أقلام فكرية

قاسم حسين صالح: اللاوعي الجمعي.. اللاعب الخفي في الصراع العراقي

نختلف، نحن السيكولوجيين، عن المحللين السياسيين في مفهوم (الصراع) فهم يحددونه بنوع واحد يتمثل بموقف تنافسي يكون طرفاه او اطرافه على دراية بعدم التوافق في المواقف السياسية المحتملة التي تضطر كل طرف الى اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني، فيما نرى نحن ان للصراع انواعا اخرى . فهو في بعده الاجتماعي يمثل كفاحا حول قيم او مطالب او اعتبار اجتماعي يكون هدفه كسب قوة اجتماعية مرغوبة تعلي من مكانة جماعة معينة فوق مكانة جماعة او جماعات اخرى. وهو في بعده الاقتصادي تنافس بين جماعتين او اكثر على حيازة نصيب اكبر من ثروات كبيرة او الاستحواذ على موارد محدودة.وهو في بعده الثقافي تنافس بين جماعتين او اكثر بهدف اعلاء وتغليب معتقدات جماعة معينة والحط من معتقدات جماعة اخرى.. فضلا عن أن الصراع يمكن ان يكون حالة ايجابية تؤدي الى التطور اذا اعتمد الحوار الذي يحترم الرأي والرأي الآخر.

وكثيرون لا يدركون دور اللاوعي الجمعي سواء على صعيد الفرد او المجتمع.ولتوضيح ذلك نشير الى أن اللاوعي او اللاشعور الجمعي هو (ثقافة).. لأنه يتضمن أفكارا ومعتقدات وقيما ورموزا واساطير، وأن تشابه الناس في سلوكهم واختلاف الأفراد في تصرفاتهم يعود الى (الثقافة).فاختلاف رجل الدين عن الارهابي مثلا يعود الى اختلافهما في المنظومة الثقافية لدى كليهما.هذا يعني أن الثقافة أشبه بـ(جهاز تحكّم).. يحدد نوعية تصرفات الفرد والأهداف التي يسعى الى تحقيقها.وبما ان اللاوعي الجمعي عنصر رئيس من عناصر الثقافة هذه.. فان دوره يكون فاعلا في حياة الفرد والجماعات.ولقد اكتشف هذا الدور في عشرينيات القرن الماضي، وجرى ابراز اهميته في الفن والأدب اولا(في السوريالية ومسرح القسوة ومسرح اللامعقول وعدد من الروايات العالمية.. ) ثم انتقل الى علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي، واستخدم في تحليل ما يجري من تحولات بعد قيام الثورات.

ومع ان المجتمع العراقي شهد تحولا جذريا بانتقاله من اقسى نظام دكتاتوري الى نظام ديمقراطي، فان دور اللاوعي الجمعي العراقي لم يدرس مع انه كان سببا رئيسا فيما حدث من احتراب عامي 2006 و2007 وفيما حصل ويحصل من أزمات يبدو انها لا تنتهي مادام العقل السياسي العراقي متورم بماضوية اللاوعي الجمعي، وانه يوظف هذه الماضوية في خلق أزمة تضمن بقاءه في السلطة.

تحديد مفهوم

يعني اللاوعي الجمعي او اللاشعور الجمعي COLLCTIVE UNCONSCIOUS هو ذلك الجزء من العقل الذي يتضمن الرموز وخبرات الانسان التي اكتسبها عبر الاجيال وأساليب التعبير عنها، التي يشترك بها كل البشر وتشكل مصدرا للأديان والأساطير والفنون تتشابه عبر الحضارات المختلفة. ويعود اكتشافه الى الطبيب النفساني السويسري كارل يونغ(1875-1961).غير انه جاء بعد اكتشاف الطبيب النفسي النمساوي فرويد(1856-1939) اللاشعور.. اذ نظر فرويد الى الشعور او العقل الواعي بأنه يتضمن عمليات عقلية بسيطة مقارنة بعمل اللاشعور او العقل اللاواعي UNCONSCIOUS MIND ، الذي يعني به ذلك النشاط العقلي الذي لا نكون على دراية به.. اي اننا نقوم بافعال او تصرفات تبدو لنا واعية غير ان دوافعها الحقيقية تكون خفية في اللاشعور.

