أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الوجودية كحركة ثقافية وفلسفية

لو أردنا وصف شخصا وجوديا، ربما يكون وصفنا له كانسان متبرم يجلس في مقهى باريسي مرتديا قميصا ذو ياقة سوداء، محتسيا الكوكتيل ويدخن السكائر- شخص يأسف على عبثية الحياة، ويحزن على وجوب ان نصنع بطريقة ما حياة لأنفسنا في مجتمعات غريبة لم يُطلب منا ان نولد فيها.

هذه الصورة – المرتكزة على تصور ثقافي خام للوجودية – هي صحيحة تماما. المقهى الباريسي في الثلاثينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي كان مركزا لشخصيات وجودية شهيرة مثل جين بول سارتر وسيمون دي بوفوار وموريس ميرلو بونتي والبرت كامو جميعهم ناقشوا عبثية الحياة ومعظمهم استعان بالكوكتيل والسكائر.

ولكن وراء هذا الولع بالدخان، تذهب الفلسفة الوجودية عميقا. بالنسبة للعديد من الناس، انها طريقة ساحرة للتفكير حول العالم، وحول مكاننا فيه. اذاً ماهي الوجودية بالضبط؟ باختصار، الوجودية تهتم بايجاد طرق لتوضيح تجربة الانسان الفرد، بالتركيز على معنى ان يوجد الكائن البشري الفرد في كون لم نفهمه.

تعريف الوجودية بأكثر من ذلك يتطلب بعض التوضيحات، لأن الوجودية مصطلح غير مقتصر على الفلاسفة، وانما ايضا يُستعمل لوصف أعمال الروائيين وكتّاب المسرح والفنانين – ولاسيما فيودور دوستوفسكي وفرانس كافكا وصاموئيل بيكيت – بما يجعل الوجودية كحركة ثقافية عامة بمقدار ما هي فلسفة معينة. لنأخذ الآن نظرة سريعة على الحركة الثقافية قبل التوغل في المبادئ الفلسفية الثلاثة للوجودية.

الوجودية كحركة ثقافية

الإستعمال الثقافي الواسع لمصطلح "وجودي" يصف اساسا أي مفكر يضع اهتمامه في التجربة الفردية المعاشة – خاصة في التوتر بين حقيقة اننا مسؤولون بالنهاية عن خياراتنا، وافتقارنا لـ اطار واضح لمعرفة ان كانت القرارات التي نتخذها هي صحيحة، او مهمة. هذا التوتر عموما يترافق مع شك بانه، في كل يوم، تكمن هناك حاجة انسانية عميقة لم تكن العلوم الطبيعية والأديان التقليدية قادرة على تلبيتها. على هذا النحو، تتميز الأعمال الوجودية بمواضيع مثل الرهبة، الضجر، القلق، الاغتراب، العبث، الحرية، الالتزام، العدم، وما يعنيه حقا ان تكون كائنا متجسدا في كون لامبال وغير معروف.

في هذا الشأن، دوستوفسكي في (مذكرات من تحت الارض) و(المحاكمة) لكافكا هما مثالان كلاسيكيان للروايات الوجودية، ومسرحيات صاموئيل بيكيت وتماثيل النحات البرتو جياكوميتي تستطلع موضوعات وجودية بطرق ساحرة ومقلقة.

الوجودية كفلسفة

كان الجانب الفلسفي الرسمي والأكثر تجسيدا للوجودية يصارع وبشكل مباشر مع مفاهيمها وموضوعاتها الرئيسية، لذا من الملائم النظر باختصار لتاريخها، الذي يمكن ان يكون مربكا. فمثلا، في القرن التاسع عشر، اعتُبر كيركيجارد اول فيلسوف وجودي، مع انه هو ذاته لم يستعمل ابدا مصطلح وجودي – وربما كان يرفض التسمية . في الحقيقة، فلاسفة القرن العشرين مارتن هايدجر والبرت كامو رفضوا فعلا التسمية اثناء حياتهما رغم انهما كانا شخصيتين اساسيتين للفكر الوجودي.

كلمة "وجودية" استُعملت اول مرة من جانب الفيلسوف الفرنسي غابريل مارسيل عام 1943، ولم يتم تبنّيها بوضوح الاّ من جانب جين بول سارتر وسيمون بوفوار. وجرى اعتبار المفكرين الأوائل مثل كيركيجارد وفردريك نيتشة كأسلاف للحركة الوجودية – هناك عدد من معاصري سارتر وبوفوار ايضا دخلوا ضمن التسمية بصرف النظر عن درجة الوضوح التي عُرّفوا بها.

وفي ضوء الاضطراب في إطلاق التسمية على من هو الوجودي ومن هو غيره، يرى البعض ان عمل سارتر وحده يجب تسميته وجودية خالصة، كونه الأكثر صراحة في قبول المصطلح وتنظيم أعماله حوله. صحيح ان سارتر ربما وفر الدافع الرئيسي للوجودية كحركة، لكن كما سنرى ان عمله تأثر بعمق بأسلافه وبمعاصريه. من هذا العمل، هناك ثلاثة مبادئ رئيسية للفلسفة الوجودية وهي الظواهرية، الحرية، والأصالة. لننظر بهم تباعا.

1- الظواهرية phenomenology

وهي حركة فلسفية طوّرها ادموند هوسرل في بداية القرن العشرين وجرى تبنّيها لاحقا من جانب هايدجر وكارل ياسبر وآخرون. الظواهرية تهتم بفحص الهياكل الأساسية للوعي والخبرة، وتؤكد اساسا على الأهمية الحاسمة لمنظور الشخص الاول (المتحدث بصيغة الضمير انا للمفرد ونحن للجمع) في فهم أنفسنا والعالم الذي حولنا. فمثلا، لو كنا نريد وصف تجربتنا في النظر الى وعاء من الفاكهة، فنحن اساسا نصف وبشكل محايد الأشياء المتميزة التي نراها: الموز، التفاح، البرتقال، والوعاء ذاته.

لكن الظواهريين يدعوننا هنا الى التوقف مؤقتا . ماذا نشعر عندما ننظر حقا الى وعاء الفاكهة؟ هل هي فقط هذه الأشياء المتميزة؟ ام انها عبارة عن عدد كبير من أشكال موحدة، قوام، ألوان، أصوات، روائح، مرور الوقت، مزاجنا، وربما رغبة في البرتقال، تغلّب على نفور من فاكهة لا نحبها؟ المسألة هي، انت عندما تفكر حول شيء، فان تجربتك بالعالم تتصف كليا بالقصدية. مع اننا نصف تجاربنا كما لو كنا فقط اشخاص نتصور الأشياء سلبيا (بحيادية)، لكننا في الحقيقة لا نتعامل حقا مع العالم بهذه الطريقة. بدلا من ذلك، نحن منغمسون في كل ما نمارس، كل ما موجود في العالم من خلال عدسة ذاكرة متغيرة باستمرار، رغبة، مزاج، انتباه، عدم انتباه، نية.

لذا، عند النظر الى وعاء الفاكهة نحن لا نرى فقط اشياءً سلبية وانما وجبة خفيفة محتملة – او حتى رد فعل تحسسي محتمل. نحن نلقي أنفسنا في العالم فنلتصق بكل شيء يتعلق بتجاربنا: تصوراتنا هي مفاهيمنا ونوايانا تنعكس مجددا علينا. وهكذا، لنأخذ مثال من هايدجر، نحن لا نرى فقط قطعة من الخشب ملتصقة ببعض المعدن وانما مطرقة، وسيلة – شيء ما نستطيع استعماله قصدا. يجادل الظواهريون ان منظور الشخص الاول القصدي هذا – الطريقة التي حقا نمارس بها الحياة – هو عادة ما يُنتزع من وصفنا للعالم، عندما نفحص هذا النوع المباشر من الخبرة اللحظية، فلابد من العثور على البصيرة الفلسفية الثرية.

قصديتنا في الشخص الاول ليست فقط خاصية لأذهاننا، يجادل هسرل: انها اطار من خلاله يصبح العالم وأذهاننا قابلان للفهم. ازالة هذا الاطار من اعتباراتنا (كما عندما نحاول العمل في العلوم لخلق منظور شخص ثالث "موضوعي") يترك صورة غير مفهومة للتجربة الانسانية ويسبب مشاكل فلسفية غريبة بين الذهن والجسم قادت الى قرون من الإلتباس الناجم من شك ديكارت وكوجيتاه. لذا، فان استعادة منظور الشخص الاول بكل فوريته وتعقيديته – والاعتراف بمدى تشابك هذا المنظور مع العالم الذي نتصوره – يكمن في قلب الظاهرية، ويصبح طريقة مفيدة للتفكير بالعالم من جانب وجوديين مثل سارتر. وكما يكتب استاذ الفلسفة ستيفن كراول في موجزه عن الفكر الوجودي:

"الاتجاه الظواهري أعطى شكلا فلسفيا للرؤية الوجودية الأساسية بان التفكير حول التجربة الانسانية يتطلب مفاهيما جديدة غير موجودة في المخزون المفاهيمي للفكر القديم او الحديث، الكائن البشري يمكن فهمه لا كجوهر بخصائص ثابتة، ولا كأشخاص يتفاعلون مع عالم الأشياء".

2- الحرية:

اذا كان مبدأ الظواهرية اعطى للوجودية شكلها الأساسي – أي، طريقة للحصول على الكيفية التي تكون عليها الاشياء حقا، والذهاب وراء التصنيفات القديمة للفطرة السليمة والعلوم الطبيعية لوصف الوجود البشري على حقيقته – عندئذ فان مبدأ الحرية أعطى الوجودية قيمتها التأسيسية. وكما يرى الفيلسوف المعاصر جوناثان ويبر في عمله لعام 2018 (إعادة التفكير بالوجودية):

"كما عُرّفت في الأصل من جانب سيمون بوفوار وجين بول سارتر، الوجودية هي نظرية أخلاقية يجب ان نتعامل فيها مع الحرية كجوهر للوجود الانساني وكقيمة باطنية واساس لجميع القيم الاخرى".

لأن العديد من المفكرين الوجوديين هم ملحدون، هم اعتقدوا ان لا وجود لمسارات او أهداف مخصصة سلفا لأي منا، وان الكائن الانساني لا يمتلك أي "طبيعة" متأصلة او "قيمة" أكثر اساسية من حقيقة اننا موجودون. بكلمة اخرى، كوننا واعون بوجودنا هو الشيء الأعظم اساسية حول معنى ان نكون كائنا بشريا. سارتر يرمز لهذه الفكرة بقوله الشهير، الوجود يسبق الجوهر، ويستنتج انه متروك لنا، من لحظة الى اخرى، ان نستعمل وجودنا لصياغة طبيعتنا وقيمنا، وخلق أي "جوهر" نختار ان نصبح فيه مهما كان الانسان . وكما أوضح سارتر عام 1946 في "الوجودية هي انسانوية":

"الانسان يوجد اولاً، يواجه ذاته، يصعد في العالم ويعرّف نفسه فيما بعد".

النتيجة من هذا هي، وفق الرؤية الوجودية، نحن نتحمل مسؤولية كاملة على منْ نحن، وعلى القرارات التي نتخذها (بالطبع هناك العديد من علماء الأعصاب والفلاسفة اليوم يرفضون اننا نمتلك حرية، مجادلين ان الرغبة الحرة ليست الاّ اوهاما).

لكن بالنسبة للوجوديين، كوننا نعيش في كون فارغ من الاتجاه والهدف او المعنى، فان هذه الحرية المشوشة هي سبب المزيد من قلقنا – قادت سارتر للزعم اننا في الحقيقة "محكوم علينا" لنكون احرارا: "الانسان محكوم عليه ليكون حرا لأنه لم يخلق ذاته، فهو حالما قُذف به في هذا العالم، اصبح مسؤولا عن كل شيء يعمله".

كيركيجارد يلخص هذه الفكرة – فكرة ان حريتنا الوجودية تقود الى القلق حول الإمكانات اللامحدودة المتوفرة لنا – في عمله عام 1844، (مفهوم القلق) حيث يذكر

ان القلق ربما يُقارن بدوار(عدم التركيز). حينما ننظر نحو الاسفل باتجاه مشهد عميق، سنُصاب بالدوار. القلق هو دوار الحرية يبرز عندما تريد الروح ان تفترض الحرية فتنظر نزولا نحو إمكانيتها المحدودة، فتتمسك بهذه المحدودية لمساعدة ذاتها.

3- الأصالة:

اخيرا، حالما اعترفنا بأهمية منظور الشخص الاول، واعترفنا بالحرية الحتمية التي نمتلكها في وجودنا المُعاش من لحظة الى اخرى، سنأتي الى مبدأ مركزي آخر للفلسفة الوجودية يتبنّى موقف الأصالة.

لكي نتغلب على القلق والإغتراب الناتجين عن الإعتراف بحريتنا الحتمية ومسؤوليتنا، فلابد ان نواجه منْ نحن – بما في ذلك حقيقة اننا فانون وسنموت يوما ما، كما ينصحنا فلاسفة آخرون مثل الايبيقوريون – ونكون حقيقيين، نرفض الإنحناء لأي شيء يساوم حريتنا الفردية او أصالتنا، سواء كانت ضغوطا خارجية او معتقدات مجتمعية او ملذات للهروب. وكما يذكر ويبر، الوجودية لدى سارتر وبوفوار تبدأ بجدال حول فضيلة الأصالة" وبالنهاية تؤكد "مبدأ الاصالة الأخلاقية".

بروفيسور جامعة يال، نورين خواجا Noreen Khawaja، في عملها (دين الوجودية) تؤكد ان "فكرة الأصالة الشخصية هي في لب الفكرة الوجودية".

أين تتركنا الوجودية؟

باختصار، بينما التصور الشائع للوجودية يدور بشكل ضيق حول الخوف والقلق في كون عبثي، لكن الحركة الفلسفية الرسمية هي أكثر شمولية، وهي عموما تستلزم ثلاثة مبادئ رئيسية.

1- انها تستلزم الإعتراف بالأهمية التأسيسية للظواهرية، منظور الشخص الاول القصدي في فهم ملائم لأنفسنا وللعالم.

2- انها تشير للإعتراف بالحرية والمسؤولية التي نمتلكها في التجربة المعاشة.

3- هي تدافع عن فكرة ان الأصالة الشخصية هي فضيلتنا الرئيسية، لأنها تسمح لنا بمواجهة منْ نحن، كي نعيش بانسجام مع العالم، وبالتالي نقلل الشعور بالقلق والإغتراب.

هذا الصراع الروحي يحدث الى حد ما ضد فكرة الكون اللامبالي والخالي من الإله – كون "اُلقينا" فيه وتُركنا نتعامل مع أنفسنا – بما يعني انه مع ان هناك العديد من الوجوديين الملاحدة، لكن كتاباتهم مثلما تؤكد خواجا، "تبدو دينية لقرّائها" .

***

 حاتم حميد محسن

..............................

* Philosophy Break, May 2021

في المثقف اليوم