائمة على أسبقية الاجتماعي على السياسي، ورفض اعتبار السياسي كاشتقاق مباشر من الحياة الاجتماعية، مؤكدا أن السياسي هو ذلك القطب الرمزي الذي تكتسب فيه الجماعة اسمها وتمثيليتها وبفضله تتأسس وتتخذ شكلها المتميز، فالسياسي يعني التمثيل الذاتي للمجتمع ولمؤسسة المجتمع. وبالتالي يعتبر لوفور، من غير المعقول أن يكون بناء موضوع(الاجتماعي) هو النمط المحدد لتعريف"السياسي"، مما يؤثر على محدودية مضمونه وفهمه. وعلى هذا الرأي يسير جان بودوين Jean Baudouin مؤكدا على أهمية الفلسفة القديمة في تعاطيها مع "السياسي"، والتي اعتبرته نظاما يمنح للمجتمع معانيه المركزية، وينظم مؤسساته وقواعده، ويبني العادات وأنماط الحياة الخاصة بالأفراد. فالسياسي هو في نفس الوقت طريقة لبناء المدينة ووسيلة لبناء أشكال الحياة فيها[3]. من الصعب جدا مناقشة هذا الرأي في تفاصيله الدقيقة، ولكن ينبغي القول أنه يستحيل التمثيل لموضوع غير موجود أساسا، بما يعني أن السياسي يتداخل يتواصل ويتمازج مع الاجتماعي ولا يمكن تصوره بمعزل عن الأخير إلا في حالات التمييز المنهجي. فالكلام عن النظام السياسي وعن السلطة السياسية وعن المؤسسات السياسية وعن السلوكات السياسية، لا يمكن أن يستقيم إلا بالإشارة إلى الحاضن الاجتماعي وإلى بنيته المادية والرمزية باعتبارها دالة وضاغطة على مجموعة من الممارسات والمواقف التي يستبطنها الفرد بإدراك أو بدونه. لقد حققت السوسيولوجية الفيبيرية تقدما كبيرا في توضيح الارتكازات الاجتماعية للمفاهيم السياسية. واعتبرت هذه الأخيرة مؤشرات دالة على سياق التحول في النظام الاجتماعي. فالنمذجة Typologisation التي اقترحها ماكس فيبر هي في النهاية الأنساق الاجتماعية التي تؤطر التحولات على المستوى السياسي. ماركس ومنذ كتابته الأولى حول الدولة وضدا على الاتجاه الهيجلي اعتبر"أن جوهر الكائن الإنساني اجتماعيا وليس سياسيا، وبالتالي فمن غير المعقول اعتباره حيوان سياسي. والقوى الاجتماعية الباحثة عشوائيا عن طريق تحررها عبر صراعاتها المختلفة تنقاد للسلطة السياسية أي للدولة. وهو الأمر المفسر لهيمنة السياسي، وعدم إدراك خلفياته الاجتماعية.

من زاوية أخرى هنالك مسافة حقيقية بين الذات الاجتماعية والانخراط السياسي، فالعديد من المواطنين لا يتوافقون أو يندمجون بشكل فعلي في المجالات السياسية التي يمارسون من خلالها مواطنتهم[4]. الفعل السياسي يعني كل ضروب السلوك البشري التي تدفعها وتوجهها المعاني التي يكونها الفاعل عن العالم الخارجي، وهي معاني يضعها الفاعل ويستجيب لها في تفاعله مع الآخرين. ومع ذلك في سياق توضيح أهمية هذه العلاقة من الضروري إيجاد منطق للفهم والتفسير (حسب ماكس فيبر) حتى لا نسقط في شرك "الحدثية" (اعتبار السياسي كحدث ) أو على الأقل عدم الاكتفاء بها. هذا الحرص في تقديرنا يرجع إلى سببين:

- الفعل السياسي هو فعل علائقي، يتكون من علاقات دائمة (متقطعة أو مؤقتة) بين فاعلين (الأحزاب، الدولة، المنظمات السياسية..) ولذلك فعلاقاته تدوم وتستمر أكثر من الفاعلين الذين يقيمونها.

- بقراءتنا للفعل السياسي لابد من العمل على إدراك البعد الأنطولوجي للمجتمع، مما يعني عدم الاكتفاء بقراءة الأحداث السياسية من زاوية تطابقها مع الواقع "لسنا في حاجة إلى العلم عندما تتطابق مظاهر الأشياء الخارجية مع جواهرها". والسؤال الملح الذي يطرح في سياق هذا النوع من الإدراك هو: ما هي العلاقات الغير الظاهرة، أو ما يمثل البنية الاجتماعية التحتية للعمل السياسي، المفسرة لمجموعة من العلاقات الاجتماعية الظاهرة على السطح؟

- التناول المنطقي لمفهوم "السياسي" يفرض كذلك عدم الخلط بين النقد الإيديولوجي للممارسة السياسية، والذي يعمل على تحليل التشوه الذي يلحق رؤية الواقع الاجتماعي، من جراء الالتزام السياسي (نقد الوعي المغلوط)، وسوسيولوجيا المعرفة المهتمة أصلا بالجذور الاجتماعية لهذه الممارسة.

هذه الملاحظات لا تروم بالدرجة الأولى، إثارة النقاش الإبستمولوجي والنظري بين الاجتماعي والسياسي، ولكن الإشارة إلى مسؤولية السياسي المهيمن ضمن بنية اجتماعية مركبة، في إخفاء وتعطيل الآليات الكفيلة بتحقيق التحول المجتمعي. وبصورة أوضح يتقدم السياسي كاقتدار كبير لتحقيق الفصل بين ذاته كموضوع وبين الموضوعات الأخرى، ويتربع في مجال التعليل والفهم والإدراك، كقوة تفسيرية مقنعة ومنطقية، دون حاجته للتفسيرات الأخرى[5].

ومن هذا المنطلق تبدو الرغبة في اقتراح مجموعة من الصعوبات التي تواجه الكتابة أو التفكير في الفعل السياسي الحالي بالمغرب، عملية بالغة الأهمية، قد لا تخلو على أهميتها من عثرات.