ومع ان يونغ اتفق مع فرويد ان الجانب الاكثر اهمية في سيكولوجيا الانسان هو ليس العمليات العقلية او السلوك الذي نكون على دراية به، بل هو العمليات العقلية التي لا نكون على دراية بها، فان يونغ ابتكر مفهوم اللاوعي الجمعي وعدّه أكثر اهمية في حياة الفرد والمجتمع من اللاوعي الخاص بالفرد الذي اكتشفه فرويد.بهذا المعنى يمكنك ان تصف اللاشعور الخاص بالفرد بأنه الذاكرة الثقافية الفردية واللاوعي الجمعي بأنه الذاكرة الثقافية الجمعية، بما فيها المخزون المعرفي الأسطوري والسلوكيات الممارسة من قبل اسلافنا.

من هنا جاءت اهمية اللاوعي الجمعي بكونه يحمل خبرات او معتقدات مشتركة لدى شعوب او جماعات داخل شعب معين.. تحدد سلوكها او تصرفاتها او ما تقوم به من افعال.ومن هذا المفهوم ظهر مفهوم حديث نسبيا هو السلوك الجمعي COLLCTIVE BEHAVIOR ويقصد به (السلوك غير المنظّم الذي ينشأ تلقائا، ولا تكون له خطة تحكم مساره فيصعب التنبؤ بتطوراته ، ويعتمد على التأثير المتبادل بين الأفراد المشاركين فيه).ومن انواعه:الدعاية التي تسعى الى اقناع الناس لتقبل أفكار جاهزة دون تمحيص، والرأي العام الذي يمثل اجماع جماعة معينة على وجهة نظر معينة، والتظاهر والاحتجاجات التي تهدف الى احداث تغيير اجتماعي ، والثورة التي تهدف الى تغيير كامل في نظام اجتماعي ما يتسم بالعنف، وسلوك أو غريزة القطيع الذي يشيع في المجتمعات المتخلفة، وسلوك الغوغاء التي تستهدف جموعها القيام باعمال عدوانية مثل تخريب الممتلكات او نهبها او اشعال النار فيها، كالذي حصل في نيسان 2003 حيث نهب العراقيون وطنهم.. وحتى ذاكرتهم التاريخية!.

آليات اللاوعي الجمعي

قد يبدو اللاوعي الجمعي لكثيرين أشبه بشخص (فاقد الوعي)، لكنه يدهشك بأنه يعمل بآليات علمية! اليك اهمها:

1. يتعامل اللاوعي الجمعي مع بعد زمني واحد هو الماضي، ويحيط نفسه بجدار كونكريتي يصد كل مؤثرات الحاضر. وتلك مشكلة كل احزاب الأسلام السياسي في العالم، انها وظفت الحاضر من اجل الماضي.

2. يغلّب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، ويعطّل العقل المنطقي في اوقات الأزمات.. ولك ان تتذكر ما حدث بين 2006 و 2008 حيث قتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!

3. يستقطب الناس في مجموعتين متضادتين، جماعة الـ(نحن)التي ينتمي لها وجماعة الـ(هم )الاخرى.

4. يتصف بأنه (أحول عقل).. يرى في الـ(نحن)الايجابيات ولا يرى السلبيات، ويرى في الـ(هم)السلبيات ولا يرى الايجابيات.. ويخرج بتعميمات خاطئة أن جماعته هي الأفضل في كل شيء.

5. يفهم الصراع على انه (أكون أو لا أكون)، وأنه اما غالب أو مغلوب، ولا يرى الجانب الايجابي في الصراع.

6. يؤمن بفكرة (المخلّص).. وبأنه سيظهر في يوم ما شخص بمواصفات استثنائية يقيم العدل بين الناس.

آليات السلوك الجمعي

ما يدهشك.. أن اللاوعي الجمعي يعمل وكأنه (مفكر اصيل) وفق اساليب او آليات نوجز اهمها بالآتي:

1.العدوى: في كتابه: (الجموع.. دراسة في العقل الشعبي) توصل لوبون الى أن الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح بربريا.بمعنى ان تصرّف الافراد في الجموع يكون مختلفا عن تصرفهم حين يكونون لوحدهم. ولقد عايشت ذلك في تظاهرات شباط 2011 وانتفاضة تشرين 2019.

ودهشك ايضا ان هنالك عمليات نفسية تتحكم بسلوك الفرد حين يكون بين الجموع، اهمها:

أ‌. تقبّل الأيحاء

في هذه الحالة تسارع الجموع الى التصرف على وفق ما يوحى اليها به، وتتراجع الشخصية الواعية ليتولى "اللاوعي الجمعي" توجيه سلوكها.ومع ان معظم علماء النفس المعاصرين لا يتفقون مع هذا الرأي ، الا أن فرويد يرى أن وجودنا في جمع من الناس يسمح لأنماط السلوك المكبوتة الأنطلاق من عقالها.ويضيف بأننا نخضع للقوى المسيطرة سواء تجسدت في السلطات او في الجماعات نتيجة لعلاقات السيطرة التي عشناها مع آبائنا والتي طورت لدينا الحاجة الى الخضوع.ولقد ثبت ذلك في العراق عمليا بعد 2003، يوم خلق اشاعات خبيثة تثير القلق والتوتر لدى جماهير مشحونة انفعاليا بنزعات وافكار مستقرة في لاوعيهم الجمعي.

ب.العدوى الاجتماعية Social Contagion

تعني العدوى الاجتماعية عملية نفسية يؤثر فيها الأفراد على بعضهم البعض اثناء وجودهم في الجماعة فتتصاعد حدة الانفعالات كما تتصاعد سرعة الاستجابات .فعندما تستثار الجموع فأنها تحتاج لأن تفرّغ انفعالاتها الجياشة فتندفع نحو السلوك الذي يوحى اليها به حين يكون ذلك الاتجاه متسقا مع دوافعها.. والشواهد تأتيك من تصرفات مختلف مكونات المجتمع العراقي.. شيعة وسنة وكوردا.

2. نظرية التقارب:

تقول هذه النظرية ان سلوك الجموع ينشأ عن تجمع عدد من الناس يتشابهون في حاجاتهم ونزعاتهم وأهدافهم، ومن مظاهرها (العدوى الانفعالية المنظبطة).. تكون ذات فائدة اجتماعية عندما تتوجه وجهات بناءة كما يحدث في مباريات كرة القدم حيث تؤدي العدوى الانفعالية الى تفريغ التوتر فيشارك الجميع في الهتاف والتصفيق.. لكنها كارثة حين تتوزع الجماهير على هويات فرعية وتتقاتل فيما بينها كما حصل في لبنان والعراق.

3. معايير الموقف:

ترى هذه النظرية انه بالرغم من اختلاف جموع الشغب في اهدافها الا انها تخرج الى حيز الوجود نتيجة لأحساس جماعة ما بالظلم واتفاقها على ادراك الواقع على هذا النحو، فينبثق عن هذه العدوى الاجتماعية معايير من الموقف الذي تكون فيه تبرر القيام بعمل مشترك تضع حدودا لسلوك الجموع المشاركة.. بمعنى أن معاناة جماعة او طائفة معينة وادراكها للظلم الواقع عليها، والحماس الذي يتأجج بفعل عمليات العدوى الاجتماعية تقود الى نشوء معايير تبرر سلوك الجمع وتحدد مساره.. كما حصل للمكون السّني بعد 2003

ختاما

ان الهدف من هذه المقالة هو أن سياسيين ومفكرين ومثقفين واعلاميين كانوا غافلين عن لاعب خفي في الصراع الذي راح ضحيته مئات الآف العراقيين، ويخطأ من يظن ان اللاوعي الجمعي العراقي قد ضعف دوره في (الصراع العراقي)، فحاله الآن أشبه بجمر تحت الرماد.. يظهر لحظة تنفخه رياح أزمة، في وطن ادرك حكّامه أن بقاءهم في السلطة والأستفراد بالثروة مرهون بخلق الأزمات.. التي تشيطنوا في خلقها!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم