أقلام فكرية

حسين علاوي: تأويل فلسفة القضاء والقدر

حسين علاويلا يعرف الفكر البشري مباحث أدقّ وأعمق وأبعد وأعقد من بحثَيْ القضاء والقدر.. ففيهما تكمن أمهات المسائل الفكرية التي لا يتوقف الإنسان عن طرحها منذ أن عرف النطق وعرف الالتفاف إلى نفسه وإلى ما حوله من العالم.. وتُسمّى الجبر والاختيار.. أو الحرية والإرادة، وكلها تُعطي معنىً واحداً.. أي ما يحدث للإنسان من أفعال.. هل هو حُر، أم مجبور في إحداثها..

فهذه المفردات متصلة بحياة الإنسان ومصيره.. ومن أجل هذا شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين والفقهاء وقد كانت تُفسَّر بطرق مختلفة تبعاً للكيفية التي تعالَج بها مسألة حرية الإرادة.. ففي نظرية القدر عند الإغريق كان الإنسان يُعد لعبة في أيدي الطبيعة أو الآلهة، أو عاجزاً عن تغيير المسار المحدد له من  قبل الأحداث.. وهذا النوع من القدرية الذي ينكر حرية الإرادة إنكاراً تامّاً، كان يعارضه طرف نقيض آخر هو الإرادية.. وقد استُبدلت هذه النظريات بالديانة المسيحية التي تعتبر القدر عناية إلهية على اعتبار أنَّ مصير كل فرد محدد مسبقاً وبشكل نهائي فأما أن يخلص وأما أن يهلك..

إنَّ مشكلة القدر هي مشكلة الإنسان.. فلا عجب أن تُطرح في كل عصر وفي كل بيئة، وينقسم الناس حيالها فرقاً وطوائف، كل فرقة نظرت إلى جانب من جوانب المشكلة، ويدفعها إلى ذلك نوازع وتطلعات خفيّة أو ظاهرة.. وتشابك عناصر هذه المشكلة هو العامل الرئيس في صيرورتها متاهة من متاهات العقل البشري الذي قد لا يستطيع تخطي حدود الزمان والمكان.. فهي من جهة تبحث في الإنسان وقدرته الباطنة والظاهرة وأفعاله وسلوكه.. ومن جهة أخرى تبحث في هذا الإنسان سلطان القضاء والقدر أو الإرادة أو المشيئة أو الإرادة الإلهية.. فضلاً عن العلم والحكمة.. ومن جهة ثالثة تبحث عن موقف الإنسان من التكاليف الشرعية أي من النبوة والأنبياء، والغاية الكبرى لهذا الوجود الإنساني كالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب.. وقد اقتصرت على العقل دون الرجوع إلى الوحي ونصوصه في مباحث لم تصل إلى الحقيقة ولم تهتد إلى صواب.. وبقيت تدور في فلك الحيرة وليس بصحيح أنَّ العقل مستقبلاً يستطيع حل هذه الإشكالية؛ لسبب بسيط وظاهر وهو أنَّ من موضوعاتها ما يتجاوز حدود ما هو فوق طاقتِه، وخارج ميدان معرفته.. إلّا أنَّ البحث في هذه المفردات لم يتوقف لأنه مرتبط بالإنسان وقلقِهِ الوجودي ومصيره..

ويعتقد سبينوزا إنَّ ما في الدنيا من خير وشر هو على السواء من إرادة الله.. وإنَّ ما يبدو لنا شرّاً سببه أننا محدودون.. أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلّا على وجه الكمال.. ويعتبر ليبتز أنَّ كل موجود في الكون وحدة مستقلة لا تتأثر بوجود أخرى.. ولكنها تتفق في الحركة كما تتفق الساعات في إشاراتها إلى الوقت دون أن تتأثر أي ساعة منها بغيرها.. وإنَّ كل وحدة من هذه الوحدات محتوية على ذاتها، ومحاكية في وجودها للوجود الأعلى وهو الله.. ولكنها تتفاوت في الكمال على حسب التفاوت في المحاكات..

