أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: جدال هيوم وإمكانية ان لا تشرق الشمس غدا؟

هذا السؤال هو سؤال فلسفي أكثر مما هو علمي، أوجد حالة من الاضطراب لأكثر من 250 عام منذ ان أثاره الفيلسوف الاسكتلندي ديفد هيوم (1711-1776).السؤال هو حول كيفية تحويل تجربة الماضي الى عقيدة حول المستقبل، وهي ما أطلق عليها الفلاسفة مشكلة الإستقراء. في حالة الشمس، نحن نتخذ من حقيقة ان الشمس كانت تشرق منذ بلايين السنين كمقدمة للاستنتاج انها ستشرق غدا(1). هيوم أشار الى عدم وجود ضمان بعدم حدوث خلل في الشمس يمنعها من الشروق. لذلك هو استنتج ان الإستقراء هو مجرد قاعدة سهلة لايمكن اتّباعها بدقة. وسواء كان هيوم صائبا ام لا، لايزال السؤال موضع نقاش ساخن بين الفلاسفة الى هذا اليوم.

ان مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير الاستدلال الاستقرائي من المُلاحظ الى غير المُلاحظ. هيوم لاحظ ان جميع هذه الاستدلالات تثق مباشرة او بشكل غير مباشر بفرضية غير متأسسة عقلانيا بان المستقبل سوف يشبه الماضي. هناك شكلان للمشكلة، الأول يعتمد على ما مُلاحظ من انتظام ووحدة للطبيعة، بينما الثاني يعتمد على فكرة السبب والنتيجة. لو سُئل أحد لماذا يعتقد بان الشمس ستشرق غدا، هو سيقول بانه في الماضي، دارت الارض حول محورها كل 24 ساعة، وهناك انتظام او تماثل في الطبيعة يضمن بان هذا الحدث سيحدث مرة اخرى بنفس الطريقة. لكن كيف يعرف المرء بان الطبيعة منتظمة بهذا الشكل؟ قد يكون الجواب، في الماضي كشفت الطبيعة دائما عن هذا النوع من الانتظام، ولهذا سوف تستمر للقيام بهذا في المستقبل. لكن هذا الاستدلال يُبرّر فقط اذا افترض المرء ان المستقبل يجب ان يشبه الماضي. كيف يمكن لهذا الافتراض ذاته ان يُبرّر؟ قد يقول قائل، بانه في الماضي، اتضح دائما ان المستقبل يشبه الماضي، ولهذا، في المستقبل، سيتضح مرة اخرى ان المستقبل يشبه الماضي. هذا الاستدلال هو دائري – ينجح فقط من خلال افتراض ما تهدف الى إثباته ضمنيا – بمعنى، ان المستقبل سوف يشبه الماضي. ولذلك، فان العقيدة بان الشمس سوف تشرق غدا هي غير مبررة عقلانيا.

هل الشمس ستشرق غدا؟

 الجواب يبدو بسيطا: نعم بالتأكيد لكن كيف نعرف ذلك؟ نحن نستطيع تصوّر الجواب البديهي التالي: "كل صباح، تشرق الشمس كما نراها، ننتظر الى الغد وسوف نرى". التفكير هنا يرتكز على الملاحظات في الماضي، نحن نعرف ان الشمس من المرجح جدا ستشرق في الصباح. يجب ان نلاحظ ان هذا الاستنتاج غير مؤكد. هناك سيناريوهات للخيال العلمي تتحطم فيها الشمس فجأة. هذه السيناريوهات تبيّن ان الادّعاء في ان الشمس ستشرق غدا هو ربما ادّعاء زائف. ورغم هذا،تبدو هناك احتمالية جيدة في شروق الشمس.

