أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفلسفة الرواقية ومدى ملائمتها لحياتنا اليومية؟

في العشرين سنة الأخيرة كان هناك اهتمام كبير بالرواقية. الرواقية التي أسسها زينون في القرن الثالث قبل الميلاد هي واحدة من بين المدارس الفكرية الهلنستية العظيمة، ولاتزال ملائمة لأسباب عدة. أصل كلمة رواقية يأتي من الكلمة اليونانية stoa وتشير الى الرواق الذي كان زينون الرواقي يلقي به محاضراته في سوق اثينا. هذا لم يكن صدفة: أراد زينون ان تكون مبادئه مفيدة لكل شخص. الرواقية ليست فلسفة ملائمة لكلية او للاكاديمية طالما هي لا تؤكد على التفكير المجرد او وضع نماذج وسيناريوهات افتراضية. بل هي فلسفة للناس العاديين، فلسفة للتاجر والرياضي والجندي وموظفي المكاتب. بالنسبة للرواقي، الفلسفة هي برجماتية، قُصد بها ان تساعد الفرد أثناء إبحاره في مواقف الحياة الواقعية. عندما يستطيع الفرد في الشارع تطبيق مبادئ هذه الفلسفة في حياته اليومية ذلك هو السبب الذي جعلها فلسفة جذابة جدا. طبيعة الرواقية (وربما كل الفلسفة) جرى وصفها في كلمات الرواقي ابكتيتوس: "الفلسفة لا تعد بضمان أي شيء خارجي للانسان... لأنه مثلما مادة النجار هي الخشب، ومادة التمثال هي البرونز، كذلك موضوع فن العيش هو الحياة الخاصة لكل فرد"(الخطابات 1:15). وفي تعبير آخر له قال ابكتيتوس، ان قاعة المحاضرة هي مستشفى، وان جميع من يدخلوا له هم في حالة من الألم (الخطابات 3:8).

الفكرة الرئيسية وراء الرواقية هي ان كل انسان يمتلك في داخله حافز للسعادة، يوجد من خلال حياة أصيلة تسترشد باستعمال العقل بدلا من العواطف. الرواقية تتخذ موقف الحتمية الناعمة (التوفيق بين السببية والارادة الحرة): نحن لدينا رغبة حرة لكن هناك ايضا اشياء معينة في الحياة ليست تحت سيطرتنا. لو نحن نركز على الاشياء التي تحت سيطرتنا عندئذ سنعيش حياة مسترشدة بالعقلانية. لكن لو قررنا التركيز على اشياء ليست تحت سيطرتنا، فان الاندفاع نحو العيش المؤذي سيكون كبيرا، وسنسقط في حياة مسترشدة باللاعقلانية. برتراند رسل في فصل جميل حول الرواقية في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية (1953) يجعل افكار المدرسة صريحة جدا: لو ترك المرء ما لا يمكن السيطرة عليه وعمل بدلا من ذلك على تطوير شخصيته فان كل شيء سينجح. يقول رسل ان "الفضيلة" تتألف من رغبة هي في اتفاق مع الطبيعة". التأثير الرئيسي الذي تسعى اليه الرواقية هو الوصول الى حالة الهدوء التي تعني عدم التأثر بالمعاناة. هذا لا يعني ان احدا سيكون حرا تماما من تاثير المعاناة، وانما هو سيكون في حالة من الهدوء وعدم الاضطراب ويعرف ما يفعل في المواقف بما لا يؤذي الروح او الذهن.

الرواقية وبسبب اتجاهها البرجماتي، ازدهرت في الامبراطورية الرومانية ولعبت دورا كبيرا في الثقافة الرومانية، ايضا هي ساهمت في تطوير المسيحية. وخلافا لما يعتقد به العديد من الناس، الرواقية تدعم فكرة وجود أعلى متسامي. وعلى عكس اخوتهم الايبيقوريون الذين اعتقدوا في إله بارد لا تأثير له في شؤون الانسان، الرواقيون اعتقدوا بإله نشط جدا في شؤون الحياة اليومية – العقل الالهي. لكن هذا يجب ان لا يلتبس مع إله الانجيل. الرواقيون لايقدمون كتبا مقدسة ويعتبرون مقدرتنا على التفكير كأعظم إلهام ديني. معظم الناس الذين قرأوا كتابا رواقيا عادة هم يقرأون الرواقيين الأخيرين مثل ماركوس اوريليوس (121-180 ميلادي)، وسينيكا (4 ق.م – 65 م) وابكتيتوس (50-135م). لننظر الان تباعا في كل واحد منهم.

ماركوس أوريليوس

وهو يُعد أعظم امبراطور في تاريخ روما. وُلد في روما وكان آخر الاباطرة الأنطونيين، الذين اُطلق عليهم بـ "الأباطرة الخمسة الجيدين". كونه حاكما عادلا وعسكريا لامعا، لم تكن لديه الرغبة ليكون امبراطورا مألوفا. بدلا من ذلك هو سعى لدراسة الفلسفة وليعيش حياة شبه زهيدة. مع ذلك، عمله المهني واستدراجه للسياسة جعلاه يتبنّى رؤية رواقية. من المثير للانتباه ان اوريليوس لم يشر لنفسه كـ "رواقي" ابدا.

العمل العظيم لاورليوس كان "التأملات" ويصف فيه أفكاره عن الحياة. من الغريب ان الكتاب كُتب بالكامل باللغة اليونانية الشائعة koine، ويمكننا ان نفترض ان الكتاب في البداية لم يكن له اسما، وايضا انه لم تكن لدي الكاتب النية بنشر الكتاب. هذا يطرح سؤالا محيرا: لماذا يكتب الرجل كتابا دون ان ينشره؟ هل ان ذلك الكتاب حقا له – كأخبار بسيطة عن رحلاته حول الامبراطورية وممارساته لحياته اليومية؟ ام انه كتب هذا الكتاب ليخدم هدفا آخر؟ ابن اورليوس كومدوس (161-192م) جاء الى العرش نتيجة لموت ابوه بعد الطاعون الانتوني الذي كان أخطر طاعون مميت في تاريخ روما. لم يكن كومدوس حاكما جيدا ابدا، الأحداث التي قادت الى كارثة القرن الثالث والمآسي التي بدأت بإضعاف النصف الغربي من الامبراطورية الرومانية، كل تلك الاعتبارات كانت أمام عينه. هل تنبأ ماركوس اورليوس بالصعوبات التي ستمر بها امبراطوريته لو لم يقدها قائد حكيم وقوي، ولذلك كتب التأملات كمرشد لأبنه؟

كتب اورليوس مبادئ لكي تقود لحياة خيّرة. فلسفته ليست معقدة ابدا. الامبراطور يخبرنا صراحة "لنضع نهاية لهذا النقاش حول ماذا يجب ان يعمل الرجل الجيد" (التأملات 10:16). مرة اخرى وبوضوح هو يقول "حالا سوف تصبح رمادا وعظاما. مجرد اسم على الأغلب – وحتى هذا مجرد صوت او صدى. الأشياء التي نريدها في الحياة هي فارغة وقديمة وتافهة"(التأملات 5:33). الحكم بواسطة هذه الأقوال والعديد من الاقوال الاخرى يجعل اورليوس شوبنهاوري.

فكرة كلاسيكية نُسبت لاورليوس هي القول المأثور"memento mori" والذي تُرجم"تذكّر انك ستموت" او "تذكّر موتك". هذه الفكرة ستجعل الناس في جيلنا يتأملون جيدا. ماذا سيكون لو لم تعد موجودا؟ انه حتمي الحدوث في لحظة ما. هذا يجبرنا للتفكير حول الكيفية التي نعيش بها حياتنا، واذا كنا لا نعيش حياتنا بتوجيه من العقل، هذا قد يدفعنا لتغيير اسلوب حياتنا.

سينيكا الشاب

لوسيوس آنيوس سينيكا، يُعرف عادة بـ سينيكا الشاب لتمييزه عن ابيه، كان حاكما رومانيا عظيما وكاتب مقالات وكاتب مسرحي. وُلد في ما يُعرف الان اسبانيا وتربّى في روما في عائلة مميزة، درس سينيكا البلاغة والفلسفة منذ صغره. هو اصبح معلما للامبراطور الرهيب نيرون، احد أسوأ الاباطرة في تاريخ روما، الذي بالنهاية أمره بالانتحار بدعوى انه كان عضوا في مجموعة رواقية معارضة خططت للاطاحة به. هو نفذ الامر وأقدم على الانتحار عبر قطع احد شرايينه. أحسن كتاب عُرف لسينيكا كان اسمه الشائع رسائل من رواقي، ومستلم الرسائل هو حاكم جزيرة سيسلي. احدى الموضوعات المألوفة كان التعليم. سينيكا يكتب بان "الحياة بدون تعليم هي موت"(Epistle 82)، لكنه ايضا يقول "نحن لا نتعلم للمدرسة وانما للحياة" (Epistle 10)، سينيكا يشير الى ان تعليم أي نوع يجب ان يجعل حياتنا أفضل بصرف النظر عما يقوم به المرء في حياته. ألم يكن هذا صالحا جدا في عالمنا اليوم؟ التلاميذ عادة ليست لديهم فكرة او لديهم فكرة قليلة لماذا هم يدرسون وماذا يدرسون : ليذهبوا للكلية او للحصول على عمل؟ هذان خياران فقط ومن المحزن العديد من الاطفال يضلّون طريقهم في العثور على مكانهم المناسب. هذا ربما يفسر لماذا تتراجع المواد الانسانية، يتضاءل استخدامها العملي بسبب الاتجاه النسبي المضاد للمنطق. بدلا من قراءة الكتّاب اللامعين ودراسة التاريخ الحقيقي، ما هو مهم هو كيف كل واحد منا "يشعر" حول الموضوع. غير انه بواسطة منطق سينيكا ومنطق الرواقية عموما، اذا لم يتوافق الموضوع مع العقل، عندئذ يجب استبعاده باعتباره غير منطقي ويُطرح جانبا.

