أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: المساواة والحرية في فكر هربرت سبنسر

هربرت سبنسر(1820-1903) فيلسوف وعالم اجتماع بريطاني، من الراعين الأوائل لنظرية التطور، ركز جهده لإنتاج معرفة تركيبية متعددة الحقول، داعيا ألى أسبقية الفرد على المجتمع، والعلم على الدين. كتابه The synthetic philosophy(1896) كان عملا شاملا احتوى على مبادئ البايولوجي وعلم النفس والاخلاق وعلم الاجتماع. اشتهر سبنسر بعقيدته في الدارونية الجديدة التي بموجبها يمكن تطبيق مبادئ التطور بما فيها الاختيار الطبيعي على المجتمعات الانسانية والطبقات الاجتماعية والافراد بالاضافة الى الانواع البايولوجية. في أيام سبنسر جرى التركيز على الدعوة للدارونية الاجتماعية لتبرير عدم تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية وتقليل حجم الدولة الى أدنى حد اعتقادا بانه يعزز المنافسة الحرة بين الافراد ويقود الى تحسّن تدريجي للمجتمع من خلال (البقاء للأصلح) المصطلح الذي أدخله سبنسر ذاته.

"حريتي تنتهي حيثما تبدأ حريتك" هي نوع من الحقيقة البديهية التي يؤمن بها معظم الناس عند مناقشة السياسة ومهما كانت فكرة الحرية التي يؤمنون بها. انها ترتكز على "الوعي بالقيود التي يستلزمها وجود أشخاص آخرين لديهم مطالبات مماثلة" (مبادئ الاخلاق، الجزء الثاني، ص267)(1). هذا الوعي قاد هربرت سبنسر ليأتي بقانون الحرية المتساوية: "كل انسان هو حر للقيام بما يرغب، بشرط ان لا ينتهك الحرية المتساوية لأي انسان آخر" (جزء 2، ص272).

اذا كانت فكرة الحرية "المتساوية" اليوم مجرد كلام سهل لدى معظم الناس، فهي لدى سبنسر تشكل مطلبا أساسيا للاستمرار بفهم منافع التعاون الانساني الذي يمكن الحفاظ عليه "فقط بالإمتثال لمتطلبات معينة يفرضها ترابط الجماعة" (جزء 2، ص259).

وهكذا فان العدالة "هي أخلاق الحياة الاجتماعية". يؤكد سبنسر انها ترتكز على كل من اللامساواة والمساواة – وان الخطأ الكبير للتعريفات الاخرى للعدالة يكمن في الانحياز الى احد هذين المفهومين على حساب الاخر. ان حجة فريق "اللامساواة" تتجذر في قانون السلوك والعواقب law of conduct and consequence. هذا القانون "يُعبّر عنه في المبدأ بان كل فرد يجب ان ينال الخير او الشر الذي ينبثق من طبيعته الخاصة" وانه بالنسبة لسبنسر "القانون الاساسي الذي يحكم كل المخلوقات". ولذلك فان "كل فرد يجب ان يستلم المنافع والشرور حسب طبيعته وسلوكه اللاحق".

عندما "يختلف الناس في سلطاتهم، يجب ان تكون هناك اختلافات في نتائج سلوكهم. ذلك يشمل ضمنا كميات غير متساوية من المنافع". من المهم ملاحظة ان هذا ليس فقط حول المكافئات. صحيح، الناس (بمن فيهم رجال الأعمال) مؤهلون لثمار كدحهم. لكن هم يجب ان يدفعوا الثمن في حالة اتخاذهم اختيارات غير مدروسة. ان حجة المساواة تأتي مع قانون الحرية المتساوية. شعار "حرية متساوية" هو شيء مُلهم لكنه اليوم يخلق بعض الإلتباس. سبنسر لا يهدف لمساواة الظروف التي عاش بها الرجال والنساء، ولا ما يقومون به حقا في حريتهم. المساواة التي يتحدث عنها هي في تلك القيود المتبادلة. انها مساواة في الإكراه، وليس في الحرية، كل واحد منا يحتاج ليكون مقيّدا بشكل مشابه، لكي لا تتضاعف دون مبرر المشاجرات والإشكالات في ذلك المسعى المعقد من العيش المشترك. هنا تأتي فكرة المجتمع الحر كفضاء تُبرر فيه اللامساواة، ولكن تُخفف بمبدأ التعامل المتساوي في ظل القانون. بكلمة اخرى، اللامساواة تُبرر بمقدار ما تكون نتيجة لتفاعلات طوعية، وليست امتيازات تُوزع من جانب احد ما على حساب آخر. نظريات اخرى للعدالة جرى نقدها من جانب سبنسر لكونها لا تأخذ بالاعتبار كلا العنصرين. وبالذات، الرؤى القديمة للعدالة التي ركزت كثيرا على عنصر اللامساواة، فكانت منسجمة مع السياق الذي تأطرت به. هناك مفارقة تاريخية هي، بالنسبة لسبنسر، أكثر الأعداء غدرا للانسانية. نحن يمكننا إلحاق ضرر كبير عند تطبيق أفكار جرى تصورها في مجتمعات بسيطة مرتكزة على حجم صغير من تقسيم العمل وهياكل تنظيمية صارمة على عالم فيه تقسيم عمل معقد. ونفس الشيء بالنسبة للعائلة لايمكن ان تُحكم بقانون السلوك والعواقب. الأعضاء الشباب هم في نفس الوقت يستفادون بشكل غير تناسبي وتتم حمايتهم من أخطائهم. لكن تطبيق أخلاق العائلة على حكومة بلد سوف يعرضها للخطر.

"في عالم كعالمنا، حيث التعقيدية هي الكلمة الشائعة، يمكن قراءة سبنسر كقصة تحذيرية: انتبه بان التعقيدية هي فكرة هشة". العديد من النقاد رأوا هذا كبرهان على "دارونية" سبنسر الاجتماعية المملة، التي تجعل منه صورة كاريكاتورية للمفكر الذي يكشف الى أي مدى تكون الليبرالية الكلاسيكية باردة وصماء للحاجة والمعاناة. لكي ندرك لماذا لا يجب ان تُطبق أخلاق العائلة على جماعة أكبر، يجب على المرء ان يدرك ان البلد ليس عائلة. افتراض ان الحكومة يمكن ان تكون حارسا مرنا بنفس طريقة العائلة يعني افتراض انها يمكنها توزيع المكافئات والعقوبات مع معرفة تامة بالنتائج التي سوف تنتج عن ذلك. هذا ليس هو الموقف. كلما كان المجتمع أكثر تعقيدا، كلما كانت النتائج غير المقصودة اكثر انتشارا ودهشة.

هذه الحكاية التحذيرية منسجمة مع نظرية بانورامية أوسع تتأطر فيها جميع مساهمات سبنسر. هو كان باني – نظام، منشغل بمحاولة دائمة لتطوير "فلسفة جامعة"، نظرية شاملة تتعامل مع البايولوجي والسايكولوجي والسوسيولوجي والأخلاق. هو اعتقد انه حدد نمطا لتعقّب الكيفية التي تتطور بها المجتمعات. انها تتحرك، حسب سبنسر، من البسيط الى المعقد، من اللامختلف الى المتخصص، من الاكتفاء الذاتي الى المترابط بنيويا. انه مفكر طموح جدا أثار حماس معاصريه لكن، ربما لنفس الأسباب، كان أقل حظا مع الأجيال اللاحقة.

مبادئ الأخلاق هو عمل سبنسر النهائي والمتكامل في هذا الحقل. جزئه الرابع "العدالة" الى حد كبير هو إعادة صياغة لـ (الإحصاءات الاجتماعية، 1850)، والذي جاء فيه سبنسر لأول مرة بـ "قانون الحرية المتساوية".

أثناء حياته، أنتج سبنسر أربعة أعمال رئيسية في الفلسفة السياسية: المجال المناسب للحكومة (1842)، والاحصاءات الاجتماعية (1850)، والانسان مقابل الدولة (1884)، والعدالة الذي هو الجزء الرابع من مبادئ الاخلاق (1891). الاول كان يرتكز على رسائل الشاب سبنسر التي أرسلها الى اللاملتزمون The Non conformists- وهم جماعة مسيحية بروتستانتية لا تنتمي الى كنيسة انجلترا - رسمت الخطوط العريضة لليبرالية لوك (انظر جون لوك).

الاحصاءات الاجتماعية كانت محاولة اكثر طموحا. الكتاب كن موجها كتصحيح للفلسفة النفعية وكإعادة صياغة لمبادئ الليبرالية الكلاسيكية في تفكير مرتكز على "معنى أكثر منطقية مما سبقه". حاليا، يتم تذكّر ذلك العمل على أفضل وجه خاصة الفصلين اللذين يتعلق احدهما بقضية الارض والثاني بـ "حق تجاهل الدولة".

كل من الانسان مقابل الدولة، و "العدالة" اعتُبرا من جانب البعض كمحاولتين صعبتين من جانب سبنسر لإعادة صياغة أفكاره بطراز اكثر محافظة. هذا هو رأي هنري جورج الذي اتّهم سبنسر بالالتحاق بمراتب الكبار والأقوياء، وبذلك جعل فلسفته اكثر قبولا لهم.

 في سيرته الشخصية، يوضح سبنسر التالي:

1- في أول أعماله، الإحصاءات الاجتماعية، زعم ان سحب ملكية الاراضي من الناس هي غير عادلة، وانه يجب ان تكون هناك إعادة لها للدولة او للجماعة بعد دفع تعويض مناسب لمالكي الأراضي الحاليين.

 (السيرة الذاتية، 2، ص459).

في نفس الوقت هو ذاته يعترف بان هناك "محافظة مقارنة نسبيا للعصر القديم" (السيرة الذاتية، 2، 463). "في ما بدا شرا بالكامل اكتُشف فيه تحت السطح عناصر للخير، وما بدا مرة بلا نفع اكتُشف انه نافع بطريقة ما ان لم يكن ضروريا".

ومع نضج وجهة نظره، عزا سبنسر تلك التغيرات الى ما حصل له من "ملاحظة أوسع وتفكير أطول" (السيرة، 2، 464). هو ادّعى انه فهم بشكل أفضل ان "المؤسسات من أي نوع يجب اعتبارها نسبية لشخصية المواطنين وللظروف التي وُجدوا في ظلها، وان لا يتم الحكم على الظروف المسخرة لمصلحة هذه المؤسسات من خلال ملائمتها المطلقة وانما من خلال ملائمتها النسبية" (السيرة، 2، 465).

في عالم الشؤون الانسانية، يحدث التطور بين قطبين هما النموذج المثالي: "مجتمعات محاربة او متشددة" militant societies و"مجتمعات صناعية". النموذج الاول هو نموذج هيراركي يكون فيه التعاون الاجتماعي مفروضا بالقوة. هي مجتمعات من "المكانة"، بمعنى ان لا وجود هناك للحراك الاجتماعي وان نطاق العلاقات التعاقدية الطوعية يكون محدودا. النوع الثاني هو المضاد للاول: مجتمعات تعاون تتشكل فيها الترتيبات الاجتماعية من خلال العقود والتنظيمات. الاخلاق"المطلقة" بالنسبة لسبنسر، تعود لهذا النوع الأخير، وهو عالم متطور لحسن الحظ. الاخلاق "النسبية"يتم تكييفها لمجتمعات العالم الواقعي التي هي بالضرورة مزيج من النوعين المثاليين.

بينما كان سبنسر يأمل ان يزودنا بـ "تاريخ طبيعي للمجتمعات" واعترف بدور التشدد والحرب والخضوع لهيراركية صارمة في خلق تعاون على نطاق أوسع، هو تعاطف مع المجتمعات الصناعية حيث تنمو وتتقدم فيها المؤسسات الحرة. ورغم انه جعل افكاره متلائمة مع نظام أوسع، لكن بعض افكاره الاساسية لها تاريخ طويل في الليبرالية الكلاسيكية. المجتمعات "المتشددة" و "الصناعية" جاءت من قبل تحت العديد من الاسماء. هي تذكّرنا بحرية القدماء وبحرية الزمن الحديث، مع ان سبنسر كان لديه القليل من الحنين للاولى.

افكار سبنسر كانت مشبعة بالتفكير الاقتصادي، حيث يمكن لقرائه اكتشاف ذلك بسهولة. الحوافز لعبت دورا كبيرا فيه، وفي الحقيقة، تطور سبنسر هو في عدة جوانب كان نموا وتوسعا لتقسيم العمل. بمعنى ان المجتمعات "الصناعية" تتصف بالدور البارز الذي تلعبه الوسائل الاقتصادية، مقابل المجتمعات "المتشددة" التي يمكن النظر اليها كأماكن تُنجز فيها معظم الأهداف الاجتماعية بوسائل سياسية.

مع ذلك، يرى سبنسر ان التطور نحو المجتمعات الصناعية هو ايضا عملية تحضّر وتهذيب للمشاعر الانسانية. هو لم يحتقر شيئا اكثر من الامبريالية، فكرة إخضاع وهيمنة الدولة على الآخرين. هو اعتقد ان نظامه جلب كل من "الصرامة والرقة" وندم على "توجيه انتباه أكبر نحو الصرامة". معجم سبنسر الخاص الذي يبدأ بتمييز فيكتوري بين استحقاق الفقر وعدم الاستحقاق له، يصعب فهمه. هو لم يكن أعمى لشرور الفقر. حيث وصف رواية Mary Brton للكاتبة اليزابيث غاسكل بانها "عذّبت مشاعره"(2)، و اعتبرها " هامة جدا" لدرجة يجب على كل فرد قرائتها (السيرة، 1، ص350). هو فهم مشاعر اولئك الذين يسعون للتخفيف من شرور الحاجة، واعتبر ان هؤلاء الناس يمكنهم الازدهار فقط في المجتمع الصناعي، لأنهم سيتم اكتساحهم في ظل النظام المتشدد.

من المقلق بشكل خاص ان سبنسر لم يكن ابدا سعيدا بالنوايا الطيبة لذاتها. هو يكتب، مثلا:

"اذا كان واجب الإهتمام بالجرحى هو معترف به عموما، لكن هناك واجبا اضافيا نال اعترافا جزئيا اخيرا – وهو واجب اكتساب المعرفة والمهارة لأنها تجعل جهود المساعدة فعّالة. حتى الوقت الحالي، كان هناك 99% من الناس الذين يرغبون بمساعدة الجرحى لم يترافق عملهم مع قدرة منظّمة – وما هو أسوأ من ذلك انه ترافق مع جهل يقود الى تدخلات مزعجة. القلق من القيام بشيء ينتهي بالتسبب بأذى، لأنه لا يوجد هناك وعي كامل بحقيقة ان هناك عدة طرق للخطأ مقابل طريقة واحدة للصواب (2، ص443).

هذا يصح ليس فقط على الناس الكرماء حسني النية، وانما على الحكومة ذاتها. وهو درس نادرا ما يتم تعلّمه. دعوات التدخل دائما ما تقوم على نوايا حسنة وتؤكد على النتائج المقصودة، لكن نادرا ما يتم تقييم النتائج، وايضا لم يحصل توقّع لحدوث أضرار جانبية قد تقع حتى من جانب أفضل المخططين.

بالنسبة لإولئك الذين يبشّرون بحكومة كبيرة، سبنسر يعارض وصفة الحقوق الفردية – مع انه يدرك تماما مدى مرونة كلمة "حقوق". في كل من الاحصاءات الاجتماعية ومبادئ الاخلاق، اشتق سبنسر من قانون الحرية المتساوية تلك الحقوق التي تخلق مجتمعا حرا – من حرية الكلام لحرية التبادل والعقود. لا اختلاف عن عالمنا، حيث "الحقوق" هي من وقت الى آخر تتعدد بفعل قرارات سياسية، رأى سبنسر ان "الحقوق" كلمة ملتبسة، اراد ان يحررها من الارتباك السائد. هو أكّد ان "الحقوق ليست الاّ عدة أجزاء منفصلة من حرية الانسان العامة في متابعة أهدافه في الحياة". هي في الحقيقة مواصفات لقانون الحرية المتساوية، وليست نتاجا للرغبة السياسية.

جادل سبنسر ان "الحقوق السياسية" بما فيها حق التصويت، ليست حقوقا ابدا. "اولئك المواطنون المشتركون في السلطة السياسية كما هو حاصل في الدول الأكثر تقدما، والتي أظهرت التجربة انها ضمانة جيدة للحفاظ على الحياة والحرية والملكية، يتم الحديث عنها كما لو كانت المطالبة بها هي من نفس الطبيعة كالمطالبة بالحياة والحرية والملكية ذاتها. لكن، لا صلة هناك بين الاثنين". سبنسر ليس غافلا عن حقيقة ان درجة معينة من المشاركة السياسية في الامم الحديثة سارت جنبا الى جنب مع الترتيبات المؤسسية بشكل أقرب لحكومة محدودة من غيرها. لكن مثل هذه القدرة للمشاركة بسياسة البلد ليست "حرية" بحد ذاتها، هي في أفضل الاحوال، حكومة "تعطي المواطنين سلطة مراقبة الإنتهاكات لحقوقهم" (2، 343). هناك "حالات متطرفة" فيها "يستعمل الناس ما يسمى حقوقهم السياسية للتنازل عن سلطتهم في الحفاظ على حقوق الملكية "، مثلما عندما تفتح الانتخابات الحرة الباب للاوتوقراطية (سبنسر يستشهد بنابليون الثالث، مع ان الأمثلة الأكثر فظاعة لم تأت بعد)، لكن ايضا المشاكل المخففة، لدى الدول المحكومة ديمقراطيا تتزايد سطوتها على حياة الافراد. وهكذا فان، "ما يسمى الحقوق السياسية التي قد تُستعمل للحفاظ على الحريات، ربما تفشل في هذا وقد تُستعمل لتأسيس الاستبداد". في (الانسان مقابل الدولة)، الكتاب الذي يتم تذكّره كثيرا، يتعامل مطولا مع ما يمكن ان تنتجه الديمقراطية من أخطار للحرية، خاصة بمقدار ما تصبح الليبرالية ايديولوجية للديمقراطية، أي، بمقدار ما يُعتبر أي خيار جمعي شرعيا فقط لأنه نشأ من رغبة الأغلبية القانونية.

في (المبادئ)، كانت لسبنسر صفحات لا تُنسى حول المسألة، والتي تتنبأ بالعالم الذي نعيش فيه.

عزل المساعدات والمساهمات في المجال العام يراها سبنسر فكرة سيئة."لو ان كل مواطن يدفع بشكل مرئي وملموس من حصته من الضرائب، فان مجموع المبلغ الكلي سيكون كبيرا جدا لدرجة ان الجميع سيصر على الترشيد في آداء الوظائف الضرورية وسوف يقاومون الوظائف اللاضرورية، بينما في الوقت الحاضر، تُعطى لكل مواطن مساعدات معينة هو غير واعي بدفعها له، فيميل للإسراف ويُحفز لإختيار طريق غير نزيه بعلمه او دون علمه للحصول على المساعدات على حساب الآخرين.(2، ص354).

سبنسر لم يتقن الكلمات عندما قال ليس فقط "الضرائب بدون تمثيل هي سرقة" وانما "التمثيل بدون ضرائب يتضمن سرقة" ايضا. عند التفكير بعمالقة الليبراليين يميل الناس للاعتقاد انهم اما جون ستيوارت مل او الكسيس دو توكفيل. مشكلة استبداد الأكثرية كانت واضحة للكثير. لكن تطورية سبنسر تضيف فهما معقدا لما نسميه اليوم علم النفس الاجتماعي.

الناس دائما ما يميلون للبحث عن أسباب مرئية، وإصلاحات مرئية مهما كانت المشاكل الاجتماعية الناجمة. جزء كبير من عمل سبنسر كان يؤكد بان هذا ليس هو الموقف، وان المؤسسات عادة هي طرف مستفيد خارجيا (3) لم يصممها احد وان المركب العضوي للمجتمع لم يُخطط او يُصمم.

كل من المشرّع والمواطن بالمتوسط "ليس لديهم إيمان بالعمل المفيد للقوى الاجتماعية، بالرغم من التوضيحات اللامتناهية لهذا العمل المفيد. هو يستمر في التفكير بالمجتمع كمصنع وليس كنمو غافلا عن حقيقة ان التنظيم المعقد والواسع الذي تستمر به حياة المجتمع، نتج عن التعاون التلقائي لاناس يتابعون أهدافهم الخاصة. مع ذلك، عندما هو يسأل كيف تمت تسوية سطح الارض وجُعلت خصبة، كيف نمت المدن، كيف نشأت المصانع بمختلف أنواعها، كيف تطورت الفنون، كيف تراكمت المعرفة، كيف اُنتج الادب، هو اُجبر للاعتراف بحقيقة ان لا شيء من هذه ذو أصل حكومي، وانما العديد منها عانى من عرقلة الحكومة، لكنه متجاهلا كل هذا، هو يفترض انه لو اُريد للخير ان يُنجز، او الشر ان يُمنع، فلابد من الركون للبرلمان (2، ص378)".

لو كان سبنسر معنا اليوم لاشك سيندهش بمدى التقدم الاقتصادي والاجتماعي، بما فيه القبول المتنامي للسلوك الشاذ للفرد. لكنه ايضا سوف يُصاب بالخيبة من الكيفية التي لازال بها التفكير السياسي يميل ويعترف بالمجتمعات القديمة والصغيرة ويشعر باليأس من الكيفية التي نستمر فيها بالبحث عن اصلاحات اسطورية للشرور الاجتماعية، بصرف النظر عن التعقيدية العلمية التي نعيش فيها اليوم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) هربرت سبنسر، مبادئ الاخلاق. Liberty fund Books

(2) رواية ماري بارتون للكاتبة الانجليزية اليزابيث غاسكل نُشرت عام 1848، تتناول الصعوبات التي كانت تواجهها الطبقة العاملة في العصر الفيكتوري. تدور أحداث الرواية في مدينة مانشستر البريطانية. انها قصة عائلة من الطبقة العاملة انحدرت نحو اليأس اثناء الركود الاقتصادي لعام 1839. تصف الكاتبة الأحياء القذرة والفقيرة في المدينة وتتحدث عن مستويات البطالة المرتفعة آنذاك وعدم الاهتمام بمطالب النقابات مما قاد الى اتساع الفقر وتعميق اليأس وظهور كراهية طبقية مريرة أيقظت الضمير الوطني.

(3) المنافع الخارجية الإيجابية positive externality في الاقتصاد هي المنافع التي يستلمها طرف معين كنتيجة غير مباشرة لعمل طرف آخر دون اتفاق ودون دفع أي تعويض، كما عندما نتلقّى تعليما نحصل منه على منافع خاصة لكن هناك ايضا منافع تنساب منه لبقية المجتمع، حيث يمكن تعليم اشخاص آخرين سينتفعون من ذلك التعليم، او عندما نذهب الى مقر العمل مشيا على الأقدام، حيث سنخفف من الزحام والتلوث فيستفيد كل شخص في المدينة. بالطبع هناك منافع سلبية تعمل عكس الاولى، فيها يحقق طرف منفعة له على حساب طرف آخر، كما في حالة صاحب المصنع الذي يلقي النفايات الكيمياوية في النهر فيسبب ضررا لمربي الأسماك في المنطقة المجاورة.

 

في المثقف اليوم