في كتابه (تحقيق يتعلق بالفهم الانساني،1748) يزعم ديفد هيوم ان هذه الحجة ليست جيدة. هيوم يرى نحن يجب ان لانثق بالادّعاءات الاستقرائية حول المستقبل بما في ذلك الادّعاء بان الشمس ستشرق غدا. قد لا يرى البعض هذا التفكير صحيحا لاننا جميعنا نعرف ان الشمس ستشرق في الصباح. لنرى كيف وصل هيوم الى استنتاجه:

مبدأ "المستقبل سوف يشبه الماضي":

في الحقيقة، القضية الرئيسية المتعلقة بمعقولية الحجج العلمية التي هي استقرائية (كونها تؤسس قوانين علمية من عدد محدود من الملاحظات) هي ما اذا كنا نستطيع إثبات مبدأ المستقبل سيشبه الماضي. لو استطعنا إظهار صحة هذا المبدأ، سنكون واثقين في استدلالاتنا العلمية. لكن اذا لم نستطع اثبات ذلك، عندئذ، وكما يرى هيوم، يجب ان نتوقف عن الاعتقاد باننا لدينا اسباب منطقية جيدة للاعتقاد ان الشمس ستشرق في الصباح.

هل نستطيع إثبات المبدأ؟

هيوم يسألنا كيف نستطيع تأسيس برهان على ان المستقبل يشبه الماضي. البرهان وفقا لهيوم يحتاج الى حجة، وهناك نوعان من الحجج المعقولة: الحجج الاستنتاجية deductive (وهي مؤكدة) والحجج الاستقرائية inductive (والتي هي فقط احتمالية وتعتمد على كمية الدليل المتوفر)(2). لذا، نحن سنحتاج الى إثبات اما بشكل مؤكد او بشكل احتمالي ان المستقبل سيشبه الماضي، عندها سنكون واثقين بان الشمس ستشرق غدا، وواثقين ايضا من جميع التنبؤات الاخرى حول المستقبل القائم على التجارب الماضية.

لذا اولاً، هل نستطيع إثبات المبدأ بحجة مؤكدة (استنتاجية)؟ هيوم يعرض حجة مقنعة باننا لا نستطيع ذلك. اولا، هو يقول ان كل المعرفة تأتينا من خلال حواسنا. نحن ننظر فقط في الدليل الذي يمكن للمرء ان يراه او يسمعه او يحسه او يلمسه او يتذوقه. ثانيا، هو يقول، ان مبدأ المستقبل سيشبه الماضي، يعني الزعم بان المستقبل دائما يشبه الماضي. ثالثا، انه من المستحيل ان نثبت تجريبيا أي شيء عالمي لأن القيام بهذا يتطلب ملاحظة كل المواقف الممكنة لتطبيقات ذلك. لذا نحن نحتاج الى المجموع الكلي لجميع التجارب الممكنة كدليل لإثبات ان المستقبل دائما يشبه الماضي. فمثلا، نحن نحتاج معرفة حول جميع اشراقات الشمس المستقبلية والتي هي مستحيلة. لكي نحصل على هذا النوع من المعرفة يجب ان نعيش الى الأبد، وحتى في هذه الحالة، نحن لم نشهد صباحات قبل ان نولد. وهكذا يستنتج هيوم اننا لا نستطيع ان نثبت المبدأ على وجه التأكيد. هل نستطيع إثبات المبدأ بحجة احتمالية (استقرائية)؟ مرة اخرى يعرض هيوم حجة مقنعة بعدم إمكانية ذلك.

المقترح الآن هو اننا يمكننا استعمال حجة استقرائية لمبدأ المستقبل سيشبه الماضي. لكن هذه مغالطة منطقية، طالما كل الحجج الاستقرائية لكي تعمل، يجب ان تفترض ان المستقبل يشبه الماضي. في الحجج الاستقرائية، المجادل يعمل ملاحظات ويستنتج قواعد عامة او استنتاجات مستعملا فكرة ان ملاحظات المستقبل ستكون مثل ملاحظات الماضي. لذا، عندما نحاول تبرير مبدأ المستقبل سيشبه الماضي بحجة استقرائية – بالقول مثلا انها حصلت في مناسبات سابقة، لذا ستحصل مرة اخرى – عندئذ نحن سنثبت المبدأ بافتراض المبدأ ذاته، وهو ما يعني ارتكاب مغالطة التفكير الدائري. باختصار،القول انه لكي نثبت استقراء من خلال حجة استقرائية، نحتاج اولا افتراض صلاحية الحجة الاستقرائية. في هذا النوع من الحجة، لا شيء يتم إثباته لأن الإستنتاج جرى افتراضه في الحجة. ومن هنا يستنتج هيوم اننا لا نستطيع تبرير مبدأ الاستقراء بحجة استقرائية.

لذا فان المبدأ الاستقرائي بان المستقبل سيشبه الماضي لا يمكن اثباته لا بحجة مؤكدة ولا احتمالية، وبهذا لا يمكن الادّعاء بان الشمس ستشرق غدا لأن هذا يفترض مبدأ المستقبل يشبه الماضي والذي لا يمكن اثباته حسب هيوم.

أين تكمن المشكلة؟

لماذا نهتم باستنتاج هيوم؟ هيوم يوضح اننا اذا لم نستطع إثبات مبدأ المستقبل يشبه الماضي، عندئذ سوف لن يكون لدينا سبب جيد للاعتقاد بان المستقبل يشبه الماضي، وهو ما يعني منطقيا ان المستقبل غير معروف. وفي ضوء هذا، نحن لا نعرف عندما نأكل الخبز سوف نحافظ على حياتنا، او ان الشمس سوف تشرق غدا، او اننا نثق باستنتاجات العلوم. المشكلة الكبرى هي اننا لا نستطيع إظهار معقولية الكثير مما نعتقد، على الأقل فيما يتعلق بأحداث المستقبل، بما في ذلك التنبؤات العلمية حول العالم.

لكن اذا كنا لا ينبغي لنا ادّعاء المعرفة حول أحداث المستقبل، كيف سنعيش؟ الحياة تتطلب ان نتخذ خيارات عملية، لكن اذا كان استنتاج هيوم الشديد التجريد صحيحا، وكنا نريد فقط إظهار كل ما نستطيع فعله معقولا، عندئذ سوف لا نستطيع العيش. تقريبا كل شخص يتفق بان الفعل التطبيقي أكثر قيمة من موقف هيوم المشكك. وهكذا، يرى البعض ان المشكلة تقع لدى هيوم .

كان هيوم على اطّلاع جيد بهذا النوع من المعارضة. ردّه هو اننا يجب ان نعيش ليس طبقا للمنطق الخالص (والذي بالنسبة لهيوم لايثبت واقعيا أي شيء حول العالم)، وانما طبقا لمشاعرنا. حسب رأيه، نحن لا نعرف ان الشمس ستشرق غدا وانما لدينا ميل شديد للاعتقاد اننا سوف ويجب ان نتصرف وفق ذلك. مشاعرنا، بالنسبة لهيوم، هي كافية للفعل العملي. رد هيوم الآخر هو ان رؤيته المشككة توفر ارشادا اخلاقيا وتطبيقيا حول حدود المعرفة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) اذا كان عمر الارض حوالي 4.5 بليون سنة، فان التقديرات تشير الى ان الشمس أشرقت حتى الآن  حوالي 1.65 ترليون مرة.

(2) للتمييز بين الإستقراء والإستنتاج نشير الى ان التفكير الاستقرائي inductive reasoning يتم فيه الذهاب من الخاص الى العام، ولا يوجد فيه ضمان بان الاستنتاج سيكون صحيحا، مثل:

البطريق هي طيور

البطريق لا يستطيع الطيران

لذلك فان جميع الطيور لا تستطيع الطيران.

هنا الاستنتاج لا يتبع منطقيا من الفرضية او المقدمة.

اما التفكير الاستنتاجي deductive reasoning يتم فيه الذهاب من العام الى الخاص. يبدأ بفرضية او مقدمة اولى ثم مقدمة ثانية ثم اخيرا الاستنتاج. مثل:

جميع الثدييات لها عمود فقري

الانسان هو من الثدييات

لذلك فان الانسان له عمود فقري.

 

في المثقف اليوم