أقلام فكرية

الجنوسة والمرأة في نظر الفكر الإسلامي: رؤية ما بعد استشراقية

صالح الرزوقروشيل ليلى تيرمان*

ترجمة: صالح الرزوق


انفجرت البحوث المتعلقة بالمرأة والجنس في العالم الإسلامي في العقود القليلة الماضية. فالمجال متعدد التخصصات إلى حد كبير، ويغطيه بشكل أساسي علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخون والدراسات التطبيقية المحلية. ولكن، على الرغم من تنوع المناهج والموضوعات، هناك أرض مشتركة بينها: وهي  نقد الاستشراق وزعزعة تصويره لفكرة المرأة المسلمة المستضعفة. وقد حفز هذا الاتجاه مجموعة كبيرة من المنح الدراسية التي ركزت على نظريات جديدة، منها:

-  نظرية الاختلاف والتحول في المجتمعات الإسلامية،

- اكتشاف المؤسسة النسائية بفضاء نشاطها الواسع،

- متابعة الآليات العابرة للحدود الوطنية والتي أعادت تشكيل علاقات الجنوسة في العالم الإسلامي. 

ولحينه لم ترفد هذه المحاور أية مقاربة سياسية. ويمكن القول إن البحوث السياسية المقارنة عن الجنوسة في الإسلام قليلة، مما يعكس إهمالاً عميقا  للموضوع. كما أن البحوث المنشورة في مجلات العلوم السياسية بعيدة كل البعد عن الاستشراق. وهذا أمر مؤسف لأنه، كما سأبين لاحقا، يقود للتعامل مع الأدبيات النقدية من جهتين متعارضتين: فهو يزيد من أهمية المقارنات، ويصيبها بالإحباط أيضا. إن بحوث المقارنة مؤهلة بشكل فريد لتفسير الجنوسة وفهمها  من منظور إسلامي وبطرق  فشلت في التوصل إليها بقية المدارس. عموما فيما يلي مراجعة غير شاملة للأدبيات التي تناولت المرأة في العالم الإسلامي،  لاستكمال البحوث السابقة التي غطت مساحات لا بأس بها من نفس الموضوع.  وسأركز على جانب واحد وهو نقد الاستشراق - ما أشير إليه باسم "الأدبيات النقدية" - والطرق التي يمكن للمقارنة أن تستفيد بها من هذه الروح النقدية بشكل مثمر أثناء البحث التطبيقي. وأولاً سأشرح ما الذي دفع العلماء إلى تحدي مفهوم الجنوسة والمرأة في الاستشراق الإسلامي. ثم سأتابع مع ثلاث مقاربات نظرية نابعة من هذا النقد، وأناقش أهميتها في المقارنة. وسأنتهي  إلى متابعة بعض القيود التي تحد من  فعالية أساليب نقد الجنوسة في سياقها الإسلامي، وكيف يمكن للمقارنات أن تساهم في هذا المجال و تقدم لنا حلولا عملية.

