أقلام فكرية

الأخلاق المسيحية بين رهان النص والعقل

عامر عبدزيد الوائليمقدمة: إنّ البحث في أنطولوجيا الأخلاق هو مبحثٌ بالغ الأهميّة للإنسان والمجتمع، وبشكل خاص للمسيحية؛ ومن الطبيعي أنّ موقف الإنسان والمجتمع من ماهية الأخلاق يحدِّد أولوياته وطرق سلوكه ومقاصده وأهدافه. (وقد نال المعلمون في المسيحية وافرا من الثقافة الفلسفية التي أحدثت أثرا قويا في أفكارهم وكتاباتهم) (1)، ولعل هذا جعل للفلسفة حضورها ثم (أن المسيحية البدائية وحدها فهمت تناهي الدازاين في هذا التدفق المريع، وهي جاءت بالضبط كأمل ورجاء (خلاص) في وقت هذا الدفق عن طريق الالتزام الأخلاقي، والإيمان الإسكاتولوجي (الآخرة) .) (2)، وهذا ما يشير له السيد المسيح: (كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل) (متى، 5:48)، وبولس في رسالته إلى الرومانيين: (لا تتشبهوا بهذا العالم، بل تحولوا إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم، لكي يتهيا لكم أن تميزوا ما مشيئة الله، وما هي صالح وما يرضيه وما هو كامل) . (رو12: 2)، يشير إتين جلسون في كتابه " روح الفلسفة المسيحية إلى طبيعة الأخلاق داخل الفلسفة المسيحية فهي تنطلق من رهان ديني وعقلي معا؛ إلا أنها تربط هذا البعد النظري بالفعل العملي إذ تبقى غايتها هذه الأخلاق معرفة الله بوصفه الخير، والضد منه هي الخطيئة .

- أن الأخلاقيين المسيحيين سعوا أولا لربط القيمة الأخلاقية بالفعل الإرادي بوصفه الجزء الأساسي لها .

- كما إنهم جمعوا في- نفس الوقت –تصورات الجمال والشرف لأفعال الإنسانية الشريفة في تصور أكثر عمومية وشمولا، وأعنى به تصور الخير .

- ثم أرجعوا الخير إلى مبدأ مقارن يستحق الثناء والجدارة لذاته وبطريقة مطلقة، وهذا المبدأ هو أكثر حقيقة من الفضيلة ذاتها، وهي لا تستحق الثناء إلا بالنسبة لهذا المبدأ .

- ولقد نظروا إلى روح الرجل العادل واعتبروها جميلة وجديرة بالتقدير؛ أنها فاضلة .ولكن الفضيلة ذاتها لا تكون جديرة بالتفضيل؛ الا لأنها توجه الإنسان وتقوده نحو الله .

- لهذا فهي ليست الخير الأقصى أو الشرط المطلق الكافي للأخلاق جميعاً ولكي نفهم كيف تغير المنظور فإن أفضل وسيلة لذلك هي أن نحدد –اولا وقبل كل شيء – ما الذي يعطي الفعل الأخلاقي صفة الخير والشر وسوف تكون أبسط وسيلة هي أن نبذل جهدنا في تحديد الفعل السيئ أو ما أطلق عليه المسيحيون اسم الخطيئة .

- إن كلمة الخطيئة ومرادفاتها لها مفهوم ديني وأخلاقي في أذن الرجل الحديث ومن الصعب أن ننفي أنه كان لها هذا المعنى باستمرار، فقد كان اللاهوتيون في العصور الوسطى معنيين بالاحتفاظ بكل ما هو حقيقي في النظرية الأخلاقية عند اليونان .(3) .

في الفقرة السابقة كانت هناك وقفة عند مفهوم " الخير" إذ أن الأخلاقيين المسيحيين سعوا أولا لربط القيمة الأخلاقية بالفعل الإرادي بوصفه الجزء الأساسي لها . كما إنهم جمعوا في- نفس الوقت –تصورات الجمال والشرف لأفعال الإنسانية الشريفة في تصور أكثر عمومية وشمولا، وأعنى به تصور الخير .