ليس ثمة شك في وجود أدبيات كثيرة وعلى قدر كبير من الأهمية العلمية حول الدولة والأحزاب والتطورات السياسية ودور النخب السياسية والشرعية السياسية والانتخابات، حققت إنجازات نظرية ومعرفية فعلية، لكن القليل منها استطاع الوصول إلى صياغات مفاهيمية جديدة، يمكن أن تشكل مفاتيح لفهم وقراءة البنيات والسلوكات السياسية بوجه عام. ولربما أغلب الاجتهادات تسير على منوال الاقتناء السهل للمفاهيم المصاغة خارج التجربة المغربية، دون عناء مراجعتها أو تمحيصها. والمثال البارز في الموضوع يتعلق بظاهرة "العزوف السياسي" والذي تسلل لقاموس النقاشات السياسية فيما بين النخب والدولة وحتى المجتمع المدني. على أساس أن الظاهرة تعبير صريح عن أزمة عميقة في التمثيلية وفي صورة النخبة، ومن علاماتها رفض السياسة والسياسيين، الصناديق الفارغة، التعرية الحاصلة في الالتزامات النقابية والحزبية. إلى حد الآن يبدو الأمر مقبولا، فكل هذه العوارض موجودة في مجتمعنا حاليا. غير أن الاجتهادات السوسيولوجية أبانت على الوجه الآخر لهذا العزوف، واعتبرته عودة إلى السياسة، ولكنها عودة من أجل تشنيج وقتل هذه السياسة، وعلى أساس هذه التصورات العدوانية ستتشكل الممارسة السياسية المقبلة (Albert Hirschman) وبصورة أوضح تتوازى الممارسة السياسية في النهاية مع التصور السلبي للعرض السياسي، حيث يبقى الأشخاص والمنظمات والأفراد التابعين أو المعبرين عنها، موضوع رفض مطلق[6].

في ظل هذه الوضعية ما هي النماذج الاجتماعية التي تنتظم أو تقوم عليها الممارسات السياسية؟ هل يمكن الكلام عن نماذج مثالية (حسب المفهوم الفيبيري) يمكن الإحالة عليها في تفسير وفهم هذه الممارسات.؟ هل يمكن لمفهوم التحول المستعمل حاليا في القاموس السياسي أن يكتسي نفس المعنى في المجال الاجتماعي؟

2- مفهوم التحول في المجال السوسيولوجي: أهمية مصطلح التحول أصبحت متعاظمة حاليا، لأن كل المجتمعات باتت مجبرة على التحرك، وأدركت أن الاستمرارية لم تعد مقبولة بشكل تام. وعلى الرغم من إحساسنا بحدة التغيرات بتراكمها بتعدد مظاهرها وأشكالها، مع كل ما يفترضه ذلك الأمر من حركيات وقطائع وانتقالات أصبح الوعي بها ظاهرة شاملة، لا يكاد الناس يختلفون على وجودها، رغم كل ذلك، ينبغي أن نتساءل: هل يتعلق الأمر فعلا بتحولات عميقة ومدركة في سياق تطورها المنطقي من طرف الجميع؟

لقد ظهر مصطلح التحول في القرن 12 الميلادي، حينما تم طبع نظام معين بالتغيير وكان ذلك بالتحديد في مجال العلوم القانونية. أما الاستعمال العلمي فقد جاء متأخرا. استعمله لامارك لتعريف التغيرات المورفولوجية ذات الانتشار الضعيف والمحدود. أما التعريف الأكثر دقة جاء على يد علماء الحفريات، الذين اعتبروا سلسلة أشكال النوع الواحد من الحفريات، تتعارض فيها التغيرات Variation (الاختلافات المورفولوجية الموجودة بين الأفراد المنتمين لنفس الفئة) مع "التحولات"Mutation (الاختلافات بين الأفراد المنتمين للشرائح المتتالية). بعد ذلك انتقل المفهوم للمجال البيولوجي والفلسفي، وتمت الإشارة إليها بمصطلحات مرادفة (القفزات)Saltation الاختلاف عن الأصل (Heterogenése). وعندما انتقلت إلى الحقل الثقافي أصبحت دالة على الثورة بمفهومها الواسع (الثورة التي أحدثها ظهور المحرك في أوروبا، الثورة الصناعية، ثورة الإلكترونيات وغزو الفضاء). وبعد انتقالها لقاموس العلوم الاجتماعية عبرت في معناها عن التغيرات الملامسة للعديد من مكونات المجتمع الشامل، محيلة على التغيرات العميقة والظاهرة في البنيات الاجتماعية والترتيبات الثقافية والأزمات الناجمة عنها. وعلى هذا الأساس دل مفهوم التحول من الناحية السوسيولوجية على التغيرات المحققة لانتقال بنية اجتماعية إلى أخرى، ومن نظام للبنيات إلى نظام آخر. وقد أكد Roger Bastide هذا المعنى بقوله "لا يمكن الكلام عن تحول طالما نظل في نفس البنية. بما يفيد بأن التحول يشير إلى كل تغير يعرف كانتقال من بنية إلى أخرى، أي كاضطراب عام للأنظمة"[7].

لا شك أن هناك مفاهيم أخرى في الحقل السوسيولوجي تستعمل للدلالة على نفس المعنى: كالتغير، التطور، الثورة، التنمية، التحديث...إلخ. هذه المصطلحات لا تخلو من غموض، لأنها في الغالب تستعمل للتعبير عن الاختلافات التي تظهر في مسار إعادة الإنتاج أو التكرار الذي يحصل في الأشكال الاجتماعية. ولذلك فالبعض منها يؤكد على استمرارية هوية أساسية على الرغم من التغيرات البارزة، في حين يصر البعض الآخر على القطيعة.

هذا التدقيق المنهجي والمعرفي في تعريف طبيعة التحولات ومعانيها، يعبر عن حجم الحذر الإبستمولوجي الذي تستعمله السوسيولوجية من أجل إدراك الواقع بكيفية أعمق وأشمل، حتى لا ينساق الإنسان مع الوهم، ويحمل في ثنايا خطاباته حول التحول، عجزا حقيقيا في تعريفها وتحديدها، أو في بعض الحالات تحميلها بمعان ثانوية، تدفعنا للمزيد من عدم الإدراك والمعرفة الحقة بتفاصيلها.

وعلى هذا الأساس تم وضع شروط أساسية لكي تتحقق التحولات الاجتماعية:

- التغيرات الملامسة للمجتمع الشامل ينبغي أن تكون لا رجعة فيها (أي قوى المحافظة يمكنها تغيير موازين القوى مع كتلة التغيير).

- التحقق والتأكد من الانتقال من بنية إلى بنية أخرى مغايرة.