أولاً - تحدي الاستشراق وإرثه

يؤسس نقد الاستشراق وما خلفه لنا من أدبيات مقاربة متعددة الزوايا لمشكلة المرأة والجنوسة في الإسلام. لكن يربط معظم الناس مصطلح الاستشراق بإدوارد سعيد، الذي استخدمه في الأوساط العلمية والثقافية والسياسية في أوروبا كي يصف التمثيلات التاريخية لـ "الشرق" (الذي يتضمن كل الشرق الأوسط وما بعده من بلدان إسلامية) . وكانت هذه التمثيلات ترتكز على فئات أساسية وثنائية تفصل "الغرب" (الحديث، العقلاني، التحرري) عن "الشرق" (التقليدي، غير العقلاني، القمعي). وهكذا، لم يقتصر الاستشراق على تنظيم المعرفة عن الشرق الأوسط، بل قام أيضاً ببناء "الغرب" باعتباره متفوقاً في الثقافة والسياسة، مما أضفى شرعية على الهيمنة الأوروبية. وفي حين أن الاستشراق لم يكرس همه للتفكير بالجنوسة، لكنه تابع الأبعاد الجنسانية للخطاب الاستشراقي (أبولغد 2001؛  يغنوغلو، 1998). وهناك مقولة يتداولها المفكرون ومفادها: أن  مفتاح التفكير الاستشراقي هو في وضع المرأة المسلمة المستلبة والمقهورة،  والتي تخضع لحضارة أبوية عريقة. ويشير قدر كبير من البحوث التاريخية إلى مركزية الجنوسة في المشروع الاستعماري، فقد استُخدم اضطهاد المرأة لتبرير الاستعمار وإضفاء الشرعية عليه  (أحمد،  1992 Alloula, 1986; Chaterjee, 1989; الأزرق 1994).  ومن الأهمية بمكان أن يُنظر إلى إخضاع المرأة على أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمراض الأخرى التي تعاني منها المنطقة، بما في ذلك التخلف الاقتصادي، والخلل السياسي، والتخلف الثقافي. وقد تضاعف الاهتمام بالجنوسة الشرقية  بعد 11 سبتمبر، عندما لاحظ العلماء منطقًا مماثلا يتم إعادة تمثيله في الحرب على الإرهاب. وقد أظهرت الحاجة المزعومة إلى "إنقاذ" النساء الأفغانيات والعراقيات بالتدخل العسكري حجم التفكير الاستشراقي في مجال السياسة. وحتى مع تضاؤل الحماس الشعبي لهذه الحروب، لا يزال الخطاب العام بما يتعلق بالإسلاميات مع فكرة أن المرأة المسلمة مضطهدة وأن الذكور متحيزون ضدها. ومرد ذلك (وفق تعويم هذا الخطاب) إلى الطبيعة الأصولية والبطريركية للإسلام.  وكثيراً ما يتم تسويق هذه الأفكار جنباً إلى جنب مع ارتفاع منسوب الإسلاموفوبيا، ودعم السياسات التي تحاصر المسلمين في الداخل والخارج (وهو موضوع دراستي القادمة). وبقدر ما أصبح الاستشراق الجنساني خطيراً بشكل خاص في السنوات الأخيرة، فإن الحاجة إلى تحديه أصبحت ضرورة ملحة ودائمة. وفي محاولة لزعزعة القوالب النمطية للاستشراق، ظهرت مؤلفات مستفيضة عن الجنوسة والمرأة المسلمة. ومعظمها يتحدى الافتراض السائد: أن الإسلام هو السبب الحقيقي في قهر المرأة. ولذلك هي تحاول  اكتشاف الحقائق المعقدة التي تتحكم بالعلاقات بين الجنسين في الإسلام. وقد أسفرت هذه الجهود عن عدد من الاتجاهات وسأركز على ثلاث منها:

1-  التنوع في  تفسير التقاليد الإسلامية، و2- اكتشاف مؤسسة المرأة ووسائطها، و3- تحليل الآليات والظواهر الجيوسياسية العابرة للحدود الوطنية والتي تحدد العلاقات بين الجنسين في العالم الإسلامي.

ثانيا- التنوع في 'الثقافات الإسلامية

تشكّك الأدبيات النقدية بشكل أساسي أن  "الإسلام" أو "الثقافة الإسلامية" عمدا لقمع النساء بشكل متشابه في كل الأطوار وكل الأمكنة. ولهذا الشك عدة مكونات. أولاً، هو يتحدى المنظور غير التاريخي الذي ينظر إلى الإسلام على أنه مجموعة من أوامر قانونية وعقيدية لا تتغير، وتتصف بالجمود مهما تعاقبت الأطوار والمراحل. وقد أعاد بعض المهتمين النظر في تاريخ الحضارة الإسلامية باستعمال عدسة جنسانية، وتتبعوا وضع المرأة واستجابتها لمختلف التطورات في السياسة والمجتمع. وبالمثل، شكك الكثيرون في أن "الثقافة الإسلامية/ المسلمين" كيان متجانس أو فريد، نظراً للكم المذهل من التنوع الذي تمثله الجماعات الدينية  والممتدة من أوروبا الشرقية إلى الجنوب الأفريقي إلى الشرق الأقصى. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تشترك  بالكتب المقدسة، فإن تفسير التعاليم والممارسات الإسلامية – بما في ذلك تلك التي تحكم العلاقات بين الجنسين – تختلف بشكل كبير من جماعة لجماعة. وبالتأكيد على هذه الظواهر المعقدة والمتنوعة والمتغيرة، تحاول الأدبيات النقدية تحدي أساسيات أو مرتكزات التفكير الاستشراقي، وأي نموذج يرى الدين منفصلا عن السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع. وتثير هذه الانتقادات أسئلة شائكة للمهتمين بدراسات الجنوسة المقارنة. وغني عن القول أن الفكر السياسي يتهم الإسلام بارتكاب جناية ضد المرأة، ويصر أن هذا الدين سبب جذري في القهر الذي تشكو منه. ولهذه الدراسات جذور عميقة تربطها مع فلسفة الحداثة و/أو "صراع الحضارات".  فهي تلوم النظام الأبوي على تطويع المرأة، وتعتقد  أن النساء أنفسهن نتاج ثقافة وتربية  أبوية و/أو دينية منتشرة في المجتمع الإسلامي (فش، 2002، 2011؛ إنغلهارت ونوريس، 2003أ).

