أقلام فكرية

ما بين هيغل وماركس: إشكاليات التاريخ ويقين المستقبل (5-5)

ميثم الجنابيالأبعاد السياسية في فلسفة التاريخ الهيغلية

وضع هيغل الحصيلة العامة لفلسفته عن التاريخ ومساره العام، وفكرة الدولة، والحرية، ومختلف القضايا المتعلقة بالثقافة، أي كل ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالفكرة السياسية، في استنتاجه المكثف بعد استعراضه مفاصل "التاريخ العالمي" للأمم والشعوب من "البداية" حتى الدولة الألمانية الواقعية والمنشودة بالشكل التالي: "لقد قدمنا أعلاه توضيحات بشأن الهدف النهائي لهذه الحركة السائرة إلى الأمام. وإن مبادئ أرواح الشعوب في الاستخلاف الضروري لما قبلها هو بحد ذاته ليس إلا لحظات من الروح العالمي العام، الذي يرتقي من خلالها ويبلغ ذروة إدراكه الذاتي في التاريخ بحيث يصبح روحا شاملا. وبما إننا نتعامل أساسا مع فكرة الروح وننظر إلى كل شيء في تاريخ العالم على انه تعبيرا عنه، لهذا فإننا حتى حالما نستعرض الماضي أيا كانت عظمته، فإننا في الواقع لا نتعامل إلا مع الحاضر. وذلك لأن تعامل الفلسفة مع الحقيقة يعنى تعاملها مع ما هو خالد. إذ لا يضيع ماضي بالنسبة لمن يطلبه، وذلك لأن الروح خالد لا يموت، أي لم يكف عن الوجود، كما لا يعني انه ليس موجودا بعد، بينما في حقيقته هو وجود حالي. ذلك يعني، إن الشكل الحالي للروح يحتوي في ذاته على كل المراحل السابقة. ولا يغير من ذلك شيئا أن يكون لجميع هذه المراحل استقلاليتها الخاصة، بينما الروح في ذاته هو على الدوام على ما هو عليه. والفرق بينهما يقوم في تطور هذا الوجود في ذاته. إن حياة الروح الحقيقية هي دورة من المراحل التي هي موجودة إلى جانب بعضها البعض من جهة، وفي الوقت نفسه هي شيء ما ماض وعابر، من جهة أخرى. فهي اللحظات التي تركها الروح على ما يبدو خلفه لكنها ظلت فيه وفي أعماقه الحقيقية".

إن المبادئ أو الحصيلة الجوهرية التي توصل إليها هيغل يمكن اختصارها بما يلي:

- إن تاريخ الشعوب أو أراوحها (الجزئية) هي مجرد لحظات في تاريخ الروح العام.

- وإن تكامل الروح العام يجري من خلال تكامل الأرواح الجزئية، ومن ثم فإن لكل منه أهميته ودوره وأثره في تاريخ الروح العام، ومن ثم في التاريخ العالمي.

- وإن الماضي بكل ما فيه هو حاضر.

- وإن منهج الرؤية الفلسفية يستلزم النظر إلى ما هو خالد فقط، أي إلى ما هو حقيقي. ولا حقيقة في التاريخ سوى مسار الروح المطلق، وما عداه مجرد أشكال وصور ولحظات عابرة في مسيره العام.

- وإن الروح في مساره وفعله وآثاره ونتائجه حي فاعل دائم وملازم لكل وجود آني حالي.

- وإن وحدة الماضي والحاضر هي لحظات ومراحل منفية في مسارها العام. ومن ثم فإن التاريخ هو نفي دائم لما فيه، بمعنى انه تمّثل لتجارب الماضي بوصفها تجليات للعقل والروح المطلق.

نقف هنا أمام رؤية فلسفية عميقة ومنطقية تتسم بقدر متناسب من التجريد والواقعية. غير أن هذه الواقعية عادة ما تكون ذيل أو حالة محشورة في المنظومة العامة، وتستجيب لمنهجه في التفسير والتأويل والرؤية. ولعل الصيغة العامة التي قال بها عن أن من ينظر إلى العالم نظرة عقلانية، فإن العالم بدوره يتخذ بالنسبة له طابعا عقليا هي احد النماذج التي تكشف عن تعايش وتضاد ما اسميته بالأبعاد المجردة والواقعية وتناسيهما في تفسيره وتأويله للتاريخ. وفي هذا التناسب الذي يجمع بين الرؤية المنطقية العميقة وتشويه التفسير الواقعي تكمن ما ادعوه باحتواء فلسفته للتاريخ على قدر واحد من النزوع المنطقي والعندي.

فالأبعاد المنطقية في فلسفة هيغل التاريخية تتغلغل في كل مسامات ما كتبه عن جسد التاريخ وروحه. وهي الأبعاد الأكثر جوهرية في إبداعه النظري، التي جعلت من فلسفته نموذجا حيا وكبيرا للرؤية العقلية والعقلانية عن التاريخ. بمعنى إنها تحتوي على الصيغة التي يصعب إدراجها ضمن سياق الرؤية الأيديولوجية وابتذالها السياسي. لكن التفسير الذي قدمه عن التاريخ الواقعي عادة ما يقع في تناقض مع الأبعاد المنطقية في فلسفته. والسبب هو أن هيغل يقوم في لوي وكسر الصيغة المنطقية التي يمثلها منهجه الفلسفي بالشكل الذي يجعله مقبولا للوعي السياسي الألماني بسبب الفقد الفعلي لما أراد هيغل بلورته على انه تجريد متسام وواقعي للحقيقة التاريخية بوصفه تحقيقا للعقل والروح المطلق. ولعل موقفه من الدولة والحرية والثقافة والدين احد الأمثلة على ذلك.

إذ لم تكن نظريته عن فكرة الحرية في الواقع سوى الحصيلة العقلية والأخلاقية للهيغلية نفسها في تأمل مجرى التطور السياسي والحقوقي الأوربي ما بعد الثورة الفرنسية. بينما يمثل المسار المحتمل والضروري للروح بالمعنى الهيغلي الوحدة، التي تشكل الحرية إحدى أدواتها. والشيئ نفسه يمكن قوله على سبيل المثال في موقفه من الدين. فاعتقاد هيغل بأنه لابد للوعي أن يدرك بأن الدين هو بؤرة ومركز هذا الوعي، وأن الدين هو "المجال الذي تقدم فيه الأمة لنفسها تعريفا لما تعتقده انه الحقيقي" لا يستقيم مع المعنى والمضمون العقلي والعقلاني لمسار الروح وكون العقل هو الذي يحكم التاريخ. فالدين ليس عقلا منطقيا بل مزيج من الوجدان والإيمان. والمقارنات التي يقدمها هيغل عن النصرانية وغيرها من الأديان لا تصب ضمن المنطق المجرد، ولاسيما وانه يشير إلى انه في الدين تنعكس حقيقة الأمم وتجارب وعيها الذاتي. لكن النقص الأكثر جوهرية هنا يقوم في أن فلسفة هيغل تحتوي على إمكانية الاحتمال العقلاني من حيث الصيغة المنهجية القائمة في مسار العقل والروح المطلق في التاريخ، إلا أن تفسيرها لمسار التاريخ الواقعي والفعلي يجعل منه العوبة بيد العقل والروح المطلق. كما يمكننا العثور في فلسفة التاريخ عند هيغل على أحد النماذج الفلسفية العميقة والمتفائلة بالمستقبل، لكنها تتخذ في صيغتها التطبيقية هيئة الصيغة العقلانية للفكرة الدينية عن "الإرادة الالهية" الفاعلة من خلال مخلوقاته، أو ما وضعته التقاليد الإسلامية اللاهوتية في عبارة "سنّة الله في الوجود" التي وضعها في حياة الموجودات ونوعية فعلها الذاتي.

أما الأبعاد العندية في فلسفة التاريخ عند هيغل فتقوم في قاعها التأسيسي. إذ نعثر عليه أولا وقبل كل شيء في ما يمكن دعوته بحدود الرؤية التاريخية لهيغل. بمعنى تناقض مضمونها الكوني وتحيزها في الوقت نفسه وتحزبها للتاريخ الأوربي. ومن ثم تبقى أحكامها المباشرة عن "التاريخ العالمي" مبتورة، وانه في أفضل الأحوال تعبير عن حدود التجربة التاريخية الأوربية بشكل عام والألمانية بشكل خاص. إذ نعثر في أغلب أحكامه على نظرة ورؤية أوربية خالصة، ومن ثم ضعف معرفته بالتاريخ الفعلي والرؤية التاريخية وفلسفتها في الثقافات الأخرى والعربية الإسلامية منها بشكل خاص.

