أقلام فكرية

نبيل ياسين: الفلسفة تفقد احد فلاسفتها.. هل يعيش العالم بدون فلاسفة؟

نعت الاوساط الاكاديمية والفلسفية في اوروبا يوم 9حزيران ٢٠٢٣ الفيلسوف الفرنسي آلان تورين Alain Touraine الذي توفي عن عمر قارب الثامنة والتسعين عاما.

ويعتبر تورين مع زميله الفرنسي ادغار موران (بلغ ١٠٠ سنة هذا العام) اكبر معمرين في الفلسفة المعاصرة اضافة الى الالماني اورغان هابرماس (٩٣ عاما) الذي اهتم بالمجال العام للدين.

تتقدم الفلسفة في القرن الحادي والعشرين تقدما بالموضوع وليس بالشخصيات الفلسفية. اذ تتوسع الميادين الفلسفية المعاصرة بتوأمة الفلسفة وعلم الاجتماع بعد توسع اهتمامات مدرسة فرانكفورت في الستينيات اذ اضافت لمجالها علم النفس خاصة في اهتمامات اريك فروم وهربرت ماركوزه اللذين اثرا في جيل الستينيات وفي الثورة الطلابية عام ١٩٦٨ في اوروبا.

اهتم تورين بمشكلات الحداثة (نقد الحداثة) والديمقراطية (ماهي الديمقراطية؟) ووسع الاهتمام بتطور المجتمع المعاصر ومواجهات الديمقراطية مع التطور الرأسمالي الليبرالي- البرجوازي وبروز دور منظمات المجتمع المدني مقابل السلطة، والصراع بين الفاعل الاجتماعي والفاعل السياسي. وصاغ تورين تطورا في مفهوم الثقافة الديمقراطية باعتبارها تنطلق من الايمان باستحالة عودة الديكتاتورية لمجتمع اصبح ديمقراطيا.

تؤكد افكار تورين على ان الديمقراطية ليست منجزا كاملا يتم تركيبه على جميع المجتمعات. فهناك تجارب متباينة. فالديمقراطية كما يقول: افضت اكثر فاكثر الى التنظيم المستقل لحياة سياسية، لا يمكن ان تتماهى مع الدولة ولا مع طلبات المستهلكين. ويستنتج مؤكدا: ان ذلك التنظيم المستقل، اضحى في الغالب على درجة من الاهمية جعل الحياة السياسية تبدو غريبة حيال مشكلات الدولة، على قدر غرابتها حيال طلبات المجتمع المدني.

كتب تورين هذا الاستنتاج عام ١٩٩٣ اي قبل ثلاثين عاما، الامر الذي نراه جليا وواضحا تحت تأثير تطورات شتى، خاصة مع بدايات القرن الحادي والعشرين منذ احداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر ٢٠٠١ والحرب على افغانستان والعراق تباعا وصولا الى جائحة كوفيد ١٩ والحرب في اوكرانيا، حيث تحولت الديمقراطية الى ممارسة مبدأ: كل من ليس معي فهو عدوي. في حالة انفصال بين الديمقراطية والفلسفة.

في ندوة في امريكا وجه مقدم الندوة سؤالا الى نيلسون مانديلا يكشف ورطة الديمقراطية فعليا ويحولها الى ايديولوجيا استفزازية.

كان السؤال: سيد مانديلا كيف يمكن لك ولجنوب افريقيا ان تتحالف مع ارهابيين مثل فيدل كاسترو ومعمر القذافي وشافيز وغيرهم؟ كان الرد قاسيا وواقعيا يكشف الادعاء بان الديمقراطية ليست سوى اداة تعريف لمصالح الغرب في العالم. اي ان الديمقراطية سلاح قمع وابتزاز الشعوب التي تختلف مصالحها عن مصالح دول الغرب.

اجاب مانديلا السائل: لماذا تفترض ان اعداءك يجب ان يكونوا بالضرورة اعداءنا؟

تكشف لنا الاحداث ذلك اكثر من الاوهام. ففي نموذج العراق مثلا، كان (الشرط) الاساسي هو الديمقراطية كتبرير للحرب. وبعد اربعة اشهر عليها حصلت على خريطة من اذاعي بريطاني لمحطات الراديو التي انشأوها في العراق. ولما سألته عن المسافة بين ناحية الشوملي التابعة لمحافظة بابل عن مركز محافظة بابل قال يمكن ان تكون خمسين كيلومترا قلت له انها تبعد اقل من عشرين كيلومترا فانزعج واعتبر قولي (تدخلا) في شؤون (بلده) وليس بلدي. كانت الخريطة تؤشر محطات الراديو التي انشأوها في محافظات الجنوب حيث كان مركز محافظة بابل ومركز محافظة كربلاء (اقل من اربعين كيلومترا بين المحافظتين) قد شهد تأسيس اربع او خمس محطات راديو في مركز كل محافظة، وفي الاقضية التابعة للمحافظتين اكثر من عشر محطات. وعينوا فيها مئات من الهواة الذين ليس لديهم ادنى فكرة عن وظيفة الاعلام، وكانت النتيجة هي زرع الفوضى والتهريج والشعور باستقلالية كل مدينة عن الاخرى باسم نظام فيدرالي ملفق دمر الشعور بالانتماء لبلد موحد.