- الانتباه إلى كون طبيعة المجتمع الشامل هي المسؤولة عن صعوبة معاينة أو فهم التحولات الموجودة داخل المجتمع. لأنه كنظام غير قادر على تسوية البنيات وترسيخها كبنيات معاصرة ومتوافقة فيما بينها، في حين يحتوي بناءه على عناصر موروثة من الماضي (الاستمرارية) وعناصر حديثة (جزء الحاضر الذي له الأسبقية) والعناصر المحتملة كجزء من تصور المستقبل (جزء من الاحتجاج والتغير). والتوافق الوحيد الذي يحرص على استمراره هو الوقوف في وجه المخاطر المهددة للنظام الاجتماعي، ولا يسمح بإنجاز التغيرات إلا تلك التي تضمن الحفاظ على النظام الذي يحرسه هو نفسه. ولتأكيد هذا التصور، تستعمل الأنتربولوجيا المعاصرة مصطلح "التحول" لوصف التباسات الوضع الحالي، وغموض القيم، وفقدان المعالم، أي تلك الفترة التي تتعايش فيها الأشكال القديمة للمجتمع، مع أشكال لم تتبلور بعد كأشكال جديدة. زمن التحول يصبح بهذا المعنى، "زمن معلق" والتغيير الذي يحدثه في الحاضر، يجعل المستقبل غير موثوق به. إذا كيف يمكن تأكيد التحولات السياسية في بنية لا تتحقق فيها القطائع ولا التجديد القائم على الابتكار وليس إعادة إنتاج القديم في حلة جديدة Retraditionnalisation، ولا التطورات العميقة المتجاوزة بشكل جدلي للموروث الثقافي العتيق وكل أشكال "الحجر" التي تمارسها قيم لا تؤهلنا للتصالح مع الذات والكون معا.

3- خصوصية التحولات السياسية ومرتكزاتها الاجتماعية: السؤال العريض الذي يطرحه الباحثون والمهتمون بالشأن السياسي العربي. لماذا هذا القصور والإخفاق السياسي المتكرر في الحياة العربية؟ ولتفسير هذا الإشكال يتم تقديم العديد من المبررات: كاستبداد السلطة وضعف النخبة وغياب الديمقراطية مع التغول الظاهر للنظام الرأسمالي وما ينتج عنه من سحق واستغلال لتطلعات وحاجيات الجموع. في حين يعتبر البعض أن السبب راجع لافتقاد الممارسة السياسية لقدرتين: القدرة على إدارة الائتلاف، والقدرة على إدارة الاختلاف. وبمعنى آخر لا التوافق السياسي يمكنه أن يستمر، ولا المعارضة يمكنها أن تستمر في ظل افتقاد شرط التدبير المعقلن والناجح لهذه الفترات من الممارسة السياسية. طبعا تخضع هذه القراءات لطبيعة الظرف وخصوصية الزمن وسياق الأحداث المحددة للتطورات السياسية العامة في كل بلد. هل يصح طرح هذا السؤال بالنسبة للواقع السياسي المغربي لما بعد الاستقلال؟. ربما قد نعثر في مجتمعنا على ما يتماثل مع هذا الإشكال، فالتدبير السياسي الضعيف للاختلاف أو الائتلاف سمة تكاد أن تكون عامة ومتشابهة في العديد من البلدان العربية والمغاربية.

لكن السؤال المهم وربما الاستراتيجي الذي يميز تجربتنا في هذا السياق هو: لماذا أخفقت كل المشاريع السياسية والمجتمعية المقترحة من طرف النخب والهيئات الوطنية والفاعلين والممارسين السياسيين المختلفين، وانتهت في الغالب –مع استثناءات قليلة- بإدماج كل هؤلاء واستيعابهم في المنظومة الدولتية؟. هذا السؤال لا يلغي بتاتا الدور التاريخي للحركات الاجتماعية بكل أقسامها، وكل التضحيات المادية والمعنوية التي قدمتها من أجل النهوض بالمجتمع وتجاوز تناقضاته المفجعة. لكن يبدو أن هناك قوانين اجتماعية وتاريخية دفعت بهذه الحركة نحو التوافق أكثر من القطيعة، وجعلتها استنادا إلى اعتراف المؤرخ المغربي عبد الله العروي خلال دراسته لمفهوم السيبا القبلية في القرن التاسع عشر، موسومة بطابع المشاركة والاقتسام (في التدبير والتفكير)[8]. ولعل القارئ المتمعن في الأدبيات السياسية التي اهتمت بمساءلة طبيعة النظام السياسي ومدى قابليته للتغير والتطور، سوف يستنتج تمحور القاسم المشترك لأغلب هذه الأدبيات حول فكرة الثبوتية والجمود النسبي للبنيات الاجتماعية والسياسية[9]. وبالتالي فإن المظاهر الدالة على التغيرات الاجتماعية (مكانة المرأة، الطفل، الأسرة..) والسياسية (المؤسسة الدستورية والممارسة الانتخابية...) ليست في النهاية سوى إعادة إنتاج لنفس الأوضاع بصياغات جديدة.

كيف السبيل إذا لمعرفة خصوصية النظام الاجتماعي الذي يحول دون تحقيق التحولات السياسية بمعناها الحقيقي؟

في حوار مع بيير بورديو حول علمية السوسيولوجيا يكشف هذا الأخير أن المهمة الأساسية لهذا العلم هو تنوير الرأي العام بالقضايا التي تكون مخفية وغير ظاهرة بكيفية ملموسة، أو تلك التي يحاول الخطاب التكنوقراطي أن يستبعدها في التصورات المتداولة بين الناس بشكل عام. مثلا الذكاء يرجع إلى قوى فطرية وليس إلى الأصل الاجتماعي، والرأسمال الثقافي الموروث عن العائلة. ألا يمكن إرجاع مفهوم التحول إلى هذا النوع من التلاعب، ليصبح الكلام عن التحول محاولة لطمسه وعدم تأكيده[10]. في نفس الإطار أثار أندري كورزGorz A. فكرة مشابهة لما طرحه بورديو في إشارته للمجتمع الذي يتكلم كثيرا وبصفة دائمة عن التغيير، ولكنه يرفض أقل تغيير واقعي وفعلي، وأهم أسلحته في هذا المجال هو قدرته الخارقة في إخفاء هذا الواقع والتشويش عليه. كما يتميز هذا النوع من المجتمعات بإعاقة مثقفيه الحائرين بين موقفين: الاعتقاد في الحتمية بمعنى أن الآلية الاجتماعية في شموليتها لا تترك أي مجال للحرية الإنسانية، وبالتالي ليس هناك مجال لتحقيق التغير أو التحول. وهم الإرادية أي الاعتقاد بإمكانية إصلاح وتغيير المجتمع حسب الأهداف التي يرسمونها بكامل حريتهم وبدون الخضوع لأية إكراهات[11]. الموقفين معا لا ينفتحان على آفاق رحبة وواسعة، ولكن كلاهما يقف في وجه الآخر، بكيفية تحقق الانغلاق وليس التكامل أو التواصل الإيجابي. على الرغم من محاولات التوفيق أو الترقيع بين الموقفين، والمتبلورة في اتجاهات إيديولوجية وسياسية، رغبت من خلال ذلك في الحصول على امتيازات الطرفين (المادية والمعنوية). دون الانتباه من طرفها إلى كون الموقفين معا يعبران عن نفس الانغلاق. هل بإمكاننا في إطار البحث عن نسق فكري يسمح لنا بفهم وإدراك ما يمنع من تحقيق التحول المجتمعي في بلادنا؟