 ويلخص إنغلهارت ونوريس هذه المشكلة بقولهما: "إن التراث الديني الإسلامي هو أحد أقوى الحواجز أمام المد المتصاعد للمساواة بين الجنسين" (إنغلهارت ونوريس، 2003ب، 49). ولكن برأيي إن اضطهاد المرأة المسلمة تعرض للنقد والتفكيك من داخل نظام الفكر الإسلامي، وباتباع مشاهدات عملية. ولدينا ملاحظات تؤكد أن العرب “معروفين بالتبخيس من قدر المرأة” أكثر من بقية المسلمين غير العرب (دونو وروسيت، 2004؛ 2004، ريزو وعبد اللطيف وماير، 2007). وهذا لا يلغي وجود توافق على أن التقاليد الثقافية والدينية تضر بالمساواة بين الجنسين، وأن الحداثة تحسن من حياة المرأة بواسطة العلمانية والعولمة والتنمية الاقتصادية - مع تراجع في مقدار التزمت الديني (ألكسندر وويلزيل 2011؛  بيث وكريستيا وإنيكولوبوف، 2013). وفي كل هذه الدراسات كان يتم النظر للإسلام على أنه محكوم بمنطق ثقافي ينشط في كل "المجتمعات الإسلامية": ويتصف أنه  مستقر وسائد، ويعادي الحداثة، ويتصف بطبيعة أبوية. وقد يكون جزء من المشكلة في المنهج التجريبي المتبع، الذي يدعو إلى دراسة العلاقة المتبلادلة بين الإسلام من طرف والمساواة بين الجنسين (والديمقراطية أو التنمية) من طرف آخر، هو اتباع أساليب غير مخصصة وطنيا (بمعنى أنها تلغي قيمة الحدود الوطنية وتقفز من فوقها). وعلى الرغم من اختلاف العلماء حول دقة هذه العلاقات التجريبية، هناك ميول تختزل الإسلام في متغير متبدل  أو مستمر يفترض أنه يتسبب بآثار موحدة، بدلاً من متابعة الاختلاف الداخلي الذي تنتجه المؤسسات الإسلامية وأساليبها. وبالمثل، فإن "حقوق المرأة" أو "المساواة بين الجنسين" يتم العمل عليها ومتابعتها بشكل عام من خلال سلسلة من المؤشرات القابلة للتبادل تقريبا، مما يحجب رؤيتنا لتأثير مؤسسات معينة تحرك مختلف جوانب حياة المرأة. فعلى سبيل المثال، لا يكون محو الأمية بالضرورة متقاطعا مع مشاركتها في قوة العمل أو موقفها من المساواة، وهذه الظواهر ليست مرادفة لـ "الحقوق" أو "التمكين".

إن مدى ترابط المؤشرات المختلفة،  في الأساس، مسألة إمبريقية، وهو ما يتم إهماله كثيراً في النموذج. والإجراء الأكثر شيوعاً هو اختصار مختلف جوانب وضع المرأة ضمن عنوان ضيق ينظر لواحد من اثنين: "القمع" أو "التمكين".

وقد حاول بعض علماء السياسة تجاوز النظرة الضيقة للإسلام من خلال الإشارة إلى أن العوامل الاقتصادية والبنيوية، وليس الدين والثقافة، هي المسؤولة عن تبعية المرأة. على سبيل المثال يقدم مايكل روس دليلاً دامغاً على أن نظام إنتاج النفط ــ وليس الإسلام ــ  يشجع على عدم المساواة بين الجنسين، أولاً في المجال الاقتصادي ثم في المجالات الاجتماعية والسياسية (روس، 2008). ولكن في حين أن مثل هذه النتائج تسهم بحل جزء مهم من اللغز، إلا أنه سيكون مؤسفا أن تمضي قدماً كما لو كانت الثقافة والدين غير ذات صلة بالعلاقات بين الجنسين في البلدان المسلمة (أو في أي مكان آخر). والأهم من ذلك، أن الانقسام الصارم بين التفسيرات "الثقافية/الدينية" و"الاقتصادية/البنيوية" يحجب حقيقة أن المؤسسات الدينية والمواقف الثقافية والضغوط الاجتماعية والاقتصادية تتقاطع وتحدد بعضها بعضا.

وربما يفيدنا هنا دراسة مؤسسات إسلامية معينة كمتغيرات وسيطة، تشكلها سيرورة السياسة والاقتصاد، وفي الوقت نفسه تؤثر على العلاقات بين الجنسين في مجتمع معين. وهكذا يمكن للباحثين أن يبنوا على رؤى مستمدة من دراسات محلية ومن علم الاجتماع لتفسير الأساليب التي كانت بها حقوق المرأة متشابكة تاريخياً مع الصراعات السياسية المحلية. على سبيل المثال، يمكن أن نبحث مستقبلا عن الطرق التي يتم بها التفاوض على السياسات الجنسانية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة وذلك خلال نزاعات النخبة وبناء التحالفات. كيف تصبح القضايا الجنسانية مسيسة وإلى أي مدى يتم تسييسها بشكل مختلف عبر البلدان؟. وكيف تؤثر إدارة الدولة على المكونات الدينية وتتعاون معها لتطوير قانون الأحوال الشخصية أو المؤسسات الأخرى التي تؤثر على حياة المرأة؟. تبدأ هذه الأسئلة من الافتراض المسبق بأن "الإسلام" تحدده، جزئياً على الأقل، العمليات السياسية التي تختلف عبر الزمان والمكان. وهكذا  في حين أن البعض قد يرى في التنوع الإسلامي الهائل ما يحبط توحيد الأساليب، أرى أنه فرصة للمقارنة ومتابعة الاختلافات.

 ثالثاً - بالإضافة إلى التأكيد على تنوع الإسلام، تحدّت الأدبيات النقدية الصورة النمطية للمرأة المسلمة وأنها ضحية سلبية، وأكدت على دورها السياسي المؤثر.  وتغطي البحوث المتعلقة بالمؤسسة النسائية نطاقا واسعا من المشاهدات،  ابتداء من مغامراتها الإبداعية في الفن والأدب،  إلى إدارتها  البراغماتية للأسرة والمجتمع. وهنا أود تسليط الضوء على النشاط السياسي للمرأة، وخاصة مشاركتها في الأطر والمؤسسات الدينية.

هناك اتجاه يحاول استعادة الحركة النسوية من داخل التقاليد الإسلامية،  ويرفض الرأي القائل بأن الإسلام هو في الأساس بطريركي، أو أن حقوق المرأة أو الحركة النسائية فيه تحكمها مفاهيم مستوردة من الغرب. وبدلاً من ذلك، يستلهم النصوص الإسلامية المقدسة والفقه الليبرالي والأحداث التاريخية السابقة وينظر لها  كدليل على أن الحركة النسوية تتعايش مع الإسلام، بل إن الإسلام (يفوضها هذه المهمة ويرى أنها أمانة بين يديها).  (أحمد، 1992؛ بارلاس، 2002؛ وإدوارد، 1999). ومن خلال المطالبة بحقوق المرأة، في إطار ديني، يوفر هذا المنظور الأساس لحركة اجتماعية وأكاديمية تعرف باسم "النسوية الإسلامية" أو "الاتجاه الإسلامي في تفسير المرأة".  وقد ازدهرت هذه الحركة في أجزاء كثيرة من العالم (بدران، 2013؛ مير حسيني،  2006. مقدم 2002). وهناك مجموعة أخرى من البحوث التي تتابع مسألة المرأة في سياق الحركات الدين - سياسية (أبولغد، 2013، براك، 2008؛ محمود، 2011؛ شيتريت، 2015). ويركز خطابها على كتلة من الأسئلة: لماذا تشارك المرأة في المنظمات والمؤسسات والهياكل التي يبدو أنها تحد من حريتها ومن تساويها مع الذكور، وما هي عواقب هذه المشاركة؟. وحتى في الساحات التي هي أبوية بحكم تصميمها، وضعت المرأة استراتيجياتها بطرق مبتكرة لتعزيز مصالحها، مما يزعزع في كثير من الأحيان المعايير الجنسانية التقليدية. ففي إيران، على سبيل المثال، كان للحجاب الإلزامي والفصل بين الجنسين الذي فُرض بعد الثورة الإسلامية أثر متناقض في جذب النساء إلى المجال العام. وتلاحظ ذلك بشكل خاص عند النساء التقيات والإسلاميات اللواتي وجدن في هذه الحدود الدينية الصارمة الجديدة فرصة للانضمام إلى الجامعات والقوة العاملة ومؤسسات المجتمع الأخرى.  وعندما اكتسبت المرأة الإسلامية درجة من استقلالية الذات ومنافذ مفتوحة للتحرك، استخدمت سلطتها الجديدة لدفع النظام نحو سياسات تقدمية نسبيا، وحرصت على المساهمة في حركة الإصلاح الشاملة (عفري، 2009؛ و2009. هودفار وساديغي، 2009؛ مير حسيني، 1999). وهكذا، فإن البيئات التي تهدف إلى فرض التسلسل الهرمي للجنسين يمكن أن تكون مصدرا لتمكين المرأة. في حين أن البحث المذكور أعلاه يناقش إلى حد كبير دور المرأة المسلمة في تخريب المعايير الأبوية، فإن بعض البحوث تتحدى هذا الخلط الواضح بين معنى المؤسسة والمقاومة. وتقول سابا محمود في دراستها المؤثرة عن دور المساجد في مصر إن النساء التقيات تعبرن عن الولاء من خلال قبول الأعراف الأبوية، والتآلف معها، وتوطيدها، ومنها الحياء والفصل بين الجنسين (محمود، 2011). وتقول: إن الإخلاص لمثل هذه المعايير لا يمكن أن يُرفض على أساس أنه "وعيً زائفً" أو إيديولوجيا عمياء، بل هو ممارسة عملية تقوم بها المؤسسة الأخلاقية للمرأة. ومن الأمور الشائعة أن تجد أن النساء قد لا ترغبن دائماً في التحرر من القيود الدينية، وفي كثير من الأحيان تتطوعن للعمل في ظل هذه القيود - مهما كانت أبوية - لتعزيز مصالحهن الخاصة وفق رؤيتهن لها. حتى أن كلمة "قيود" قد تكون مضللة، حيث أن البيئات الدينية توفر الموارد والفرص المتاحة في البدائل العلمانية. والواقع أن الحركات السياسية الإسلامية غالباً ما تتفوق على نظيراتها الأكثر ليبرالية وتوفر دعما استثنائيا للمرأة، وتقدم لنا سبباً آخر لإعادة النظر في نظريات التحديث/العلمنة التي تربط الدين باضطهاد المرأة. وليس المقصود تجاهل أو تقليل التفاوت بين الجنسين في العالم الإسلامي. لكن التركيز على إخضاع المرأة يمكن أن يحجب جوانب واقعية أخرى ومدعاة للتفاؤل. وبالإضافة إلى استنتاج نظريات مهمة، تثير المؤلفات التي تناولت مؤسسة المرأة في العالم الإسلامي عدداً من الأسئلة العملية التي تتطلب توظيف الدراسة المقارنة. فعلى سبيل المثال، هناك حاجة إلى إجراء مزيد من البحوث لمعالجة أثر مختلف الاستراتيجيات المستخدمة في الحركات النسائية.

وتصر العديد من الدراسات حول النسوية الإسلامية على أن الخطاب الديني أكثر فعالية من الحجج الليبرالية ، ولكن الأدلة المنهجية التي تؤيد هذا الرأي محدودة. في مثال ممتاز عن المشاركة الكاملة يتناول مسعود وجمال ونوغنت (2016) هذه المسألة بعد إجراء مسح واسع النطاق في مصر. وبنتيجته يظهر أن الإجابات تدعم بالأكثرية إعطاء المرأة دورا سياسيا وقياديا . وينطلقون من القرآن لتبرير رأيهم وليس من مبررات غير دينية،  وبالتالي يقدمون دعما واضحا للنظرية الإسلامية في تأنيث الحياة والمجتمع.  ويلحون أن المستقبل هو الكفيل بإثبات نجاعة تكتيكات وفعالية مختلف المنظمات النسائية في البلدان المسلمة (مقدم وغيتانشي، 2010). وعلى نحو مماثل إن المقارنة بين النشاط العلماني والنشاط الديني قد تقود لنظرة جديدة عن ديناميكية الحركات النسائية، وتحررها من القوالب  النمطية المتعصبة والقمعية  التي يضعها النشاط الديني في طريقها، أو تحررها من النشاط العلماني “الغربي” (وبالتالي غير الأصيل والنظيف).

ويمكننا أيضا أن نتعرف على المزيد عن مشاركة المرأة في الحركات الدينية - السياسية الأوسع نطاقا. ويلاحظ العديد من المراقبين وجود زيادة كبيرة في مشاركة المرأة وتمثيلها في الأحزاب السياسية الإسلامية، والتي يصاحبها في بعض الحالات  تحول إيديولوجي نحو مواقف جنسانية أكثر تقدمية داخل هذه الأحزاب. ويُنسب العمل المقارن الأخير إلى المناورة الاستراتيجية والتعبئة التي قامت بها المرأة من أجل زيادة حصتها في القيادة داخل المجتمعات المسلمة (Arat, 2012; كلارك وشفدلر، 2003؛ تاجالي، 2015). ومع ذلك، ليس من الواضح ما هو التأثيرالممكن الذي قد تبدل به النساء من واقع هذه الأحزاب بعد المشاركة فيها. وما هي الظروف التي يمكن أن تضمن للمرأة المسلمة فعليا حقوقها؟. في محاولة للإجابة يجب أن نقاوم أي محاولة لاختزال المشكلة إلى مستوى معركة بين المرأة ونظام الأبوة. وكما ذكرت محمود في دراستها: إن النساء هن الأدوات الوسيطة التي تفرض معايير أبوية.  وأخيرا، لا يُعرف الكثير عن سبب اختيار المرأة لشكل دون سواه من أشكال المشاركة السياسية. وتكشف بعض الدراسات المقارنة عن دور الضغوط والحوافز الاقتصادية - لا سيما التي تحيط بالزواج - والتي تدفع النساء إلى تبني نظم قيم محافظة (بلايدز ولينزر 2008; هودفار، 1997). ويمكن أن يوسع العمل في المستقبل هذا الخط من البحوث والتحقيقات بواسطة دراسة الظروف التي تشكل فيها الطبقة (أو العرق والانتماء الديني، وما إلى ذلك) الهويات السياسية للمرأة.

ثالثا - المنظور الجنساني والإسلام في رؤية عابرة للحدود الوطنية

أخيراً، تبرز الأدبيات النقدية أهمية النظرة الكونية لدراسة الجنوسة في المجتمعات الإسلامية. وقد ذكر إدوارد سعيد إن الاستشراق لم يكن ببساطة مجرد “سوء” تمثيل للـ “شرق” ؛ بل قام بدور نشيط في بناء "الغرب" وتحديد علاقته بأراضي المسلمين. وهذه الارتباطات بدورها تشكل هدف المجتمعات الإسلامية نفسها. والواقع أن عمليات الاستعمار وبناء الدولة عبر الوطنية كان لها آثار عميقة على المجتمع الإسلامي بمختلف نماذجه. وإن ما يسمى بالممارسات "الأصلية" أو "المحلية" كانت نتاج هذه العلاقة مع آليات العمل الكونية العابرة للحدود والهويات. وأحد الآثار المترتبة على ذلك أن فهمنا للجنوسة في المجتمعات الإسلامية غير كامل أساساً، ونحن حتى الآن  نتعامل مع هذه المجتمعات على أنها قائمة بذاتها ومنفصلة بشكل مطلق عن ما هو عابر للحدود الوطنية.

على سبيل المثال، تفترض البحوث الحديثة (الأطروحات المرقونة في جامعات وعمل عليها موفدون) أن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي الحديث أو قانون الأسرة له جذور تعود لفترة الحكم الاستعماري، الذي شكل المؤسسات الدينية من أجل تلبية متطلبات الدولة الحديثة التابعة للقالب الأوروبي. وفي مقارنة بين ماليزيا ومصر والهند، تُظهر إيزا حسين كيف تم إنتاج وتقنين قطاع "الشريعة الإسلامية" من خلال سلسلة من اللقاءات بين الحكام الاستعماريين والنخب المحلية، وهي عملية تمركزت حول "الشريعة الإسلامية" في مجال الأسرة والميراث وغيرها من المسائل "الخاصة" (حسين، 2016). ويسلط عمل آخر الضوء على أهمية الحركات القومية، المناهضة للاستعمار، في تشكيل المقاربات الجنسانية المعاصرة. ولأن المرأة كانت محورا هاما في الخطابات والسياسات الاستعمارية، فقد تم استعادتها مرة أخرى في الخطاب المناهض للاستعمار، وأصبحت علامة تدل على الهوية الوطنية. والواقع أن الهيئات النسائية كانت في كثير من الأحيان نقطة صراع سياسي على نطاق أوسع، فضلا عن كونها الحامل لأي نسخة من نسخ الحداثة وتحقيق الأمة وإنجاز شعار السيادة  حسب معايير تلك الآونة (يوفال دايفيس، 1997). في إيران، على سبيل المثال، أدى نزع الحجاب قسريا في فترة الشاه إلى أسطرة العباءة  حتى أصبحت بعد الثورة الإسلامية زيا موحدا يدل بامتياز على معاداة الإمبريالية (نجم آبادي، 1991). وبالمثل، اكتسب الحجاب في الجزائر بعد حملة فرنسا الرامية للتخلص من النقاب أهمية سياسية وأصبح رمزا للمقاومة ضد الاستعمار  (لزرق، 1994).

إن تطور المعايير الجنسانية "الأصيلة" أو "الأصلية" التي تخالف المعايير الغربية لا تزال بصعود مستمر في العصر الراهن، خاصة منذ النهضة الإسلامية التي بدأت في السبعينات والثمانينات. وتكشف السرديات الأخيرة أن المرأة تميل لارتداء الحجاب وللعودة إلى التقوى،  وهذا هو الأسلوب المرغوب والسائد للتأسيس لحداثة بديلة متميزة تختلف عن النماذج العلمانية الغربية (غول، 1996). وهكذا، فإن ما يبدو للوهلة الأولى أنه عودة لكيانات الجنسين بالمعنى التقليدي هو في الواقع نتيجة لعمليات تحديث واضح، وإن لم تكن متوقعة تماما في نظريات الحداثة. وتتمثل الرؤية الرئيسية في أن العلاقات بين الجنسين في المجتمعات الإسلامية لا تتحدد حصراً بعوامل داخلية في تلك المجتمعات،  وأن التأثيرات الخارجية غالباً ما تكون لها عواقب متناقضة وغير مقصودة تؤثر بحياة المرأة. وهكذا، لكي نفهم تماما الممارسات الجنسانية أو دور المؤسسة النسائية، نحتاج إلى جهاز نظري يولي اهتماما وثيقا للاتصالات العابرة للحدود الوطنية. وبالنسبة لعلماء السياسة العاملين في مجال السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، تثير هذه الملاحظة أسئلة مثيرة للاهتمام وتتطرق للديناميات الجنسانية المعاصرة في العالم الإسلامي. وهنا سوف أقارب موضوعين فقط.

1- لاحظ العديد من الباحثين أن النقاش حول حقوق المرأة في البلدان العربية يتشكل من خلال معاداة الولايات المتحدة ومعاداة الغرب (بوش وجمال، 2015؛ بوش، 2015؛ ريزو وعبد اللطيف وماير، 2007).  وينظر الكثير من العرب إلى معايير حقوق المرأة على أنها شكل من أشكال الإمبريالية الثقافية، وبالتالي لا بد من مقاومة هذه المعايير لتحقيق السيادة وتماسك الأمة. ولكن هل هذه الملاحظة موجودة في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما الذي يفسر الاختلاف في تصور العلاقة بين حقوق المرأة وبين الهيمنة الأمريكية أو الإمبريالية الثقافية؟. قد يكمن أحد الأدلة في بحوث بلايدس ولينزر (2012)، اللذين يؤكدان أن جذور معاداة الولايات المتحدة ناجمة عن التنافس ين الأحزاب الدينية والعلمانية في الشرق الأوسط. وتشير النتائج التي تم التوصل إليها إلى أن معايير حقوق المرأة محملة أيضا بمعاداة الولايات المتحدة، وهذا شرط إيديولوجي مسبق في كل المجتمعات، كما أنه شرط استراتيجي للنخب  التي تراهن على نشر هذه المعتقدات الأيديولوجية لتحقيق مكاسب سياسية. ومع ذلك، من الضروري إجراء المزيد من البحوث لفهم هذه الاستراتيجيات بشكل كامل، ولتفسير طرق انتشار الإيديولوجيات الجنسانية "غير الغربية" أو "المعادية للغرب" والتي تجتاح أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي.