فالربط بين مفهوم < الإرادة > القائمة على حرية الاختيار من ناحية وعلى مفهوم < الخير>، من ناحية أخرى أمر ضروري في بسط الأخلاق المسيحية التي تنطلق من هدف ديني بالأساس .فهذه الأخلاق تستند إلى مبدأ مطلق هو مبدأ الخير الذي هو الله من وجهة نظر مسيحية كتابية. (وأول من رأى ذلك هو أفلاطون الذي اعتبر الخير هو مثال المثل ومن خلاله فقط يمكن معرفة العدالة والجمال، أي أنّ مبدأ الخير هو الذي يمنح الإنسان المرتَكَز الأخلاقي) (4) .

أن الذين نسميهم أخيارا وأشرارا يحسنون اللذة والألم على السواء فليس الأخيار باللذة بل بالخير، وليس أشرارا بالألم بل بالشر، وكما أن الكيفية التي تحدث في الجسم عن النظام والتناسب تدعي الصحة والقوة، فان النظام والتناسب في النفس يسميان القانون والفضيلة .(5)

ولعل هذا الاستنتاج يظهر في حديث سقراط لاوطيفرون:(أي شيء هي في رأيك التقوى؟ وما هو الضلال سواء كان ذلك في حالة القتل أو في أية حالة أخرى . أوليست التقوى هي ذاتها في كل الأفعال ؟ وأليس الضلال كذلك هو ضد كل تقوى، ولكنه في ذاته مشابه لذاته ويحتفظ بطبيعة معينة واحدة .) (6)

يبدو ان أتين جلسون يرى ان افلاطون كان اقرب من ارسطو الى المسيحية فان افلاطون (ففي الأفلاطونية –كما فى المسيحية – هناك نظام إلهي يحكم ويحدد النظام الاخلاقي، وحين يعبر افلاطون عن نفسه فى لغة الأسطورة، فإنه يذكرنا بالتراث القديم الذي يروى كيف أن "ساترن Saturn" (زحل) – الذي يعبر عن عدم كفاية الإنسان لأن يحكم غيره من الناس بسلطة أو قوةً مناسبة – بعث بعدة عقول عليا فوق المدن، وجعل من هذه الأرواح Demons رعاة للناس على نحو ما يكون الناس رعاة لقطعانهم، ونحن عندما نتبع إرشادات العقل فإننا نخضع في الحقيقة لهؤلاء الراشدين الالهيين الذين أرسلتهم السماء يرعون الناس ....ألسنا نجد أنفسنا أمام عالم يرادف العالم المسيحي حيث لا يكون القانون الطبيعي العقلي إلا تعبيرا عن القانون الإلهي، وحيث نجد أن الأساس النهائي للأخلاق إنما يكمن في هذا القانون الأخير، أعني في القانون الإلهي ؟..) (7)، فهو يقارب بين أفلاطون والمسيحية ثم يصل إلى (يمكن أن يقال إن القانون الأبدي "مكتوب " في قلوبنا، فلو كان العقل هو القاعدة التي تقاس بها خيرية إرادتنا أو خبثها، فإن سموه إنما يعود إلى أنه هو نفسه ليس إلا قبسا من العقل الإلهي.) (8)

وبناءً على هذا فإنّ الأخلاق لا تكمن في الفعل كنشاط في حد ذاته بل في مسعاه ومدى التصاقه بمثال الخير الذي هو الله. فالفعل وارتباطه بالنية والقصد هو الخير موجود في جوهر الدين عامة والمسيحية خاصة كونها تحرض على سلوك أخلاقي يكرس الفضيلة والخير ويعارض كل رذيلة وهو بهذا يوقظ الإنسان من سبات الخطيّة وتجعله يقف مشدوهاً أمام كمال المنطق الذي يظهر في قيم مسيحية كالمحبة المضحّية والتواضع والإحسان وقدسية الزواج، (9) والتي تظهر آثارها البنّاءة على الإنسان الفرد والمجتمع، لكل من لا يخشى الاعتراف بالواقع المرئيّ. وهذه القيم الأخلاقية التي يحرض عليها الدين والوصايا للمسيح .يبدو أن في هذه الأخلاق تيارين:

.وانطلاقا من هذه المواقف التي عرضناها يمكن أن نقارب الأخلاق المسيحية في بعدين أولا الأخلاق في الدين المسيحي والثاني الأخلاق المسيحية فلسفيا توما أنموذجا .

