أقلام فكرية

كاظم لفته جبر: تطور الموقف الفلسفي

تَعبر الفلسفة عن  حالة من حالات التفكير  التي ترتاب اي إنسان عند مواجهة شيء لا يعرفه، ولا يعبر عن طريقته في  الحياة،الا أن هذه الحالات  مرت بمراحل تطويرية لفهم ماهية الموضوعات وعلاقتها بالحياة والوجود عند الإنسان .

فالسؤال البدائي عند الإنسان القديم كان يعبر عن الاستغراب كونه مرتبط  بالقلق والخوف من الطبيعة، لذلك تجده اخترع الآلهة والدين، لغرض بث الاطمئنان في النفس، وهي كانت نتيجة مرحلة جديدة لفهم الإنسان للحياة وفق تصورات الدين والإلهة المتعددة . لذلك تميز التفكير الفلسفي في هذه المرحلة بحالة من الاستغراب والقلق دون فهم معنى هذا الخوف من خلال التساؤلات .

ثم ما أن دب الاطمئنان في النفوس قامت الحضارات وتأسست المدن والإمبراطوريات في الشرق والغرب، وأخذ الفن يوفر حاجات الإنسان المادية من خلال الأواني وبناء العمارة والمعابد والحدادة والنجارة، وكذلك الحاجات الروحية من خلال الطقوس الدينية، بدأت مرحلة أخرى من التفكير الفلسفي اسماها أرسطو بالدهشة الذي تعتري المرء حين انبهاره بالوجود، وما موجود فيه من نظام وتناسق وانسجام، وهذه المرحلة بدأت مع طاليس كما يرى أرسطو الذي جعل من الماء أصل لكل الموجودات، لكونها المادة التي تدخل في كل شيء . ويعد هذا بداية للتفكير الفلسفي العلمي القائم على الملاحظة والتحليل، لذلك يعد بعض المفكرين أن الفلسفة اصلها يوناني، منهم زيلر والكسندر،  لانهم يرون في التفكير الفلسفي عند اليونان الذي اعتمد الدهشة،  والاندهاش مرتبط بالمحسوس، لذلك قالوا عن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض . بعكس التفكير الشرقي الذي ارتبط بالدين والماورائيات والأسطورة . وهذا يثبت أن الفلسفة لم تكن ذات اصل يوناني، بل ان كل مرحلة من مراحل الإنسانية حكمت على الإنسان التعامل وفق ظروفها، فالفرق بين اليونان والشرق، هو كالفرق بين من ينظر إلى السماء، وآخر ينظر إلى الأرض .

وبعد أن ظهرت الديانات  السماوية وتم التلاقح الفكري بالفلسفة اليونانية، أنتجت وفقها اهم الفلسفات التكاملية بين الأرض والسماء، وقد وصلت اوجع تطورها في العصر العباسي اذا انعكس ذلك على تطور الشرق والبلدان الإسلامية بشكل خاص . ويمكن تسمية تلك المرحلة من التفكير بالمرحلة التوافقية بين الدهشة والتُفكر .

أما في العصر الحديث بدأت الفلسفة مرحلة جديدة مع العقل الإنساني في أوروبا وخاصة في القرن الثامن عشر مع ديكارت، وسميت بمرحلة الشك، اعتماداً على ما قدمه ديكارت من منهج عقلي يعتمد الشك في تفريغ جميع  ما في العقل الإنساني من اوتاد وافكار الكنيسة  التي تضلل وتعكر الفكر الإنساني من التقدم والنهضة . فشبه العقل الانساني بسلة البرتقال التي تحتوي على الجيد والرديء، فيجب افراغها وإعادة الجيد منها فقط . لذلك كانت مهمة الفلسفة في هذه المرحلة هي الشك في الأوليات .

ثم ما أن حدث التنوير والثورة الصناعية، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وبدأت المكائن والآلات تؤثر على الانسان والفكر والثقافة  والفن والدين والسلطة، أخذ كانت على عاتقه البدء بمرحلة جديدة للفلسفة سميت بالمرحلة النقدية نسبة إلى فلسفته النقدية، والتي نقد فيها العقل النظري والعملي والأحكام الإنسانية سواء في الفن أو الاخلاق .

وبعد التطور الفكري والثقافي الذي حدث متزامنا مع التطور الصناعي، والتداخل بين الموضوع والذات  ولغرض فهم أيهما يؤثر على الآخر في بناء الإنسان الأخلاقي والنفسي، ولفهم سمة العلاقات التي تقوم بين الأفراد، وجد الفيلسوف فرويد أن الجنس هو الأساس الذي يحرك العلاقات البشرية وديمومتها، فبذلك كانت مهمة الفلسفة عنده مهمة علاجية .

أما في القرن العشرين فقد جيرت الفلسفة لخدمة العلم، وهذا ما جعل الفلاسفة الأمريكان ينتجون الفلسفة البراغماتية التي كانت غايتها تقديم الخدمة والمنفعة العملية، سواء كانت مادية أو معنوية  .

أما مع جيل دولوز نجد أصبحت مهمة الفلسفة إبداع المفاهيم وليس البحث في المبادئ الأولى، كونه يعد المفهوم شبكة من المكونات الفرعية التي تتداخل في كل نظام حياتنا، لذلك كانت مهمة الفلسفة عنده تحليل وخلق المفاهيم التي تلائم كل حدث .

ومع هذا الموقف  الدولوزي يبدو أن الفلسفة اخذت على عاتقها مهمة التحليل وتقديم المشورة  والمعالجة للعلوم الانسانية والطبيعة، والتكنولوجيا، لذلك أصبحت مهمة الفيلسوف تشبه إلى حد كبير مهمة الفنان في الخلق والإبداع للمفاهيم وفقاً لمقتضيات المصلحة الفكرية، فبما أن الفنان يكون إبداعه رسالة وتعبير، كذلك الفيلسوف مفهومة يعبر عن رسالة وتوجيه لمعالجة قضية ما .

فالموقف الفلسفي لم يعد كما كان، شاملاً ثابتاً ومطلق، بل أصبح يتسم بالصيرورة ويخضع للجزئيات، وقريباً من مهمة العلم كونه أصبح ينتج المفهوم الذي يخضع للممارسة .

أما في عصرنا الحالي فتجد موقفها تطبيقي يهتم بالمفاهيم التي تستلهك العصر، في السياسية والجمال والأخلاق والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والطب، والفلك، والبيئة  وأحوال المناخ .

وهذا يعد طفره فكرية جديدة في الموقف والسؤال الفلسفي إذ انتقل من الاستغراب والشك، إلى المساهمة في البناء والمعالجة والتنمية للمشاريع الإنسانية. لذلك كل فلسفة تولد من رحم العصر . ولا يمكن للفلسفة أن تموت كما يدعي البعض، لأن موقفها ومنهجها في صيرورة دائمة لفهم متطلبات كل عصر.

***

كاظم لفته جبر

في المثقف اليوم