كما نعثر على هذه النزعة العندية في تطبيقها التاريخي على الموقف من العقل. فهي تحتوي في آن واحد على أبعاد ميتافيزيقية مجردة وتأويل أوربي متحزب. فمن الناحية الفعلية لا يمكن للعقل أن يكون مجردا أو على الأقل، إن الصيغة المثلى لتحقيقه في التاريخ الفعلي أن يجري ربطه بمستوى ما ادعوه بالطور أو المرحلة التاريخية الثقافية في تطور الأمم وعقولها الثقافية. والشيئ نفسه يمكن قوله عن فلسفته تجاه الدولة، وبالأخص ما له علاقة بفكرته عن أن الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض، وبالدولة يمكن رؤية هدف التاريخ وموضوعه، وأن الشعوب لها تاريخ ما زال لها دول. فبغض النظر عن طابعها الميتافيزيقي المجرد والمتناقض مع فكرة النفي الجوهرية في منظومته الفلسفية، إلا أنها مع ذلك لا تخلو من أثر معاناة وانفعالات النخبة الألمانية آنذاك وما بعدها بصدد "الدولة الألمانية". إذ نعثر على صداها عند جميع فلاسفة ومؤرخي الألمان وشخصياتهم السياسية الكبرى، بل نرى صداها في المعاناة التي كان يتعايش معها هتلر نفسه في طبيعة ونوعية التجزئة التي مر بها الكيان الجرماني. وبالمقابل نرى نقدها الخاص في فلسفة التاريخ عند ماركس، الذي وجد في الدولة ليس ذروة الوجود الجوهري للحياة والعقل والإرادة، بل على العكس. لقد وجد فيها أداة القهر والإكراه. ومن ثم فإن الفضيلة الممكنة والضرورية بل والحتمية تقوم في اضمحلالها وتلاشيها مع مرور الزمن، بوصفها الغاية الكبرى للتاريخ الإنساني، أي الانتقال من ما قبل التاريخ (الدولة) إلى "التاريخ الحقيقي"، أي الوجود الإنساني الحر.

ولعل موقف هيغل من حالة وعلاقة الشرق بالغرب من بين أكثرها جلاء بهذا الصدد. فالمقدمة العامة والاستنتاج الجوهري الذي وضعه في موقفه من هذه القضية يقوم في الصيغة البلاغية عما أسماه بشروق الشمس في الشرق وغروبها في الغرب. بمعنى إن البداية الأولية للطفولة تجري في الشرق، بينما اكتمالها يتم في الغرب. وهو موقف تأويلي صرف لأنه يمكن قلبه بصيغة أخرى تقول بأن بداية الحياة والحضارة في الشرق وموتها في الغرب. ووجدت هذه اللحظة التأويلية المتحزبة، والمنهجية لحد ما، في موقفه من تناول بعض إشكاليات الوجود والحياة. فقد فسر هيغل إشكاليات وحالة الميتافيزيقا في الشرق على أمثلة التاريخ المصري القديم والهند والصين. وأعتقد بأن أقصى ما وصلت إليه الميتافيزيقيا الشرقية هي فكرة أن الموت يخرج من الحياة، والحياة تخرج من الموت كما نراها في نظريات تناسخ الأرواح وأسطورة العنقاء الفرعونية التي تحرق نفسها لكي ينبعث من رمادها شبابا أكثر قوة وفتوة. ذلك يعني، أن الروح وهو يستهلك غلاف وجوده لا ينتقل إلى غلاف آخر، ولا ينهض وقد تجدد شبابه من رماد صورته القديمة. لكن في داخل هذه العملية يمكن رؤية غزل ذلك الوجود وظهوره في حلة جديدة. وتصبح بالتالي كل مرحلة سابقة مادة تغزل منها مرحلتها الجديدة، أي لا جديد فيها.

تنبع نظرة هيغل هذه إلى الشرق من منهجه الخاص في دراسة التاريخ. بمعنى أنها جزء من التاريخ الكلي ووعي الذات. وبما أن وعي الذات الذي يكشف عنه العقل في مسار الروح المطلق يسعى لبلوغ الحرية، فإن الحكم القاطع الذي يقدمه عن الشرق (القديم والمعاصر له) وخلوه من الحرية، يتناقض مع المقدمة المنهجية المشار إليها أعلاه. لكن هيغل يبقى متشددا بهذا الصدد عندما يؤكد على انه لا حرية في الشرق. وإن وجدت فهي في شخص واحد (الطاغية). وبالتالي، فإن الحرية في الشرق هي مجرد "نزوة". ووضع هذه الفكرة أو الاستنتاج في مقدمة حكمه القائل، بأن "الشرقيين لم يتوصلوا إلى معرفة أن الروح أو الانسان حر من حث كونه إنسانا. إنهم لم يكونوا احرارا. وكل ما عرفوه إن شخصا معينا حر". وبالمقابل لم يظهر الوعي بالحرية كأول مرة إلا عند اليونان (في نظامها العبودي!). ومن ثم فقد كانوا أحرارا، إلا إنهم لم يعرفوا سوى أن بعض الناس فقط أحرارا، لا الإنسان بما هو إنسان. أما معرفة كون الإنسان حرا من حيث كونه إنسانا فأول من وصل إليها هم الشعوب الجرمانية عن طريق المسيحية، لكنها لم تكن قادرة على تطبيقه.

لقد كانت هذه الاستنتاجات التي تجمع بين الرؤية العقلية والخرافة "المنطقية" تستند إلى منطلق هيغل من أن الشرق كان مركز العالم. ومنه انطلقت الشعوب واللغات (الهندو- أوربية!). غير إن ما جرى في الشرق آنذاك كان يقع خارج مجال التاريخ، بمعنى انه سابق على التاريخ. وقد بنى هيغل هذا الاستنتاج الأعرج على فكرته المتعلقة بما اسماه بتحول العقلانية في التاريخ. وليست هناك قيمة قبل التاريخ لأن العقل لم يفصح عن نفسه بعد. من هنا تقييمه لتجارب الصين والهند بالشكل التالي: انه يعتقد بأن الصين والهند يفتقران إلى وعي فكرة الحرية افتقارا تاما. فالأخلاق بالنسبة لأهل الصين هي مسالة سياسية يشرف على تطبيقها موظفو الدولة والمحاكم. ثم إن قوانينهم مماثلة تماما لقوانين الطبيعة بوصفها أوامر خارجية. أما في المذاهب الهندية المتعلقة بالزهد تجاه الرغبات والدنيا فالغاية منها ليس الحرية الأخلاقية الإيجابية، بل تلاشي الوعي وانعدام الحياة الروحية والجسدية.

إن هذه الافكار ومثيلاتها العديدة المتناثرة في رؤيته الفلسفية للتاريخ وبالأخص حال الهبوط من علياء التجريد الميتافيزيقي إلى "حضيض" الواقع تكشف عن فكرة متشددة وليست تاريخية ولا ثقافية، بل هي أقرب ما تكون إلى مواقف محكومة بقواعد الرؤية الفلسفية وليست الفلسفية الحرة. بينما ينبغي للحكم الفلسفي أن يستمد مقوماته من وعي الحرية في التاريخ وليس من قواعد العقائد أيا كانت بما في ذلك الفلسفية.

إن الحصيلة النقدية بالنسبة لكمون الفكرة السياسية في هذه الرؤية الفلسفية للتاريخ تتعارض مع ما يمكن وضعه في العبارة التالية: إن الأحداث التاريخية الجسام وأثرها في مصير الأمم هي أشبه بأنين الوجدان الفعلي لصيرورة الأمم ورنين الروح العقلي لكينونتها الثقافية، أي كل ما نعثر عليه في فكرة الحرية ووعي الذات، أو كل ما اطلقت عليه المتصوفة عبارة التحرر من رق الاغبار. إذ لا يعني أن للعقل والروح وجود بذاته سوى حقيقة الحرية. وبالتالي فإن التضحيات الهائلة التي جرى ويجري تقديمها ليست كبش فداء تاريخي بقدر ما هي التمارين أو التجارب الضرورية لتحويل الزمن إلى تاريخ من خلال إيجاد النسبة المثلى والضرورية بين الوعي والوجود، أي بين وعي الفرد والجماعة، والقومية والأمة، والدولة ومؤسساتها، ومنظومة العلوم وتجسيدها الصناعي والتكنولوجي. وهذه قضية تاريخية خاصة بتجارب الأمم في كيفية حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي، ما لم تتكامل في وحدة ثقافية تاريخية خاصة لها حدودها ضمن الكلّ الإنساني.

***  **   ***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم