أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: موضوعية الخير في فلسفة جون فينيس

علي رسول الربيعيإنه من المهم أن ندرك عندما نتحدث عن "الخير" ليس الخير أو الخيرات الموضوعية عموما قيمًا أخلاقية، ولكنها أشياء تجعل الحياة جديرة بالاهتمام؛ صفات تجعل الأنشطة وأشكال الحياة مرغوبة؛ أنها، على حد تعبير فينيس، "أشكال من الازدهار البشري".

وأنه من المهم أيضًا أن ندرك ايضأ  أن "الموضوعية" هنا تعني شيئًا مثل "الخير بغض النظر عن الرغبة". الخير الموضوعي ليس شيئًا قد تتعثر فيه: إنه شيء خيًر، سواء كنت ترغب فيه أم لا. وهكذا يمكن أن نقول إن التعليم خير مثلا، وحقيقة أنه خير يعطي المرء سببًا للرغبة فيه، وبمقابل ذلك، فإن الخيرات الذاتية هي أشياء خيرة لأنك ترغب فيها فقط.

يسرد فينيس سبع خيرات موضوعية أساسية وهي: الحياة، والمعرفة، واللعب، والخبرة الجمالية، والصداقة (أو التواصل الاجتماعي)، والعقلانية العملية، والدين. لا تشكل هذه الخيرات تسلسلاً هرميًا وكلها أساسية بالقدر نفسه.

كيف نعرف أن هناك بالفعل هذه الخيرات الموضوعية المتنوعة؟ يعتقد فينيس أنه لا توجد طريقة لاستنباط الخيرات من شيء أكثر جوهرية منها، لأن هذه الخيرات تشغل موقفًا بديهيًا في عقلنا العملي بنفسها. بدلاً من ذلك، علينا أن نفكر مليًا في ارتباطاتنا الخاصة في العقل العملي، وأن نفكر فيما إذا كانت هذه الارتباطات ليست في الحقيقة مفهومة من خلال ارتباطها بالخيرات الموضوعية المختلفة. يجب أن نفكر في قراراتنا الخاصة للقيام بهذا أو ذاك، بناءً على أسباب الافعال التي نقدمها للآخرين ("يجب عليك الإقلاع عن التدخين" على سبيل المثال)، والطريقة التي نوضح بها تصرفات الآخرين (" لقد توقف عن التدخين حرصا على صحته "). سنرى بعد ذلك أن استدعاءات أسباب الفعل هذه مرتبطة كلها في النهاية، بطريقة أو بأخرى ، ليس بالرغبات، ولكن في الخيرات الموضوعية المتنوعة.

يدعي فينيس أن الخيرات الموضوعية بديهية. فمن البديهي، على سبيل المثال، أن المعرفة أفضل من الجهل. هذا لا يعني أن الأمر واضح بذاته، أو أن الجميع يتفقون على خيرية المعرفة. ولكن الخيرات  الموضوعية مفترضة مسبقًا بأي شيء يمكن اعتباره حجة للعقل العملي. تفترض التحقيقات النظرية للعلم مبادئ معينة للعقلانية النظرية؛ تلك المبادئ التي يفترضها أي شيء يمكن اعتباره دليلاً. وبالطريقة نفسها لا يمكن للمرء أن يثبت أنه يجب متابعة الصداقة: لأن خير مثل الصداقة ستفترضها مسبقًا أي حجة تسعى إلى تقديم أسباب للفعل. إن تقديم سبب لقيام شخص ما  بفعل هو دائمًا كشف كيف يرتبط الفعل بخير موضوعي. يترتب على ذلك أنه لا يمكن للمرء أن يقدم أسبابًا للسعي وراء الخيرات الموضوعية: أي شخص لا يستطيع حقًا فهم الأهمية التي يجب أن تتمتع بها مثل هذه الخيرات لسلوكه هو ببساطة غير معقول.

يقدم فينيس حجة إضافية فيما يتعلق بالخير الأساس للمعرفة، أنه يدعي أن إنكار كون المعرفة خير أساسي يدحض نفسه بنفسه. إذا أنكرت أن المعرفة خير، فلا بد أن أؤمن أن إنكارى  جدير بالأهتمام. وعندما أخبرك أن المعرفة ليست خير، يجب أن أؤمن أن موضوع المعلومات هذا (أي أن المعرفة ليست خير) يستحق الحصول عليها. وهكذا، في إنكار أن المعرفة خيرة، أفترض أيضًا أن المعرفة  خيرة: وبالتالي فإن إنكاري هو دحض ذاتي.

من المشكوك فيه أن تكون هذه الحجة الأخيرة (حول المعرفة) ناجحة. قد ألتزم بتقديم هذه المعلومات أو تلك، بالحكم على أنها  تستحق الحصول عليها. لكنني لست ملتزمًا بالحكم على أن المعرفة خير موضوعي. قد أعتبر أن المعرفة ذات قيمة مفيدة فقط، عندما تساعدنا في تحقيق أهدافنا الأخرى دون إهدار الجهود. قد أعتبر أن  من الجدير معرفة أن المعرفة في حد ذاتها ليست خيرة موضوعيا لأن هذا سيوفر الجهد الضائع في اكتساب المعرفة غير المجدية. إن افتراض أن موضوع المعرفة هذا خير (من الناحية الذرائعية) ، لايعني أنا ملتزمًا بالرأي القائل بأن كل المعرفة خيرة في حد ذاتها.

لنفترض، على سبيل المثال، أنني وجدتك تحفظ لوحات أرقام السيارات في الشارع ، وتشعر بقلق شديد لأنك تستمر في نسيانها. عندما أسألك عن سبب قيامك بذلك، فأنت تقول ذلك لأن المعرفة خير في حد ذاتها، ومعرفة لوحات أرقام السيارات هي مثال على المعرفة. أقول لك أن المعرفة ليست خير في حد ذاتها ، بل هي فقط خيرة من النحية الذرائعية؛ وأنك تضيع وقتك وتعاني الكثير من الألم في السعي وراء المعرفة التي لا قيمة لها. عندما  اقول لك هذا أخبرك، فأنا ملتزم بالتأكيد فيما يتعلق بالمعلومات التي قدمتها لك (أي أن المعرفة ليست خيرة في حد ذاتها) على أنها ذات قيمة. لكني أعتبرها ذات قيمة من الناحية  الذرائعية (فهي توفر عليك من إضاعة وقتك): أنا لست ملتزمًا برأي أنها خيرة في حد ذاتها.

  حتى لو فشلت الحجة الخاصة المتعلقة بخيرية المعرفة، فإن الحجة الأكثر عمومية التي يقدمها فينيس لديها قدر كبير من المعقولية. ننخرط بانتظام في التفكير العملي، فنحن نتداول بشأن ما يجب أن نفعله بعد ذلك، والأهداف التي يجب أن نسعى إليها على المدى الطويل؛ ونتساءل لماذا يتصرف الآخرون بهذه الطريقة أو تلك، ونسعى لفهم سلوكهم من حيث سبب تصرفهم؛ وأحيانًا نخبر الناس أنه "يجب" عليهم فعل هذا أو ذاك، سواء لأسباب أخلاقية أو احترازية. نعتمد في كل هذه السياقات، على فهمنا للعقل العملي، ونفترض مسبقًا معايير معينة غير مذكورة للعقل العملي. لتقييم حجة فينيس، يجب أن نفكر في هذه الارتباطات المألوفة في العقل العملي، ونحاول تكوين وجهة نظر حول المعايير التي يتم استدعاؤها ضمنيًا. عندما نفعل هذا، فمن الممكن تمامًا أن نجد بعض الخيرات الموضوعية لها مكانة بديهية في ممارسات العقل العملي. إن ادعاء فينيس بأن الخيرات "بديهية"  بذاتها هو في جوهره ادعاء بأن الخيرات تتمتع بمثل هذه الحالة البديهية.

يجب أن يسأل أولئك الذين يعترضون على أن فينيس لا "يثبت" أن هناك خيرات موضوعية أنفسهم ما الذي يعتبرونه دليلاً. إذا كانوا يعنون بالدليل أنه يجب استنتاج الخيرات من شيء أكثر جوهرية، فإنهم يعتمدون على فكرة "الدليل" التي تتعارض بوضوح مع فكرة أن الخيرات لها وضع بديهي: فلا يمكن استنتاج بديهية من أي شيء أكثر أهمية. لكن هذا لا يعني أن ادعاء فينيس هو مجرد تأكيد لا أساس له من أنه يمكننا إما قبوله أو رفضه كما نختار. لتقييم حقيقة نظرية الخيرات الموضوعية، يجب علينا أن نفكر مليًا وضميرًا في ما نفعله بأنفسنا عندما نفكر في أسباب الفعل التي لدينا نحن والآخرون: هل تستند هذه المطالبات إلى العقل العملي دائمًا في نهاية المطاف إلى مطالبة ضمنية لواحدة أو أخرى من الخيرات الموضوعية؟

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................

 المصادر

Finnis, J. Aquinas (Oxford: Oxford University Press, 1998).

Finnis, J. Fundamentals of Ethics (Oxford: Clarendon Press, Finnis, J. Natural Law and Natural Rights (Oxford: Oxford University Press, 1980(.

  George, R. In Defense of Natural Law (Oxford: Oxford University Press,

1999).

 George, R. Making Men Moral (Oxford: Oxford University Press,1993).

 Murphy,M.C. Natural Law and Practical Rationality (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).

 Murphy, M.C. Natural Law in Jurisprudence and Politics (Cambridge: Cambridge University Press, 2006).

 

في المثقف اليوم