4- تشكيلة بدون تمفصل: يتفق معظم الباحثين في العلوم الإنسانية، على أن المجتمع المغربي مركب في تكوينه، وبالتالي تتواجد فيه العديد من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، وأن هذه الأنظمة في مسارها العام محكومة بالمواجهة والتناقض والهجانة، نتيجة لانجذابها الحاد نحو الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولطبيعتها المتباينة بين ما هو مخزني عتيق، وليبرالي حديث وحتى ما بعد حداثي. غير أن السمة الأساسية الطاغية في هذا التركيب هو كون الانقسام الذي يغطي أفقيا العلاقة التاريخية والسياسية بين الدولة والمجتمع، يبقى على الرغم من المحاولات المهمة لتغييره غير مخترق. والسبب على وجه التقدير يرجع لكون الكتلتين تتحددان من خلال اعتمادهما على نفس التشكيلة المركبة. في ظل هذه الوضعية، يبقى الحقل السياسي رهين حتى في حالة انفتاحه على الإصلاح، بتجاذباته المركبة. لأن الدولة ليست بشكل عام نظام منسجم ومتناسق، تسعى من خلال أجزاءها المكونة إلى تحقيق هدف واحد. بل تميل إلى التجزيء والتفريق بين مكوناتها وعناصرها، والتي تكون في تماس مباشر مع المجتمع، من أجل ضبط وتوسيع سلطتها السياسية. الأمر الذي لا يمنع من احتمال تصدعات بين السلطة المركزية وبعض ممثليها حينما يخضع هؤلاء إلى عقلانية مختلفة نسبيا عن المركز. لكن سرعان ما يتحول هذا الأخير إلى مراقب حقيقي "لنظام المنازعات" لكي يتمكن من التحكم في الحركيات الاجتماعية الجارية في عالم سريع التغير، مسيطرا على كل حقول العالم الاجتماعي[12].

هذه السيطرة تحتاج لعمليتين: الميل للتجزيء والفصل بين المنظومات كمبرر للتأكيد على خصوصية وتفرد واختلاف كل منظومة عن الأخرى. إقرار الأفضلية أو السيطرة التامة لمنظومة على المنظومات الأخرى، حسب مقتضيات المواجهة مع التغيرات الداخلية أو الخارجية، والتي قد تحمل في طياتها تهديدا مباشرا لهذا النوع من التوازن.

في حين لا يستطيع المجتمع حل التناقضات المتعلقة بمشروعه الإصلاحي نتيجة لقوة التأثير الخاصة بهذه الأنظمة المتضاربة على تصوراته وتمثلاته ومواقفه السياسية أو الاجتماعية. ونتيجة أيضا لاهتراء وتآكل الثقة في ممثليه الذين فقدوا مصداقيتهم نظرا لضعف تدبيرهم الاستراتيجي للمرحلة، ولسرعة انجذابهم القوي نحو مآلات اجتماعية مخالفة تماما لأوضاعهم الحقة. لفهم هذا الواقع نقترح مفهوم "الاستعصاء المتجدد" (يقارب إلى حد ما ما اقترحه Alain Roussillon بالنسبة للتجربة المصرية في مفهوم La clôture du système) [13].

وللمزيد من التوضيح، يتجلى هذا المفهوم في العجز البادي في إحداث أي تغيير في طبيعة السلطة أو المجتمع على السواء. لكي تعبر الأزمة ليس فقط عن عجز السلطة في احتضان أو تقبل المشاريع الإصلاحية، ولكن أيضا عن عجز المجتمع عن تقديم بدائل حقيقية، تضمن التقدم والرقي للكتلتين معا. ليس غريبا في مثل هذه الحالة، أن ينحصر التقدم والتطور في القمة وليس في القاعدة، في حين يتم ترسيخ البنية السياسية السائدة، التي تعمل أيضا على تجديد شروط هذا الاستعصاء اعتمادا على تفوقها ومقدراتها السياسية والقانونية والمؤسسية والاقتصادية، وتتقدم كنظام رمزي للتمثيلية، حتى ولو تم ذلك على أساس خواء اجتماعي. في حين يبقى المجتمع حتى في حالة ممارسته للتفاوض العمومي، والحوار الصاخب الذي يجريه مع ذاته بشكل سلمي في الغالب من أجل تدبير وإنتاج تاريخه الخاص، عاجزا عن الاستجابة الطبيعية لكل مستلزمات هذا التفاوض، نتيجة بالضبط لواقعه المركب. هذه الصورة هي نفسها التي قدمها آلان تورين في وصفه "للمجتمع بدون نموذج" حيث تكون البنية العامة التي تجري فيها التغيرات ومقاومة هذه التغيرات موسومة بطابع "الأزمة" أي بمعنى آخر غياب البنية واستحالة التكوين الدال والمعبر على "القوى المعارضة "[14]. لكن المعنى الأهم الذي يضيفه آلان تورين والمتعلق بطبيعة التغيرات، هو"انغلاق العلاقات الطبقية". لأن التعارض الممكن بين مختلف الطبقات يقتضي وجود علاقات السيطرة. مما يعني أن السلطة المركزية السائدة لها القدرة على تحديد شكل العلاقات الاجتماعية، وكذلك الصيرورة السياسية، وبشكل عام تحديد الفئات المختلفة للممارسة الاجتماعية[15].