2- نحن بحاجة ماسة إلى فهم أفضل لتأثير التدخل العسكري الأجنبي والحروب المستمرة على حياة المرأة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم. ومن المرجح أن يتحدى الواقع الاستنتاجات المعيارية السهلة. فمن ناحية، ربما تكون السلطة الحاكمة بمساعدة من الغرب قد أتاحت فرصاً جديدة للنساء في التعليم، والقوى العاملة، والقطاع المدني. ومن ناحية أخرى، يتفق علماء السياسة والنقاد على أن المحاولات الغربية لغرس الديمقراطية والحرية في الخارج كثيراً ما تؤدي إلى عواقب غير مقصودة تفضي إلى تفاقم النزعة غير الليبرالية التي كان من المفترض أن تدمرها. وفي مواجهة هذا التعقيد، فإن البحوث المقارنة هي أداة حاسمة لتحديد الأنماط العامة والعلاقات السببية.

خامساً - الاستنتاجات:  ما بعد الاستشراق؟

أن أدعي أن البحوث المقارنة  يمكن أن تتعلم بشكل مثمر من نقد الاستشراق، لا يعني أنني أقول إن الأدبيات الناقدة تخلو من العيوب أو بعض القصور. إن مركزية الاستشراق تفرض عدداً من القيود على هذا المجال، بما في ذلك:

-  خفض قيمة العلاقات الاجتماعية لصالح تحليل التمثيلات.

-  والابتعاد عن المؤسسات الأبوية المحلية التي لا تستمد مغزاها من الصور الغربية.

- والخلط بين إدانة التمييز بين الجنسين في العالم الإسلامي وبين فكرة الاستشراق ( تيرمان، 2016).

في ضوء أوجه القصور هذه، يقدم أتباع الدراسات المقارنة مهارات وأساليب ورؤى فريدة لدراسة الجنوسة وأحوال المرأة المسلمة. والواقع أن الأدبيات النقدية غالباً ما تستخدم مزاعم عملية تستمدها من العمل التطبيقي لا يتم التحقق منها . والأسوأ من ذلك أنه يتم الاعتماد عليها وكأنها عقيدة مقدسة. وينبغي على أتباع البحوث المقارنة أن يتولوا مهمة اختبار مثل هذه الادعاءات ومقارنتها مع البيانات المتاحة، الأمر الذي من شأنه بالتأكيد أن يغني النقاش النظري ويدفعه لتجاوز الركود الذي لحق بنظرية الاستشراق.

وسيستمر الباحثون الذين يقومون بأعمال تجريبية في مواجهة عدد من الصعوبات، ولا سيما الافتقار إلى البيانات المتاحة بالإضافة إلى التحديات المنهجية المحيطة بإجراء الاختبارات. ولكن من خلال إشراك نقد الاستشراق في أساليب عملنا، من المرجح أن يقدم أنصار البحوث المقارنة نظرة أكثر موضوعية تفسر العلاقات بين الجنسين في المجتمعات الإسلامية. وعليه  يجب أن نتجنب الميول للتعميم وافتراض أن جميع النساء لديهن رغبات متماثلة في كل مكان. وفي الوقت نفسه، يجب أن نقاوم إغراء تهميش المرأة المسلمة وكأنها نوع بشري منفصل. وأن نقاوم أيضا الظاهرة التوأم للتهميش، والتي تفترض أن عالم النساء الاجتماعي يتحرك من فوق النظريات الإنسانية العامة التي تحكم مجالات الجنوسة والتسييس. وغني عن الذكر أن أنصار البحوث المقارنة يبنون معارفهم عن الجنوسة في محيطها الإسلامي، ثم يعيدون التفكير بها وتفكيكها في بيئة مغايرة  (لتكن الولايات المتحدة)،  وإلى حد كبير باستعمال رموز سياسية تتطرق  للمعرفة التي نكتسبها عن الجنوسة بسياق إسلامي، ثم يعملون على توظيفها في سياق آخر (وسوف يستخدمونها لإعادة التفكير حول فهمنا للجنوسة في أماكن أخرى بما في ذلك في الولايات المتحدة). وفي إطار الجهود الرامية إلى "تعميم" الجنوسة في العلوم السياسية، لن يكون الهدف الحقيقي هو زيادة كم النشاط المتعلق بدراسة الجنوسة وإنما قدرته على الوصول لزوايا حساسة من هذا الموضوع.

 

............................

* روشيل ليلى تيرمان Rochelle Layla Terman باحثة وأكاديمية أمريكية. تعمل بمرتبة أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو.

 

في المثقف اليوم