درس تورين التجربة الايطالية للديمقراطية ولكنه لم يدرس بعد ذلك التجربة العراقية او تجارب ما اطلق عليه الربيع العربي ليتأكد ان الديمقراطية ليست سوى منتوج اوروبي يمنع تصديره او اعادة انتاجه في العالم. ولكنه يستخدم خارج الغرب الامريكي والاوروبي تسويغا للتقسيم وتأويلا للاستقلالية المنعزلة ولاشاعة الفوضى.

خلال نقاشات عديدة بعد غزو العراق مع كتّاب واكاديميين اوروبيين (بعضهم عمل مع امريكا وبريطانيا في العراق بعد ٢٠٠٣) كنت اسمع ردودا غاية في العنصرية والاستخفاف في اغلب الاحيان، تبدأ من (الايمان) بان الديمقراطية لاتصلح للعرب ولا لدول الشرق الاوسط وكأن دول الغرب قد ولدت ديمقراطية وورثتها عن طريق جينات الاجداد والاسلاف الذين اغرقوا اوروبا بالدماء عبر حروب دينية استمرت اربعمائة عام اجبرت المانيا المسيحية على السماح بتعدد الزوجات خلال الحروب الكاثوليكية - البروتستانتية بسبب النقص في الرجال الذين ابتلعتهم الحروب.

ولسوءالحظ فان اغلب منظري الديمقراطية لا يهتمون بمصيرها في دول خارج الاوروبية المركزية ويبقى علينا نحن سكان ومواطني تلك الدول بحث امكانيات وشروط (نقل) الديمقراطية (Democracy Transmission) التي انشغل بها عدد قليل من المنظرين ومنهم (لاري دايموند) الذي عمل مع القوات الامريكية في العراق بعد ٢٠٠٣ دون ان يقدم شيئا ملموسا.

يؤكد تورين على اهمية حماية الديمقراطية من اخطر اعدائها: وسواس القومية او العرقية او الدينية، والتخلي عن تراخي القوى الاقتصادية التي تتولى تكييف الاستهلاك العام. ويأخذ من تفكيك يوغسلافيا مثلا على ذلك، ويقول ان اختزال مجتمع وتحويله الى سوق واخضاعه للحلم التوحيدي والتجانسي للدولة امران متناقضان مع الديمقراطية. ذلك يعني اشاعة نظام الفيدراليات. ولكن لنرى كيف تم تطبيق هذا المبدأ في العراق الذي اصبح نموذجا تبعته ليبيا واليمن وسوريا والسودان, وربما تتبعه لبنان فيما بعد.

ان الدعوة الى اعتبار كل مجموعة، عرقية او طائفية او دينية او ثقافية او حتى مناطقية، بغض النظر عن حجمها او تأثيرها، فدرالية اصبح يتناقض مع الديمقراطية لانه على سبيل المثال، يعطل القوانين الوطنية والمركزية التي تتعلق بالوحدة الوطنية والدستورية لحقوق الانسان وحقوق المواطنة، والعدالة، ويعجز عن وقف تفشي الفساد وتحويله الى منظومة حكم وسلطة، ويضعف الى حد كبير فعالية الدستور. ويجعل حقوق الانسان عرضة للانتهاكات من قبل السلطات المحلية التي تنتهك الدستور ولا تسمح للسلطة الفدرالية التدخل كما يحدث في العراق الآن، الذي شهد في الاونة الاخيرة دعوة علنية وصريحة لاعلان تركمانستان الكبرى تمتد من مندلي شمال- شرقي بغداد الى سوريا مرورا بالحسكة، وستكون موازية لدعوة كردستان الكبرى من جنوب- شرقي بغداد الى سوريا.

ان اضعاف الدول المركزية باسم المبدأ الديمقراطي، الفدرالية، وتشكيل حكومات هشة وفق انتهازية مبدأ المحاصصة، يضعف الديمقراطية كثيرا. وقد اشار لذلك ايضا لاري ديموند (قبل تجربته الباهتة في العراق بعد ٢٠٠٣) مما جعل التناقض بين النظرية والتطبيق حالة لم تتفرد بها الانظمة الشيوعية في العالم، وانما واجهتها الديمقراطية في عدد من البلدان خارج اوروبا وامريكا.

يثير تورين مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية قائلا: لقد اثبت المجتمع السياسي، تحت اشكال مختلفة، في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، انه يأخذ شرعيته من نفسه ومن السيادة الشعبية لا من الله او من التقاليد او من عرق من الاعراق. لكن بلدانا مثل العراق، شهدت تدميرا للسيادة الشعبية (اقتصرت السيادة الشعبية على اجراء الانتخابات غير النزيهة) باحياء قوى غير ديمقراطية تتصف بالتنظيم البدائي كالعشيرة والطائفة والغيتوات الصغيرة في المناطق، مما يعني العودة الى دويلات المدن القديمة في بلاد الرافدين , الامر الذي يلغي الدولة القومية التي تمهد للتحول الديمقراطي على اساس المواطنة والمساواة، وكذلك العدالة التي ينبغي ان يستند عليها النظام الاجتماعي كما يؤكد توكفيل. وفيما يتعلق بالعدالة فان جون رولز اضاف صفة ديمقراطية واجتماعية اخرى هي الانصاف، فالعدالة تبقى مفهوما عاما قابلا للتأويل اذا لم تفض الى الانصاف. الانصاف الذي يحول العدالة من مراقب الى فاعل.

ان رحيل منظر ديمقراطي من طراز تورين اهتم كثيرا بالعلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين والفاعلين السياسيين في اطار الدولة، يجعلنا نتساءل في عصر تغلب فيه الفاعلون السياسيون على الفاعلين الاجتماعيين وزحفوا على مجالهم المدني، مما يسمح للدولة ان تعود قوة قهرية وتكف عن ان تكون مؤسسة رمزية للهوية، كما تكف عن ان تكون منظمة قانونية تشرف على فض النزاعات داخل فئات المجتمع؟

قال تورين بعد ام لا؟ يقوم تورين باستقصاء جملة من الأسئلة المتعلقة بالوقائع: ينبغي التساؤل بصيغ سياسية مباشرة اكثر فيما اذا كانت الافكار والقوى السياسية التي تستعين بالشعب ديمقراطية على الدوام، ويجيب: لقد كف استدعاء الشعب عن ان يكون ديمقراطيا، بل قام بمحاربة الديمقراطية كلما وضع الدولة، وهي الوكيل الطوعي للتغييرات التاريخية، فوق الفاعلين الاجتماعيين وعلاقاتهم. اي ان العقد الاجتماعي الذي يمثله الفاعلون الاجتماعيون كطرف ثان قد تعرض للإبطال والإلغاء، وهو الامر الذي يلوّح بمساندة النظام الديكتاتوري سواء من اليمين او اليسار بحجة طالما رددتها الانظمة المتسلطة (في الداخل) والانظمة الغربية الديمقراطية (في الخارج) هي عدم نضج مجتمعاتها او وجود تهديد خارجي او داخلي (خطاب الديكتاتورية في الداخل وخطاب دعم الديكتاتورية من الخارج).

في التقرير الذي اصدرته مجموعة مستقبل العراق الامريكية برئاسة السفير ايان كروكر الذي صدر عام ٢٠١٧ واشترك فيه عسكريون اميركيون عملوا في العراق ودبلوماسيون وعراقيون متعاونون مع المشروع الامريكي ومولته مؤسسة الحريري ترد مغالطات مقصودة لتضليل الرأي العام واقناعه بان ثمن الحرب كان مبررا وهو اقامة نظام ديمقراطي في. العراق.

كان من تلك المغالطات الشنيعة على سبيل المثال ان العراق يملك اقوى مجتمع مدني في منطقة الشرق الاوسط ولذلك ليست هناك مخاوف على الديمقراطية في العراق. بمثل هذا التقييم المضلل والكاذب يتم خداع الجميع. وحين سألت احد العراقيين المشاركين في التقرير عن قناعته بما ورد ابتسم بغباء وقال ان ذلك موجه للشعب الامريكي لتبرير الحرب.

في شهر حزيران عام ٢٠٠٣ خطب جورج بوش مؤكدا ان حدود العراق مفتوحة ليكون العراق ساحة مواجهة ضد الارهاب، وهكذا تم تحويل العراقيين الى درع واق للداخل الامريكي. ويبدو ان هذا هو مبرر وهدف رفع شعار الديمقراطية من قبل امريكا في بقاع العالم الاخرى. ما حدث بعد ذلك هو ان الديمقراطية اصبحت الدافع لخراب العالم.

ماحدث بعد ذلك هو ان أستخدام شعار الديمقراطية اصبح منطلقا لخراب العالم.

***

الدكتور نبيل ياسين

 

في المثقف اليوم