ويعتقد هيجل أنَّ تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع من ثم لقاعدةٍ كونيةٍ عامةٍ تتولد منها الحرية الزائفة (أنظر: التاريخ تحقيق لملكوت الله، د. زكريا إبراهيم، ص76-77)..

واتفق الإمامية والمعتزلة واستدلّا بأدلة منها:

- أنَّ كل إنسان يشعر من نفسه أنه يؤدي أعماله اليومية باختياره، كالذهاب إلى المكتب أو الحقل أو المصنع أو السوق... وما إلى ذلك من الأفعال التي إنْ شاء فعلها، وإنْ شاء تركها.

- لو كنّا مكرَهين على فعل، لم يبق فرق بين من أحسنَ وأساء.. مع إنَّ الطفل يميز بين من يعطيه الحلوى وبين من يؤلمه، وينفر من هذا ويتقرب من ذاك.. ولو كانت الأفعال كلها من الله لكانت على نسق واحد، لا إساءة فيها ولا إحسان، ولا خير ولا شر.

- لو لم نكن فاعلين لكان الله ظالماً للعباد، يخلق فيهم المعاصي ثم يعاقبهم عليها (معالم الفلسفة الإسلامية، ص120)..

وبما أنَّ العلاقة وثيقة بين الفكر واللفظة المعبرة عنه، فقد وردت هذه اللفظة أي القدر في القرآن مصدراً وفعلاً: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر/1، و(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49.. ومعنى القدر التقدير ووضع الشيء بموضعه المناسب.. وفي تفسيره للآية الأولى يقول القاضي عبد الجبار: "إنَّ معنى إنزالهُ في ليلة القدر دليل على إحداثه ودليل على أنَّ الله اختار وقتاً معيناً من الأوقات ليُنزل فيه القرآن، ويدل على حدثه لأنه اختار إنزالهُ في حال دون حال، وذلك لا يصح فيما ثبت أنه قديم، أما لفظة قدر التي وردت في الآية الثانية فتعني الإحكام المتقن للفعل والقدرة عليه".

فالقدر بمعنى القدرة والإحكام، لا أنْ تُحمل هذه الآية على ما تقوله المجبرة من أنه تعالى يخلق أفعال العباد (فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص57).

وقد يُذكر القدر ويُراد به العلم والأخبار والإعلام والبيان، وقد يراد به الأجل والحكم.. أما العِلم فكما في الآية (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الشورى/27، فالله يعلم أنه لو بسط لعباده الرزق كله لعاثوا فساداً وبغياً في الأرض.. وأما القدر فإننا واجدوه في القرآن (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) الرعد/17.. أما عن الأجل والحكم فيقول تعالى: (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) المرسلات/22، أو (كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الأحزاب/38.

إنَّ جميع هذه الأفعال التي أوردناها لمعنى القدر تبيّن لنا أنه لا يجوز أن نضيف أفعال الإنسان إلى الله بمعنى أنه خالقها..

والمراد بالقضاء والقدر عند المعتزلة: أنَّ افعال الله تقع منه مُقدّرة.. فالقضاء هو الفراغ من الفعل وإتمامه كما ورد في الآية (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فصلت/12..

وقد يُذكر ويُراد به الإيجاب كما في الآية (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) الإسراء/23، والمراد بهذه الآية الالتزام والأمر، لكن مع تخصيص الواجب بالذكر دون غيره.. وهذا لا يعني إطلاقاً أنَّ لزم الغير بالشيء معناه أنَّ الله قضاه وقضى به عليه، ففي الآية (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) الإسراء/4، ويراد أنَّ القضاء يُطلق على الإعلام والإخبار (فلسفة القدر، المصدر نفسه، ص59).

وقد أطَّرَ المعتزلة قضية الجبر والاختيار تأطيراً عقلانياً أكثر منه عقدياً إيمانياً.. كما أعطوْا الحرية بعداً أخلاقياً وإنسانياً.. وإنَّ العقل قادر على التمييز بين الخير والشر، وبين الحسِن والقبيح.. وإرادة الإنسان سابقة لأفعاله التي يفعلها حسب اختياره.. من هنا جاء التكليف في الشريعة متسقاً مع حرية الإنسان في النظر والاختيار.. ومن هنا تتحقق عدالة الخالق بما يعني تنزيههُ عن الظلم، حيث إنَّ الظلم يعني وضع الشيء في غير موضعه.. فعدل الله يقتضي تكليف الإنسان بما يطيقه، كما إنَّ الفعل من لدن المكلف يتأتى نتيجة حرية إرادته واختياره.. فإذا كانت أفعال الإنسان مرتبطة بالعدل الإلهي، فهي في الوقت ذاته وثيقة الصلة بحرية الإنسان، ومن ثم تكون الحرية الإنسانية تأكيداً للعدل الإلهي، وإذا انتفت حريته انتفت مسؤوليته (مختصر المغني، القاضي عبد الجبار، ص151)..

فالإنسان في نظر المعتزلة مسؤول عن أفعاله، فهو صانعها ومبدعها ومخترعها.. هذا بالنسبة للأفعال الإرادية.. إلّا أنَّ هناك أفعال تخرج عن استطاعته، وقد يُحاسب عليها.. وهي أفعال وليدة ظروف جسدية وموضوعية تحول دون تحقيق إرادة الإنسان.. إلّا أنَّ المعتزلة وضعوا لها حَلّاً يتمثل في اللطف الإلهي الذي يمكّن الإنسان من فعل الخير، ويبعده عن المعصية..

إلّا أنَّ القرآن الكريم حين يعرض القضاء والقدر لا يثبت مذهباً سابقاً عليه كالجبر أو حرية الاختيار والإرادة.. ولذلك وجد كل طرف دليلاً لمذهبه منه.. فالجبري وجد نصرة لرأيه في قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) و(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) و(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) و(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ) و(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)... إلخ.

والقدري القائل بحرية الإرادة وجد متسعاً لرأيهِ في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) و(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) و(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).. وجميع آيات الفعل والصنع والسعي والعمل والتكليف والثواب والعقاب والهداية والضلال والصلاح والفساد... إلخ، يؤكد القرآن أنَّ الله خالقها: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الزمر/62، و(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات/96.. فالله يخلق ما نسمّيه شر، أي فساد أو كفر، وهو لا يرضى عنه.. والمراد أنّ لم يشرع عمله، أي لم يبيحه، وإنما جعله باطلاً، وفي هذا قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ...) الزمر/7.. فهو حسب القرآن يخلق العمل الإرادي والإجباري، وعلى الإنسان أن يهتدي بعقله أو يضل..

والمتوسطون رأوا في قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير/29، ربطاً بين المشيئتين.. وفهموا الكسب على أنه وسط بين الجبر والخلق والحرية.. أو أن يخلق المرء فعله من غير قيام موانع تمنعه من الفعل.

والحقيقة أنَّ القرآن لا تُفهم آياته بهذا النمط التعسفي الذي يجعل البعض آياته حقيقة، ويجعلها الآخر مجازاً، فيسلط التأويل على الأخرى بحجة كونها مجازاً أو متشابهة أو غير ذلك، دون أي برهان أو دليل، ودن أن يجزئها من سياقاتها القريبة والبعيدة.. وأن يعتبر القرآن كلّاً لا يتجزأ يفسر بعضه بعضاً.

وبما إننا نعجز عن الإحاطة بقدرة الله تعالى.. وكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القدر.. فالله تعالى هو أظلَّ وهَدَى، وأسعدَ وأشقَى، وأماتَ وأحيَا، ونحو ذلك من مظاهر نفوذ مشيئته في الإنسان.. وإنَّ الإنسان مع هذا مسؤول عن أفعاله ما دامت صادرة عنه، بتوسط إرادته وقدرته..

 

حسين علاوي

 

         

 

في المثقف اليوم