أولا، الأخلاق المسيحية دينيا:

هذا التيار يؤكد على دور الدين في الأخلاق المسيحية: اذ يؤكد هذا التيار على أن الأخلاق المسيحية هي ناتجة عن العزاء الذي عمله الله في المسيح، والمصالحة معه والحياة الجديدة في الروح القدس .(10) وهذا يجعل الأخلاق المسيحية نابعة من الحياة المسيحية المجددة بنعمة الله، وليس نابعة من الحياة العقلية أو البصيرة الفطرية .(11) وبالتالي فان هذا التيار يؤكد على أن الفلسفة الأخلاقية تقدم نظريات بينما نرى في المسيحية "تجسداً" للمبادئ الأخلاقية في حياة السيد المسيح، وهذه الحقيقة فهم الإنسان وتدفعه إلى الاقتداء به .ثم انه يرى إي هذا التيار خصلة أخرى من الاختلاف بين الفلسفة الأخلاقية والأخلاق المسيحية فالفلسفة الأخلاقية تقدم مثلا للناس مثلا عليا لكنها لا تعطي للناس مثالا حيا، إما قوة المسيحية فتظهر في تعاليم السيد المسيح وفي سكنى الروح القدس في المؤمنين في المجتمع الصغير في الكنيسة . (12) ثم أن الأخلاق المسيحية مؤسسة على الوحي الذي هو إيمان الله لذاته وطبيعته في الكتاب المقدس . (13)، والخلاصة، فإنّ الإنسان بحاجة للإعلان الخاص في الكتاب المقدس لكي يتمكن من امتلاك فضائل الرجاء والإيمان والمحبة، والتي ترتبط بمعرفة أعمق لطبيعة الله وعمله والحقائق الميتافيزيقية في العالم الروحي (14) . ويحدد هذا التيار، مجال الأخلاق المسيحية ووظيفتها:أن المسيحية ليست ديانة تقدم لنا مجموعة كاملة من القواعد والتشريعات لمواجهة كل حالة من حالات السلوك الإنساني وولكنها تتحدث عنه نعمة الله ليتجاوب معها ويكون إيمانا عاملا بالمحبة، ويقول أميل برونر: (لا يوجد شيء اسمه الأخلاق المسيحية الفردية أن الله ينظر ألينا بالنسبة لعلاقتنا بالقرب وليس بالنسبة لعلاقتنا بأنفسنا .) (15) أن محبة الله الشاملة لجميع الناس ومغفرته المطلقة لجميع الخطايا(قد تجلتا في موقف السيد المسيح من الذين كان اليهود يعتبرونهم خطأة وعشاين ووثنيين ولاجل ذلك يحتقرونهم ويذلونهم .) (16)

الثاني، الأخلاق المسيحية فلسفيا توما أنموذجا:

حيث يكون التيار الثاني وهو تيار مختلف يرى أن الأخلاق تجد في العقل الإنسان ترجمان لها كما يظهر في فلسفة أوغسطين وتوما الاكويني:

أولا: القديس أوغسطين:

يعتبر أوغسطين أعظم من ترك أثرا في الفكر اللاهوتي المسيحي في الفترة ما بين بولس الرسول والقديس توما الاكويني .(17) ولقد وصل أوغسطين إلى ما وصل إليه معنى الحياة المسيحية بعد رحلة طويلة من المعاناة والصراع الفكري والنفسي والروحي، وقد سجل خواطره الرائعة عن هذه المعاناة في كتابه " الاعترافات " (18) فكر أوغسطين الأخلاقي:

1- يرى أن الناموس في حد ذاته صالح وفيما عدا الشريعة الطقسية التي أعطيت لليهود، فان الناموس يحتوي على تعاليم البر التي يجب أن نضيفها ولقد أشار أوغسطين في أكثر من مناسبة إلى أن المسيحي مطالب بحفظ الشريعة الأدبية .ونقطة الضعف ليست في الناموس فالناموس يعبر عن مشيئة الله، لكن إرادة الإنسان الشريرة ترفض أن تطيع الناموس، أو تحاول طاعة الناموس لدوافع اخرى غير المحبة، وطاعة الناموس لدوافع ذاتية أنانية لايمكن تكون خيرا . والمشكلة في عجز الإنسان عن التصرف بحسب ما يعرف .لذلك فالإنسان لا يمكنه أن يصل إلى البر ما لم يوقظ الله فيه الإيمان والمحبة.(19) ويقول اوغسطين: (لقد أعطى الناموس حتى نطلب النعمة، ولقد أعطيت النعمة حتى نكمل الناموس .) (20)

2- يقول أوغسطين أن الإنسان عند الخليقة في جنة عدن كان يحب الله بحرية في سعادة وطاعة كاملة، لكنه باختياره الحر ابتعد بإرادته بعيدا عن الخالق، وهبط إلى مستوى سائر المخلوقات، بل بالأحرى اتجه إلى ذاته، إي أنه اختار أن يكون تحت سلطان ذاته لا تحت سلطان الله ... هذه هي الخطية الأولى، وهي لا تنبع من الكراهية أو نقص المحبة، ولكنها أتت من التوجيه الخاطئ للمحبة وبهذا سقط ادم ونسله ...وعلى ذلك فالخلاص ليس ممكنا إلا بنعمة الله كما أظهرت في المسيح وكنيسته . (21) وهذا ما نلمسه في دعاء أوغسطين:(سوف اعرفك يا من تعرفني، سوف اعرفك كما تعرفني؛ ادخل إلى نفسي يا قوام نفسي واسكن فيها واملك عليها وحولها اليك، منزهة عن كل عيب .) (22)

3- الحياة المسيحية الصالحة لا تبنى على الإدراك العقلي، ولا على السلوك الظاهري، إنما على الإرادة الباطنة، ذلك، ذلك، لأنه عندما تقيم الإنسان لنسأله عما يؤمن ب هاو ما يرجوه أنما نسأله عما يحبه . بالضرورة الأولى للصلاح الأخلاقي هي اتجاه الإرادة نحو الله ومحبته، فهي المنبع الذي تصدر عنه كل قراراته الأخلاقية، لذلك يقول أوغسطين: (أحبب الله وما تريده افعله) (23)

4- وفي كتابه: (مدينة الله) (24) إذ يقول أوغسطين: (فان الله بشهادة الكتاب المقدس، خلق الإنسان مستقيما، ذا إرادة صالحة؛ قبلها الإنسان منه تعالى مع الحياة .أما الإرادة الأولى الشريرة التي سبقت في الإنسان كل أعمال العاطلة فلست عملا بل هي انكفاء عن أعمال الله إلى أعمال الإنسان) (25)

يوضح أوغسطين أن هناك نوعين من المجتمعات يسيران جنبا إلى جنب، واحد منها هو "جماعة المؤمنين "، تربطهم معا محبة الله، وهذا المجتمع يبدأ من أدم حتى الكنيسة المسيحية والمجتمع الثاني هو "مجتمع الأرض" المؤسس على حب السلطان وهذا الحب هو الصورة السياسية للكبرياء ومحبة الذات، هما ثان المدينتان تسيران جنبا إلى جنب حتى نهاية الزمان؛ ولكن خطة الله هي أن تنتصر مدينة الله في الدينونة .(26) إ يقول اوغسطين: (لان الشريعة الخليقة العاقلة هي أنه، لا شيء أكثر نفعا لها من أن تكون متعلقة بآخر؛ ولا شيء أشد ضررا بها من أن تعمل على هواها، ضاربة عرض الحائط بإرادة خالقها .) (27)

ثانيا القديس توما الاكويني:

وهو الفيلسوف واللاهوتي الايطالي (1224- 1274) الذي لقب بالمعلم الجامع (28)، فقد يؤكد توما الأكويني على هذا الواقع الإنساني حيث يعتبر أنّ العقل الإنساني قادر على معرفة حقيقة وجود الله وصفاته، وهو قادر على التمييز بين الخير والشر والتدرّب على ممارسة هذا التمييز.

كما أنّه يجد أنّ مبدأ ضرورة عمل الخير وترك الشر هو مبدأ طبيعي موجود فطرياً في عقل الإنسان، وأنّ مبادئ الناموس الطبيعي مرتبطة بالميول الطبيعية للإنسان، كما أن الإنسان يمتلك بذار العدالة والشجاعة وضبط النفس والحكمة ولكنه يحتاج إلى تنيمتها بدون الحاجة إلى الإعلان الإلهي عن طريق الفطرة أو الحدس، فالواقع يشير إلى أن الإنسان يعرف بفطرته أن يتتبع الأخلاق السلوكية العادية، وكثير من الأتقياء في كل العالم قادرون على ممارسة الفضائل والأخلاق.

ويلخِّص هذه الملاحظة توما الأكويني كما يلي: “العقل الإنساني هو المعيار الذي يُقاس به خير الإرادة البشرية، لأن العقل ينشأ من الناموس الأبدي الذي هو العقل الإلهي ذاته؛ فمن الواضح أن صلاح الإرادة البشرية يعتمد على الناموس الأبدي أكثر منه العقل البشري.” (29) أي أنّ الخير يجب أن يكون قابلاً للإدراك بالعقل البشري الطبيعي لأنّ الصلاح الفطري الموجود فيه رغم السقوط مستمدّ مباشرةً من الناموس الطبيعي الإلهي.

عندما نقول: أخلاق، نقصد ربطها بالإنسان؛ أي إنّ موضوع الأخلاق، هو الإنسان. لكنّ السّؤال هنا: أيّ إنسانٍ نقصد؟ بالطّبع، نقصد الإنسان بما هو حرّ، أو بما هو مُريدُ أفعاله ومختارها. فعندما ندرس الأخلاق، نقصد الأفعال الصّادرة عن الإنسان بما هو إنسان؛ أي بحدّه أو كون أفعاله صادرة عن إرادة عامدة، وهذه الأفعال تُسمّى «أفعالًا إنسانيّةً». أمّا ما يصدر من أفعالٍ دونما رَوّيةٍ وإرادة حقيقيّة، فتُسمّى «أفعال الإنسان»: كتحريك اليد لضرب ذبابة وقفت على أنفك، أو العبث بشعر رأسك مَعَ انشغال الفكر بأمورٍ أخرى مُعيّنة. لذلك، حقيقة الفعل الإنسانيّ، أنّهُ مُتّصف بالغائيّة، أو مُتّجه إلى غاية مُدرَكة ومُرادة. بكلمة أخرى: الغاية هي مبدأ الأفعال الإنسانيّة.

لذلك، لا بدّ للحياةِ الإنسانيّة من غايةٍ قُصوى؛ وإلاّ لَم يُشْتهَ شيءٌ، ومِن ثَمّ، لم يُفعل فِعلٌ. وما دامت الغاية هي مبدأ الأفعال الإنسانيّة، فإنّ التّسلسل اللاّنهائيّ في العلل الغائيّة مستحيلٌ، كما هو كذلك في العلل الفاعليّة (سيأتي بعد توما الأكويني بعقدين ونيّف، وليم أوكام، ويرفض كلّ هذه الأفكار، قائلًا أنّ الأمر هذا ليس شرطًا، إنّما من الأفضل أن يكون هو الصّحيح) .(30)

أمّا الغايةُ القُصوى، والسّعادة؛ فهي تلك الّتي تملأ شهوة الإنسان بأسرها، حتّى لا يبقى شيءٌ آخر يشتهيه خارجًا عنها؛ وهي استيفاء الإنسان كماله، وكمال كلّ شيءٍ على قَدْرِ وجوده بالفعل، ولكن، أيّ فعل؟ إنّه الفعل الأقصى؛ أي فعل الجزء العقليّ الخاصّ بالإنسان، دونما الحيوان. وهذا الفعل هو فعل العقل، وليس الإرادة، إذ إنّما الإرادة هي الّتي تشتهي الغاية.

أمّا ماهيّة السّعادة الكاملة، فَقائِمة كُلّها برُؤية اللَّه. وإنّ الخير الكُلّيّ موجودٌ في اللَّه وَحده، وهو - الخير- موضوع الإرادة. والسّعادة الميسورة لنا في الحياة العاجلة، هي سعادة ناقصة، تقوم على مرتكزاتٍ ثلاثة: معرفة اللَّه ومحبّته؛ أوّلًا، ومزاولة الفضائل؛ ثانيًا، وصحّة الجسم والخيرات الخارجيّة، من مالٍ وكرامة؛ ثالثًا.

وما دامت الإرادة تابعة للعقل، الّذي هو موضوع العقل الكُلّيّ، وليس العكس، فتميل إلى الخير الّذي يَعرِضه عليها، إذ إنّ العقل هو قاعدة الإرادة الّتي يتقدّر بها صلاحها؛ فإذا كانَ الحُكم موافِقًا لحُكم العقل، كان هذا الحُكم خيرًا، وإن كان مُنافِيًا لحُكم العقل، كان شرًّا.

وفي الفعل الإنسانيّ، فيُمكننا تحديد الخير والشّرّ أو اعتباره من أوجهٍ ثلاثة: أوْلاها؛ من حيث الموضوع، إنْ كانَ موافقًا للعقل أو مُخالفًا له: كاستعمال الإنسان ما له، أو أخذه ما ليس له أو لغيره. ثانيها؛ من حيث الظّروف، أي من حيث هي أعراضٌ للفعل، أو لواحق: مثل الكَمّيّة المُلائمة، أو المكان المُناسب، فإنْ خَلا الفعل من هذه أو ذاك، كانَ فعلًا شرّيرًا. ثالثها؛ من حيث الغاية الّتي يتوقّف عليها هذا الفعل، ونسبته إلى عِلّة الخير، بكونهِ فعلًا إراديًّا.

أمّا الفعل الإراديّ، فيشتمل على فعليْن اثنيْن: فعلٌ باطِن، وفعلٌ ظاهِر. والفعل بما هو مُتَّجه إلى غاية، فالغاية إمّا طبيعيّة، أو خُلُقيّة. أمّا الطّبيعيّة، فهي ما ينتهي إليه الفعل في العيان، أو في الواقع الإنسانيّ؛ وذلك مثل قتل الإنسان لأخيه الإنسان. فأمّا الخُلُقيّة، هي الّتي تُفيد الأفعال الإنسانيّة حقيقتها النّوعيّة؛ أيْ هي صورة الفعل الظّاهر لنا. ومثال ذلك، أنّهُ قد يكون الفعل الّذي نُباشره في وقتٍ ما، خيّرًا في نوعه، أو في ظروفه، لكن قد يُقصد منه غاية شرّيرة؛ وذلك كأنْ تُساعد النّاس، بُغية المجد الباطل والظّهور المُزيّف، والعكس صحيح.

لذلك، عند توما الأكوينيّ، لا يكون الفعل خيّرًا مُطلقًا، إلاّ إذا اجتمعت له أوجه الخير كلّها. وحتّى لو سَرقتَ لتتصدّق على فقيرٍ، فلا يُعتَبر فعلك خَيّرًا؛ وذلك لأنّ كلّ نقصٍ فهو شرّ. وهناك بعض الأفعال، ليست خيّرة، ولا شرّيرة بذاتها، إنّما تكون كذلك وَفْقًا لحقيقتها النّوعيّة، ولغايتها المقصودة؛ فَذَهابي إلى باريس مَثَلًا، ليس خيرًا ولا شرًّا في ذاته، إنّما الّذي قد يُحدّد حقيقة فعلي إن كان مُتوجّهًا إلى غايةٍ لائقة أو غير لائقة. ونفس الأمر ينطبق على الانفعالات السّيكولوجيّة، فتُحدّد خيريّتها أو شرّها تَبَعًا لحُكم العقل، والغاية المُتوخَّاة منها، وذلك على العكس من الرّواقيّين، الّذين اعتبروا هذه الانفعالات أمرًا يتّصف بالشّرّ في ذاته، فهي أمرٌ مرفوض. وكانط مثلًا، رَفَضَ الشّفقة كأمرٍ مُوجّهٍ لأحكامنا الأخلاقيّة؛ والحكم هُنا يرجع إلى ما يُوافق العقل أم لا.

وكلّ هذا، يُقرّه العقل الطّبيعيّ بالنّظر في الإنسان، وبما يليق أن يكونَ عليه، وفي الأشياء المُحيطة به، وأثرها فيه. أمّا مجموع القواعد الخُلُقيّة الّتي نعقلها، ونُلزِم أنفسنا بها، فتُسمّى بالقانون الطّبيعيّ، الّذي لا يُحتاج لمعرفته إلى وحي، وهذا القانون، مُنطبعٌ في ماهيّاتنا كموجودات عاقلة ومُدرِكة. ولمّا كانَ قانونًا خُلقيًّا، فهو خاصّ بنا نحن بكوننا كائناتٍ عاقلة. وهذا القانون الطّبيعيّ، يقوم على عدّة مبادئ، وأولى هذه المبادئ، يرتكز على معنى الخير، وصيغته: يجب اتّباع الخير، واجتناب الشّرّ؛ وهو المعنى الأوّل من معاني العقل العمليّ، وهذا المبدأ الأوّل ينماز بأنّه بيّنٌ بذاته.

إذ إنّ مبادئ القانون الطّبيعيّ، منها ما هو بيّنٌ بذاته، ومنها ما هو نتيجة لمبدأ بيّن بذاته. أمّا مثال المبدأ البيّن بذاته، قولنا: يجب ألاَّ تضرّ أحدًا. فأمّا ما هو نتيجة لمبدأ بيّن بذاته، كقولنا: لا تُمسك الأمانةَ عن صاحبها، والسؤال هنا، لماذا؟ الجواب: لإنّه يجب ألاّ تسرق، وألاّ تضرّ أحدًا.

وهناك ما يُسمّى قواعد القانون الطّبيعيّ، إذ تنقسم إلى: أوّليّة، وثانويّة. أمّا الأوّليّة، فثابتة لا تتغيّر، ويشترك فيها النّاس جميعًا، اشتراكهم في المبادئ الأولى النّظريّة المطبوعة في ماهيّاتنا. فأمّا الثّانويّة، فتتغيّر بتغيُّر ظروف الزّمان والمكان، وقد تتغيّر جرّاء الجهل أو الخطأ والهوى، فتكون غطاء على بصيرة النّاس، تحجب عنهم وجه الحقّ، وتميل بهم إلى إقرار الباطل.

وهناك قاعدتان أخريان للقانون الطّبيعيّ: قاعدة قريبة، وقاعدة بعيدة. أمّا القريبة فهي العقل الإنسانيّ. وأمّا البعيدة، فهي القانون الأزليّ؛ أي العقل الإلهيّ الّذي يرى في الذّات الإلهيّة جميع الطّبائع ونظام علاقاتها، والإرادة الإلهيّة هي الّتي حقّقت هذه الطّبائع. أي بأخصَرِ الكَلِم: هي قوّة الإلزام الّتي أشرقها القانون الأزليّ في ضمائِرنا الإنسانيّة. ولهذا، تُكوّن هذه الطّبائع نظامًا مُحكمًا، واتّباع هذه القواعد، تحقيقٌ للنّظام، والتزام به، وتكريمٌ لواضعه. فيلزم إذن، أن يستحقّ المطيع لها ثوابًا، والعاصي عقابًا؛ فالمعصية إخلال بالنّظام، وإهانة لواضعه.(31)

تقييم لنظريات الاكويني الأخلاقية:

1- عندما نقارن رأي توما الاكويني في القانون الأخلاقي براى القديس أوغسطين نلاحظ: أولا نظريته العقلانية والتفاؤلية . هذه النظرة مبنية على رايه فى أن الإنسان كائن عاقل مخلوق على صورة الله، لذلك فيينما تحقق سائر الخلائق قصد الله دون وعي، فإن الإنسان الامتياز ان يعي ويفهم تعاونه مع الله لتحقيق مصيره . وهذا واضح فى فكرته على (الناموس الطبيعي) و(والناموس البشري.) (32) سين ان من بين وجوه النقد التي توجه إلى فلسفة توما الاكويني الاخلاقية نظرته العقلية المتفائلة الى وصايا القانون أو الناموس الطبيعي التي يعتبرها واحدة عند جميع الناس .فربما كان المبدأ الاساسي وهو "إن الخير مطلوب ويجب تشجيعه، وإن الشر مرفوض ويجب تركه .

2- يرى بعض إن نقطة الضعف الأساسية في فكرة الأكويني عن القانون أو الناموس ليست في نظريته عن (الناموس الطبيعي والناموس البشري) بل بقدر ما هي في نظرته أخلاق المحبة والحرية .إن وصايا المسيح في نظر كثيرين من اللاهوتيين لا تشكل "ناموسا " جديدا، ولكنها مجرد نماذج أو أمثلة لما تتطلبه إرادة الله الكاملة من أبناء ملكوته ... لكن يحتفظ توما الأكويني بثوريتها الأخلاقية فهو لا يرى فرقا بين تعاليم العهد القديم وتعليم المسيح فى العهد الجديد سوى أن الرب يسوع انشغل بالدوافع الداخلية للإنسان، وبذلك فإن الأكويني اكتفى بأن يضيف بعض "المشورات الإنجيلية" كطريق اختياري لمن يتعجلون طريق الخلاص ويريدون التأكد منه . (33)

3- أخيرا يبدو أنه لا يوجد مكان كبير للحرية فى ناموسية توما الأكويني .فبالنسبة للمسيحي الذي يختار بنفسه طريق المشورات الإنجيلية فأن نذر الطاعة يتطلب منه الخضوع بلا مناقشة . وبالنسبة للمسيحي العادي فالحرية مجالها في إن هناك أمورا في حياته لا يوجد فيها نصا صريحا من الناموس الجديد بالامر أو النهي وفي هذه الأمور وحدها يمكنه ان يلتجئ إلى نعمة الله ليواجهها بحرية . (34)

 

د. عامر عبد زيد الوائلي

.........................

1) أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار للنشر، ط3، بيروت، ص48.

2) إسماعيل مهنانة، نحو لاهوت بلا إله: المقدس والدين في فكر هيدجر، ضمن كتاب فلسفة الدين، تحرير، علي عبود المحمداوي، منشورات ضفاف، ط1، بيروت، 2012، ص 238.

3) إتين جلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ترجمة، إمام عبد الفتاح امام مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 1996 ص378.

4) مصطفى حسن النشار، فكرة الألوهية عند أفلاطون، مكتبة مدبولي، ط2، القاهرة، (د.ت)، ص50- 149.

5) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، منشورات البندقية، ط1، القاهرة، 2018، ص138.

6) مصطفى حسن النشار، فكرة الألوهية عند أفلاطون، ص109.

7) إتين جلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ص385.

8) إتين جلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ص389.

9) انظر: كيرلس سليم بسترس، مقلات في الأخلاق والحياة المسيحية، منشورات المكتبة البولسية، سلسة رقم 26.(د.ت)، ص59- 60.

10) فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج1، دار الثقافة، ط1، القاهرة (د.ت)، ص21.

11) نفس المصدر، ج1، ص 22.

12) نفس المصدر، ج1، ص 23.

13) نفس المصدر، ج1، ص 23.

14) نفس المصدر، ج2، ص 45- 47.

15 نفس المصدر ج1، ص33.

16) كيرلس سليم بسترس، مقلات في الأخلاق والحياة المسيحية، ص59.

17) فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية ج2، ص 28.

18) أوغسطين الاعترافات، نقله الى العربية الخورأسقف يوحنا الحلو، دار المشرق، ط8، بيروت، 2007.

19) فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص31.

20) نفس المصدر ج2، ص31.

21) نفس المصدر ج2، ص32.

22) اوغسطين الاعترافات، ص 193.

23) فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص 32، وانظر: Enchuruduon ch- 117 in Waldo Beach R.H.Niebuhr,p108

24) أوغسطين، مدينة الله، نقله إلى العربية، الخور أسقف يوحنا الحلو، دار المشرق، ط2، بيروت 2007

25)، ص181

26) فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص33.

27) أوغسطين، مدينة الله، ص 185.

28) جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، دار الطليعة، ط3، بيروت، 2006، ص241.

29) نفس المصدر، ج1، ص230.

30) انظر: يوسف كرم،

31) الأخلاق عند القدّيس توما الأكويني: https://ahmadphilo.wordpress.com

32 فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص49.

33 فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص50.

34 فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص51.

 

في المثقف اليوم