بفعل هذا الانغلاق المرتبط بعوامل تاريخية وبنيوية، تحولت البنية السياسية إلى مشهد سياسي ثابت تقدم الأنظمة والأحزاب والنخب إبداعها عليه، في حين تصبح الممارسة السياسية فرجوية في الغالب، وأبعد ما يمكن أن تصل إليه، في جميع مظاهرها الرسمية أو غير الرسمية، هو العمل على إرساء "تقليد متنور" من أجل تبرير تغير جد متأن، وإصلاحات بطيئة جدا. المجتمع في مثل هذه الحالة يطمح للتغيير، يتكلم عن التغيير بمبالغة كبيرة. لكنه يرفض، رغم المظاهر الدالة على حركاته وتمرده، تصور تغيير حقيقي. وأهم سلاح يستعمله في هذا الإطار هو قدرته على تقنيع الحقيقة أو تعتيمها. وغالبا ما يتم هذا الأمر تحت ضغط "الازدواج الوظيفي للسلطة" التي تتمثل في أذهان الناس وفي واقعهم كعلاقات، وفي نفس الآن، كصيرورة محددة لطبيعة وشكل هذه العلاقات. أي أن المجتمع يعمل لفائدة نسق آخر يسلبه فائض القيمة، بينما تهدر الدولة الوسائل الكفيلة بتحقيق الانسجام داخل المجتمع، أي الوسائل الكفيلة بتصفية المخلفات وتجاوزها. أهم شيء يمكن ملاحظته في إطار هذا التقابل بين الكتلتين المجتمع والدولة، هو الانتفاء النسبي للعلامات الدالة على وجود "الأبواب" و"الجسور"[16]. المعاني السوسيولوجية للمفهومين تدل على وجود حركية عميقة قادرة على تشكيل فضاءات متناسقة ومتفاعلة فيما بينها. وبالتالي لحصول هذا الأمر، ينبغي في البداية، التمكن من مبادرة الربط والفصل، بمعنى آخر القدرة على تصور الفصل القائم بين الكتلتين (الدولة والمجتمع) من أجل الوصول إلى فكرة الربط بينهما عن طريق الجسر. فالجسر بمعناه السالف يقوم بوظيفة الربط بين ضفتين متعارضتين، أي تصورين مختلفين لأوضاع وأشخاص ومؤسسات. والباب على الرغم من تعيينه للحدود والموانع، يمكننا من الانتقال بين الخارج والداخل، وبالتالي الانفتاح على العوالم الأخرى. الباب هو المدخل القائم بين عالمين، بينما الجسر هو المنتج للعالم الممكن. وبلغة أكثر وضوحا، في الغياب التام للوسائط القادرة على تقليص المسافة المباعدة بين الكتلتين، وفي غياب التصورات القادرة على استيعاب الفصل المترسخ والمتجذر بينهما، مع انتفاء هيكلة حقيقية للمجتمع المدني من أجل إقامة علاقات مسالمة بين الدولة والساكنة، نتيجة لغيبة الوساطات ولغيبة الفاعلين ذوي الرأسمال الرمزي، الذي يسمح لهم باحتلال مراكز القرار والسلطة والامتياز والشرعية حتى يصبحوا المحاورين الأساسيين بين المجتمع والسلطة [17]، ستبقى كل الأبواب موصدة وكل الجسور منسوفة. وهو ما يشكل أرضا خصبة لنمو هذا الاستعصاء المتجدد في مضاعفته للحدود المسيجة للبنية السياسية المركزية، وفي ضبطه عبر عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية لأفق التحرك المجتمعي. وهكذا ستغدو كل الأنشطة المنتجة بهدف البحث عن مقومات التجاوز الممكن لهذه الحدود، في نظر الطرف الآخر، تهديدا مباشرا للاستمرارية أو الشرعية الممكنة لهذه البنية السياسية. وغير خاف أن هذه الوضعية تلقي بثقلها على الممارسة السياسية، حيث يتعذر المجازفة باقتراح أي برنامج سياسي يتجاوز في أبعاده الإصلاحية حدود هذه البنية (تعطل العديد من المشاريع القانونية والاقتصادية...) وبهذا المعنى تتقلص الممارسة السياسية إلى مجرد تحقيق فضاءات التوافق والتكيف، والمراعاة وإدراك إكراهات "الخصوصية"، وفي أقصى الظروف إنتاج القيم والرموز التي تبلور من جديد هذه البنية كما تعيد إنتاج عوامل احترامها[18].

لا شك أن العلاقة القائمة بين السلطة العمومية وباقي مكونات المجتمع، تخضع بالضرورة للتغيرات التدريجية، التي من الممكن أن تشكل تهديدا مباشرا لاستمرار الأنظمة التقليدية (الأبوية، الإقطاعية،...). غير أنها لا تستطيع إزاحتها بالكامل. وعلى هذا الأساس تتقدم كاقتدار سياسي برؤوس عدة، شاملة في نفس الوقت، للأسس التيوقراطية والدستورية والعرفية والقانونية، والتقليدية والحداثية. هذا الواقع يتخذ منحى آخر بالنسبة للتغير الحاصل داخل المجتمع. لقد منحت صيرورة التغير الاجتماعي الجارية بشكل تدريجي، مكانة جديدة للفرد فيما يتعلق بعلاقات السيادة والسيطرة الاجتماعية. ولذلك تغيرت صورة الأب التسلطي والعلاقات القهرية المستبدة داخل العائلات والعنف الممارس على النساء أو على الفئات الهشة اجتماعيا وفيزيقيا[19].

المكانة الجديدة للفرد، والمكتسبات المدنية التي حققها عبر نضالاته الاجتماعية والسياسية، لم تتبلور كمعادل موضوعي لتحول شامل وقوي، لدرجة التأثير في طبيعة وتضاريس السلطة بشكل عام. وذلك لأن طبيعة هذه الحركات، نابعة أصلا من الشعور العام بالحرمان، ومن استحالة استمرارية الأوضاع التي أصبحت محط تساؤل، دون الالتزام الكامل "بتصور" أوضاع جديدة مغايرة. وقد يجوز القول بأنها حركات بدون نخب، أي قيادات تمثل نماذج يسترشد بها في السياسة والاجتماع والثقافة، لكن خطورة الأمر أن ما يهددها أكثر، هي تلك النخب نفسها، حينما تمتلك مقاليد القرار فتنحرف عن التوجهات العامة لهذه الحركات، لتحكم عليها بالفشل أو التوقف. وهذه الملاحظة هي المبررة لظهور مجموعة من المفاهيم التي تعترف بمحدودية التغير، وبعجزه الظاهر عن إحداث التوترات المخلة بالتوازن العام. إن استعمالات: الردة، والرجعية، والنكوص، والفوضى.. في خطابات نخبوية، تكشف أيضا أن بنية السيطرة والانصياع هي ثابت بنيوي، ولا يمكن التخلص منها بسهولة، حتى لدى أولئك الذين يدعون مقاومتها. وعلى افتراض تحقيق بعض التغيرات على المستوى السياسي، فإن استعصاء التجاوز ينتقل إلى ميادين أخرى، اجتماعية وثقافية ورمزية.. فخلال البحثين اللذين أنجزتهما - 2011- 2006 economiste'L اتضح أن مفاهيم التغير الاجتماعي ومكانة الفرد وعلاقته بالسلطة، حتى وإن تحولت في بعض أشكالها وفي اللغات المعبرة عنها، لازالت مرتبطة بالبنية العميقة التقليدية التي تؤثث المخيال الاجتماعي والرمزي لحامليها.

أما في الحالة التي نريد من خلالها الإحاطة بمختلف الديناميات الأخرى الفاعلة والمساهمة في مثل هذا التغير عبر كلمة "مجتمعي" تبقى هناك مناطق غامضة، تحتاج بالضرورة إلى توضيح. فهل يتعلق الأمر في هذه الحالة بالمجتمع أم بالوطن أم بالجماعة؟ لأن ما يقع الآن على مستوى الحراك العام هو ميل للخلط بين الوطن والمجتمع. فبدلا من أن يكون المجتمع هو فضاء للتفاعلات الاجتماعية المعقدة والصراعات المفتوحة، في أفق تحقيق العدالة والديمقراطية، يختلط في الغالب بمفهوم الوطن الذي يمثل في النهاية الجماعة الهوياتية الممثلة لثقافة ونمط عيش خاص ينبغي المحافظة على استمراره.

من الحقائق المثبتة سوسيولوجيا، أن إدراك التغيرات الحاصلة يتم دائما بشكل متفاوت، لأنه نادرا ما يبدو واضحا، بل يكون في البداية عن طريق أشخاص متمردين منحرفين أو مهمشين أكثر ما يكون إدراكا جماعيا. ولذلك فالمفاهيم أو اللغات التي يستعملها الأفراد كمحاولة للتعبير عن التحول، تأتي غالبا متأخرة، لأنها لا تعبر سوى عن تحول منجز وقائم أكثر مما هو جار. مما يفرض الانتباه إلى كون اللغة المستعملة أساسا في توضيح وشرح التحول، قد تفتقد بدورها لخاصية التأويل وتفسير الظواهر. الانتباه لهذا الافتراض يحثنا على التساؤل التالي: هل ينبغي التسليم بواقع التحول لمجرد الكلام عنه، أو التداول اليومي لمعانيه بين الناس؟ لقد أوضح ميشيل مافيزولي الدور المزدوج الذي تلعبه اللغة اليومية، والتي بتركيزها على موضوع التغير- وأحيانا حتى في سعيها لتحقيقه- تتلمس ضمنيا الطريق لمقاومته وإخفاءه[20]. هذا الواقع لا يتأسس عفويا، وإنما ينساق مع ضغوطات ثقافية تلعب فيها كل من وسائل التواصل وطبيعة المرحلة وخصوصيتها البنيوية، أدورا مهمة:

أ- السيطرة على وسائل الإعلام وضبط إيقاعها وتوجهاتها وثقافاتها، حتى لا تتحول إلى مراكز لبث الرسائل المختلفة عن الاختيارات العامة للبنية "المركبة". إن الملاحظة التي أبداها بيير بورديو فيما يخص هذه الوسائل معتبرا إياها وسيلة" للتلاعب بالعقول" غير كافية فيما يتعلق بأوضاعنا، بل يمكن القول بأن هذه الوسائل تبني العقول وتعيد تأسيسها بكيفية منهجية وذكية. هذا الذكاء يتجلى في إنتاجها لخطاب إعلامي "مركب" (ينساب بين مشاريع اجتماعية متباينة ومتناقضة وهجينة) لا يسمح في النهاية بالحصول على نموذج اجتماعي لشخصية وطنية متوازنة، قادرة على الاستفادة الحقة من عطاء الثقافة الكونية والمحلية، دون الدخول في متاهات الأسئلة المقلقة حول الذات والهوية واللغة ...الخ. حقيقة تسعى هذه الوسائل وبكيفيات مختلفة للإشادة بالتغير الخاص بالقيادات والزعامات والنخب، ولكن على أساس أن تظل بنية السيطرة ثابتة ومنسجمة مع ذاتها. مما يجعلها في النهاية بافتراض مجازي مصدرا لإنتاج نوع من البالونات الحرارية التي تشتت انتباه الإدراك، وتدفعه للاهتمام بقضايا بعيدة عن الأسئلة الحقيقية.

ب- تمديد المرحلة الانتقالية: ونعني أن زمن الانتقال يشكل في النهاية أزمة حقيقية، لكون العناصر المتعارضة والمختلفة والمتناقضة تتعايش فيما بينها، في إطار يتسم بالاستمرارية مع تعذر أو استحالة سيطرة نظام معين على باقي الأنظمة، أو بروز الأشكال الاجتماعية الجديدة والمتناسقة فيما بين مكوناتها. ولكون الاعتبار الأساسي الذي انطلقنا منه يشير إلى أن الدولة في بناءها تقوم على لحظة التفكك بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، وأن وظيفة الضبط والمراقبة التي منحت للأجهزة المختصة، أصبحت بدورها في يد الدولة، بمعنى التحكم في الأشكال الوسيطية للسلطة، فمن الطبيعي أن لا يحظى الاجتماعي سوى بهامش محدود للتعبير عن مطامحه. ولهذا كان الصراع المحتدم داخل البنية يجري في سياق غير متكافئ، حيث لا يتم حل الصراعات والتناقضات، ولكن تجاوزها نحو صراعات وتناقضات أخرى. هذا التفكك يحيلنا على إشكال يرتبط بالعلاقة بين الهوية الاجتماعية والسلوكات السياسية. فالعديد من المواطنين لا يعترفون بكون المجالات السياسية التي يمارسون من خلالها مواطنتهم، تعبر بالفعل عن هوياتهم الاجتماعية. والأهم في هذا السياق كون هذه الهويات تلعب دورا حقيقيا ودافعا مهما في الانخراط السياسي، ولكن دون أن يكون لها أية مساهمة في تحديد طبيعة هذه العملية. "غربة الممارسة السياسية" وابتعادها المفروض أو الاختياري، عن الانشغالات الجوهرية للمجتمع، ليست نابعة فقط من الضرورات الأمنية المتشددة، ولكن من رفض الهويات الاجتماعية، لهذه المجالات التي لم تعد قادرة على تحقيق رغبتها في المشاركة الفعالة في الهيكلة السوسيوسياسية الشاملة للدولة والمجتمع.

لذلك انحصرت جل التغيرات الجارية على هذا الصعيد أو ذاك، في إحداث تغيرات تمس الأشخاص والوجوه والكفاءات، ولكنها بقيت عاجزة تماما، عن التأثير في البنيات والمؤسسات والأنظمة. ومرد ذلك أن التجاذب الثنائي الذي أشرنا إليه (بين الدولة والمجتمع) ينعكس سلبا على هذا الأخير، ما دامت الدولة قادرة على إحداث التغير وتعيين طبيعته وحدوده ومآله وفاعليه.

ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى العناصر الأساسية التي تلعب دورا مهما في إنتاج هذه الوضعية. نظرا لصعوبة التفسير الأحادي الذي يجعل النظام إما مجبرا على إحداث التغيير، أو قادرا على التصرف فيه بكامل الحرية. وحتى لا يختلط علينا الأمر نتيجة عدم التمييز بين "الحركة" كاستجابة طبيعية لرفض جمود الواقع وثباته، وبين حجم التأثيرات التي تمارسها على مكونات هذا الواقع وطبيعته. هذه العناصر يمكن حصرها في ثلاثة أنواع:

- تحقيق توازن جديد بدون تغيير للنظام، أي أن هذا الأخير يتوصل من خلال وظائف التكيف والإدماج إلى تأمين سير النظام الشامل. وبصورة أوضح يتعلق الأمر فقط بالتغير الداخلي للتوازن.

- إذا كانت العوامل الدافعة للتغيير قوية جدا، فسوف يختل التوازن، ويتم البحث عن نظام جديد وتغيير في البنية.

- إحداث التغيرات في منظومة القيم المؤثرة على الوظائف الخاصة بوضعية الأفراد والجماعات، داخل النظام نفسه.

هذه الوضعية الانتقالية لا يمكن أن يحددها الأفراد الذين يعاينونها ويعيشونها، فالشخص في وضعية انتقالية هو في نفس الآن (ليس هذا وليس ذاك) وكلاهما أيضا. خصوصية هذا الوضع، تتحول إلى تساؤل مستمر حول حدود الهوية ومآلها وشرعية مكوناتها، حول القيم ومدى توافقها مع التغيرات الجارية وحول المفاهيم السياسية المؤطرة للممارسات المرتبطة بالمؤسسات والتنظيمات الحزبية، كحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية..الخ.

الرجوع إلى الماضي قد يكون في هذه الحالة محاولة لربط العلاقة مع التغير، أي كوسيلة لإقرار التمفصل بين مجموعة من الأنظمة المتباينة. وغالبا ما يشكل الدين في هذه الحالة نظاما ثقافيا ملائما للوصول إلى هذا الهدف. لكنه غير قادر على الصمود في وجه التجاذبات القوية للأنظمة الأخرى. يترتب عن ذلك ظهور توترات تحيل بدورها في تقديرنا على ذلك الاستعصاء المتجدد، الملامس للقمة والقاعدة على السواء:

- التوتر المرتبط بشرعية النظام السياسي الذي يعمل على حماية هذه الاستمرارية الدينية بشتى الطرق والوسائل، حتى ولو كانت متعارضة مع الأسباب الأخرى، الكفيلة بتحقيق التقدم والتطور والتغير الاجتماعي.

- التوتر الناجم عن التغير الاجتماعي الذي يحدث بكيفية سريعة، بحيث لا تمنح هذه التغيرات الوقت الكافي للأفراد لكي يستوعبوا مضامينها وحدودها.

- طبيعة المشروع المجتمعي المفتقد للأساس و"القوة الثقافية" المخاطبة للعقول في صفاءها وليس للمشاعر في هيجانها.

إذا جوابا على الافتراضات المطروحة سابقا كيف السبيل لتحقيق التحول المجتمعي، في بنية شاملة مركبة؟ بأي معنى نستطيع الخروج من هذا الانغلاق السياسي بأبعاده الاجتماعية، دون السقوط في دائرة المواجهة الطاحنة بين الفاعلين الأساسيين داخل المجتمع؟ كيف نعمل على تذويب هذا الاستعصاء المتجدد، والدفع به إلى مستوى التلاؤم والتوافق والاعتراف المتبادل بين الفاعلين على أساس القيم المعززة لكرامة الإنسان وحريته وأمنه ووجوده؟.

ربما من بين الأولويات المطروحة في هذا السياق هو الوصول إلى تأسيس بنية تمفصلية قادرة على الربط بين مختلف الأنظمة المتواجدة في حالة تنافر (مخزنية، ليبرالية، رأسمالية، إقطاعية...) الأمر الذي لا يعني محاولة الترقيع أو الدمج التعسفي بين نظامين أو أكثر. لكنها صيرورة معقدة تقتضي التفاوض الدائم والإيجابي بين المرجعيات المختلفة المحددة لسلوكاتنا السياسية والاجتماعية. ولحظة حاسمة في الاتجاه نحو إقرار الهيمنة، أي إيجاد بنية قائمة على التحكم في المتناقضات والدفع بها لتحقيق مخارج ومنافذ لعملية الاستعصاء المتجدد أو الانسداد السياسي والاجتماعي على السواء. ليس معنى ذلك الدفاع عن المشروع التوازني الذي ينتصر دائما إما بإدامة الأنظمة، أو بتسهيله لظهور بنية جديدة حيث الرجوع إلى تلك الأنظمة. وإنما البحث عن الشروط الكفيلة بتحقيق التوازن الديناميكي الذي لا ينتهي دائما بربح طرف وخسارة الطرف الآخر (الدولة والمجتمع) ولكنه يسعى تفاديا لحالات التنافر المتنامية لإقرار التحول المعبر عن لحظة الربط المنهجي بين السياسي والاجتماعي، مفعلا آليات الاندماج التي تسمح بالعثور على المقابل الضروري حتى لا تتغلب "الأنوميا" على الانسجام الاجتماعي الشامل. وبهذه المناسبة نتذكر رأي توكفيل في الثورة الفرنسية حين قال "كل ما حققته الثورة كان يمكن بدون شك تحقيقه بدونها، فلم تكن سوى إجراء عنيف وسريع مكن في النهاية من تكييف الوضعية السياسية بالوضعية الاجتماعية والوقائع مع الأفكار والقوانين مع العادات".

وذلك لأن الإطار العام الذي تتبلور في سياقه جل الأسئلة حول التغير والتحول والانتقال، سواء من خلال رصد علاقتنا مع الماضي (تفسير التراث بأدوات معرفية حديثة) أو في دفاعنا المستميت من أجل الانتماء للمشروع الحداثي. كل هذه المحاولات على أهميتها الكبرى، لم تتبلور كحركة فكرية واجتماعية قادرة على التحرر من ثقل الماضي والتوجه لاستشراف المستقبل. وكل ما توصلنا إليه هو فقط المواجهة المصطنعة بين الأصالة والمعاصرة، والتي لم تقتصر على السياسي وحده (المواجهة بين الدولة التراثية والمناداة بالنظام الديمقراطي وألتعددي)[21] بل انتقلت إلى العلاقات الاجتماعية الفردية والجماعية، تجلت مظاهرها على مستوى السلوك والتفكير والممارسات المختلفة. ولعل أقرب الطرق لفك حصار هذا الاستعصاء الكامن في السياسي والاجتماعي، هو محاولة الكشف عن طبائع البني ( السياسية والاقتصادية والثقافية..) التي نميل ميلا غير يسير إلى معاودة تركيبها على فراغ تاريخي. وأن يكون سؤال التحول "المجتمعي" هو بداية الشروع في تدمير الأقنعة التي تمنعنا من رؤية وتحقيق المظاهر الحقة لهذا التحول. شريطة أن يكون الرهان الأكبر في هذه العملية برمتها هو كيف "نعمل على أن نكون في نفس الوقت في انتماء دائم لهويتنا –كصيرورة منفتحة –بانتباه حاد إلى الكوني، لاستحداث كلي مشترك، يقبل به الناس جميعا من جهة الرضا لا على جهة القسر، تمهيدا لتحقيق رهانات الإنسانية ضمن كونية تراهن على الإنسان في تعدده واختلافه وتنوعه"[22].

 

محمد المرجان[1]

أستاذ باحث في علم الاجتماع ـ المملكة المغربية

......................

المراجع المعتمدة:

خلدون حسن النقيب: الآفاق المستقبلية للعلوم الاجتماعية، العدد 3 يناير 2002.

عمر بن بوجليدة: العرب ومسألة التنوير: كيف الخروج من عصر تمجيد الطاعة؟ ابن النديم للنشر والتوزيع 2016.

Abderrahmane Rachik: La société contre L’Etat, mouvements sociaux et stratégie de la rue au Maroc ;Rabat, 2016.

Alain Roussillon: Réformes sociales et identité ; La Fennec, 1996.

Alain Touraine: Production de la societé, ed.Seuil, 1973.

André Gorz:La societé bloquée .ED,du seuil 1970.

Balandier George: Sens et puissance, Ed. P.U.F, 1981.

Dimitri Deflandre:identité (politique)comportement politique et determinants sociologiques ;Revue:F,R ;vol- 6- 2006.

Dominique REYNE: Aux sources de dépérissement democratique, L’OBS (Hors Série) démocratie et populisme N95, 2017.

Jean Baudouin: Introduction à la sociologie politique, seuil, Paris, 1998.

Laroui Abdallah: Les origines sociales et culturelles de Nationalisme Marocain Maspero, 1977.

Mafesoli Michel: Résistance et identité, identités collectives et travail social, PRIVAT, Toulouse, 1979.

Michel Amiot: contre l’Etat les sociologues, éléments pour une histoire de la sociologie urbaine en France (1900- 1980).Paris 1986.

Pierre Bourdieu: La sociologie et la démocratie, Tribune Libre, Zellig, N 3, octobre 1996.

Rémy Leveau: Aperçu de l’évolution du système politique Marocain depuis 20 ans, Maghreb/Machrek,N 106, 1984.

Thierry Paquet: En lisant G.Simmel ; Revue, Hermés, 2012/2, N 63.

................

هوامش

[1] . أستاذ باحث في علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة ابن طفيل، القنيطرة ـ المغرب، ورئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، حاصل على دكتوراه الدولة في علم الاجتماع سنة 2005 من جامعة محمد الخامس بالرباط. من بين مؤلفاته: "مقاربة سوسيولوجية لآليات التغيير الاجتماعي بشمال المغرب" وهو مؤلف صدر عن منشورات جمعية تطوان أسمير في سنة 2004. و"الرحلة والمعرفة الكولونيالية: المغرب بعيون الرحالة الإسبان خلال القرن التاسع عشر الميلادي" والذي صدر عن دار أبي رقراق في أواخر سنة 2016.

[2] . ألقيت هذه المداخلة في الندوة التي نظمتها جمعية الشعلة للتربية والثقافة بالدار البيضاء، (الملتقى الوطني السابع للفكر المغربي: المغرب وأسئلة التحولات المجتمعية)، وذلك يوم السبت 09 مارس 2019 ـ الخزانة البلدية، الحي المحمدي، على الساعة 10:00 صباحا. وقد تم نشرها في مجلة باحثون: المجلة المغربية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 6، 2019، الذي يتمحور حول:"العلوم الاجتماعية من الدرس الجامعي إلى الفضاء العام"، ص: 75 - 84.

[3]. Jean Baudouin: Introduction à la sociologie politique, seuil, Paris, 1998, P.99.

[4]. Dimitri Deflandre:identité (politique)comportement politique et determinants sociologiques ;Revue:F,R ;vol- 6- 2006.

[5] . لقد سبق لجوليان فرود تعريف السياسة بما يلي:"إن السياسة هي حقيبة المسافر المشتملة على كل الأشياء التي يحتاجها الإنسان في سفره".

[6]. Dominique REYNE:Aux sources de dépérissement democratique, L’OBS (Hors Série) démocratie et populisme N95, 2017, P.15.

[7]. Balandier George: Sens et puissance, Ed. P.U.F, 1981, P.76,

[8]. Laroui Abdallah: Les origines sociales et culturelles de Nationalisme Marocain Maspero, 1977, P.124.

[9] . المؤلفات الخاصة بكل من واتيربوري وريمي لوفو وعبد الله حمودي تذهب في نفس الاتجاه نسبيا

[10]. Pierre Bourdieu: La sociologie et la démocratie, Tribune Libre, Zellig, N 3, octobre 1996.

[11]. André Gorz:La societé bloquée .ED,du seuil 1970, P.17.

[12]. Rémy Leveau: Aperçu de l’évolution du système politique Marocain depuis 20 ans, Maghreb/Machrek,N 106, 1984, P.23.

[13]. Alain Roussillon: Réformes sociales et identité ; La Fennec, 1996, P.47.

[14]. Michel Amiot: contre l’Etat les sociologues, éléments pour une histoire de la sociologie urbaine en France (1900- 1980).Paris 1986,P.116.

[15]. Alain Touraine: Production de la societé, ed.Seuil, 1973, P.402.

[16]. Thierry Paquet:En lisant G.Simmel ; Revue, Hermés, 2012/2, N 63, P.21.

[17]. Abderrahmane Rachik:La société contre L’Etat, mouvements sociaux et stratégie de la rue au Maroc ;Rabat, 2016, P.24.

[18] . أنظر في هذا الشأن كتابات:عبد الله حمودي، محد الطوزي، محمد الناجي.

[19].:kAbderrahman Rachi ibid, P.193.

[20]. Mafesoli Michel: Résistance et identité, identités collectives et travail social, PRIVAT, Toulouse, 1979, P.48- 49.

[21]. خلدون حسن النقيب: الآفاق المستقبلية للعلوم الاجتماعية، العدد 3 يناير 2002، ص 9.

[22]. عمر بن بوجليدة: العرب ومسألة التنوير: كيف الخروج من عصر تمجيد الطاعة؟ ابن النديم للنشر والتوزيع 2016، ص.11- 12

 

في المثقف اليوم