هناك عمل آخر لسينيكا هو (حول قصر الحياة). هذا مقال يميل للتميّز لدى معظم الناس من بين أعمال سينيكا المكتوبة. فيها يكتب "هو ليس اننا لدينا وقت قصير وانما نحن نضيع الكثير منه... الحياة التي نستلمها ليست قصيرة وانما نحن نجعلها هكذا، نحن لم نُعطى شيئا سيئا وانما نستعمل ما لدينا بإسراف". هنا سينيكا يبيّن وبشكل واضح ان البشر واثقون من أنفسهم، أي اننا نقرر كيف نعيش حياتنا اليومية، وعندما نقرر إضاعتها عندئذ ستكون كذلك، نحن فقط جعلنا معاناتنا أسوأ عبر القيام بهذا. الإسراف هو في الحقيقة متجسد في روح الانسان لكننا نستطيع القيام بجهد واع لمعالجة هذا العيب عبر تطبيق التفكير الرواقي.

ابيكتيتوس

وهو ربما الرواقي الأكثر غموضا. هو لم يكتب شيئا على الورق وان خطاباته وكتيّبه كلاهما جرى تأليفهما بواسطة تلميذه ارين Arrian العبد في المولد والذي وُلد في ما يُعرف الان بتركيا، هو درس تحت اشراف مفكر رواقي كبير هو موسونيوس روفوس. بعد حصوله على الحرية بعد وقت قصير من وفاة نيرو، هرب الى روما حيث جعل رزقه من تعليم الفلسفة. بالنهاية هو نُفي من روما من جانب الامبراطور دومتيان، ثم انتقل الى اليونان وأمضى المتبقي من حياته هناك. عمله كان له تأثيرا كبيرا على ماركوس اورليوس.

فكرة ابيكتيتوس كانت مستقيمة بطبيعها. كتيّبه ربما أفضل بداية للناس الذين يريدون التعرف على الرواقية، انه قصير وواضح اللغة. هو يخبرنا "الانسان لا تقلقه المشاكل الواقعية بقدر ما تقلقه تصوراته  حول المشاكل". كلمة قلق هي تقريبا وجودية في طبيعتها، فكرة القلق هي تجربة ملموسة يتحملها المرء. ابكتيتوس يطرح علاجه للمشكلة في قصائد قصيرة "ما يهم ليس ما يحدث لك وانما كيف تستجيب له" او "الناس لا تزعجهم الاشياء وانما الرؤى التي لديهم عنها". ابكتيتوس يقترح ان نغير الطريقة التي نستجيب بها لضغوط الحياة. لو نحن نغير الطريقة التي نفكر بها سنصبح أحرارا. هو يقول ان حريتنا تُكتسب خصيصا عبر "عدم إعتبار الاشياء التي تقع وراء قدرتنا". او كما يقول في خطاباته، "عند كل حادث يصيبك، تذكّر ان تعود لنفسك وتتسائل أي قوة لديك لتحولّها الى استعمال جيد".

ان فكرة تغيير أذهاننا كما طرحها ابكتيتوس وبقية الفلاسفة الرواقيون عُرف عنها اثّرت على عالم النفس الامريكي آلبرت إليس(1913-2007) Albert Ellis، صاحب نظرية العلاج السلوكي الانفعالي العقلاني، ومؤسس معهد آلبرت الس AEI في نيويورك، والرواقية ايضا أثّرت في تطوير العلاج السلوكي المعرفي cognitive Behavioral Therapy. يمكن لنا بالتأكيد الاستفادة من هذا النظام من الفكر في الصعوبات التي نواجهها باستمرار في حياتنا اليومية.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم