أقلام فكرية

عدي عدنان البلداوي: عصر التقنية الرقمية وازمة الهوية الثقافية

يواجه مجتمعنا العربي اليوم إشكالية ثنائية العلاقة بين التراث والمعاصرة في وقت تبرز فيه أزمة الهوية بشكل واضح، فمن المشاهدة العيانية والمعايشة الحية لواقع الحياة اليومية لطبيعة المجتمع، يجد الباحث الانثروبولوجي تطلعاً ملحوظاً في عيون الناس لمشاهدة دور للثقافة في صياغة هوية جامعة من شأنها ان تعطي حراكاً لا يفرض أي شكل من اشكال القيود او الضوابط على الهويات الاخرى مثل هوية الوطن وهوية المعتقد وهوية العرق وهوية المهنة وهوية اللون وهوية الانتماء، بعد ان تعثرت جهود اغلب الهويات في الضلوع بهذه المهمة، فعلى الرغم من المشتركات الكثيرة والأساسية والمؤثرة في مجتمعاتنا العربية إلا انها لا تزال تعيش ازمة الهوية خصوصاً لدى الأجيال الشابة، إذ ان الماكنة العالمية للاقتصاد الصناعي تمكنت من احتواء كثير من الهويات وإعادة اصدارها بنسخ جديدة توافق تطلعات مشاريع النظام العالمي الجديد الذي قالت عنه تصريحات وآراء انه نظام يختلف عما كان عليه الحال قبل اجتياح وباء كورونا العالم، ومن حيث لم يعد بوسعنا اليوم ان نتحرك بمعزل عن العالم وعن دوره وربما تدخلاته بعد ان اجتذبت المشاريع العملاقة الناس اليها من مختلف اصقاع الارض حيث اختلاف اللغة والدين واللون والهوية الجغرافية والتاريخ، فظهرت الشركات العابرة للقوميات وتحرك المال ليدير هذا النظام الجديد، وفي ضوء هذه المستجدات المثيرة وجد الفرد العربي انه في حيرة من امره، فهو من ناحية عملية لم يعد يستغني عن مخرجات الثورة الصناعية والتقنية والعلمية والمعلوماتية، فقد صارت اجهزة الاتصال ووسائل التواصل والعالم الافتراضي من ضرورات حركة عجلة الحياة اليومية لابسط المستويات والامكانيات الثقافية والاجتماعية والمادية، ومن ناحية اخرى يجد الفرد على اختلاف المستوى التعليمي والثقافي انه مرتبط بالتراث والتاريخ والاسلاف ارتباطاً لا يشعر بالتوازن اذا تجاوزه او فرض عليه تجاوزه، وصارت المحنة كبيرة احتاجت الى هوية جديدة نستطيع بها تمثيل الواقع للنهوض به الى ما ينبغي ان يكون وتلك كانت رسالة الإمام علي عليه السلام في السلطة.

الموروث الثقافي وتغيّر المجتمع..

يرى الفيلسوف الفرنسي فيليب هـ فينكس ان الحفاظ على الموروث الثقافي يأتي عن طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، طريق حي يمثله الانسان، وطريق غير مباشر يمثله المتحف والكتاب والجريدة والمسرح وغيرها ولكي يحدث هذا التواصل بين الطريقين اقتضى تربية واعداد جيل من المتعلمين يستوعبون هذه الرسالة التعليمية وعدا ذلك قد يغدو المتحف مكاناً اثرياً جميلاً نستمتع بزيارته ونلتقط فيه الصور لننشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل دون ان يكون لذلك اثره الحي في حركة واقعنا المنهك اليوم، ومن شأن هذا الخلل ان ينعكس سلباً على طبيعة الشخصية التي من المحتمل ان تتعرض للازدواج والتناقض وقد سجلت المشاهدات العملية وجود مثل هؤلاء الأشخاص.

التغير صفة اساسية من صفات المجتمع، يراد به التحولات التي تطرأ على البناء الاجتماعي، اي منظومة القيم والسلوكيات التي تربط ابناء المجتمع مع بعضهم.

 يشتغل علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على موضوعة تغير المجتمع من اجل المزيد من العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، ولا يختلف مجتمع عن اخر من حيث طبيعة التغير لكن الاختلاف يكمن في درجة التغير والآثار الجانبية المترتبة على ذلك التغير، ففي عالمنا العربي والإسلامي عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص يواجه الناس مؤثرات تتفاوت درجات ضغطها على طبيعة المجتمع، منها ضغوطات داخلية تتمثل بالتغيير الذي حصل في سياسة وادارة واقتصاد البلاد، ومنها ضغوطات افرزها النظام العالمي الجديد ومشاريع الاقتصاد الصناعي السياسي للشركات الكبرى العابرة للقوميات، ومنها ما نتج عن الطبيعة مثل التصحر وشحة المياه والاوبئة وامراض الحروب، القت هذه الضغوطات بثقلها على طبيعة المجتمع الذي يتمتع بهوية ثقافية دينية وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الهوية من حيث جهود بعض القوى في اعادة تشكيل العالم على وفق نظام جديد تندمج فيه المجتمعات المتأخرة والفقيرة والمتخلفة والعالم الثالث في النسيج العالمي الذي تقف وراء صياغته قوى هويتها الثقافية غير هوية تلك المجتمعات موضوع الدمج، وسط هذه الدوامة الكبيرة يجد الانسان انه يعيش ازمة قد تأخذ به الى التغريب الثقافي على حساب الهوية الذاتية ونمو الشخصية الذي يبدأ من ذات الشخص في اتفاق مع نفسه التي تبدي استعدادها لوعي الشخص بطبيعته وطباعه وبعلاقته بالمجتمع وحرصه على ان يكتسب هوية شخصية يصنعها ذاتياً تعطيه دوراً ايجابياً في المجتمع، وهذا الحرص والاستعداد المسبق يعطيان الشخص من خلال مراحل العمر والتجربة والخبرة والتعلم، هوية مستقلة لها بصمتها الحضورية في واقع الحياة الاجتماعية، بينما الذين ليس لديهم استعداد مسبق واتفاق مع الذات على وعي الطبيعة البشرية وطباعها وبناء الشخصية فإنهم غالباً ما يميلون الى اكتساب هوياتهم من خلال الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه فيغلب عليهم ماهو غالب على ذلك المجتمع من قيم وسلوكيات يفرزها التيار الاقوى في مرحلة معينة من عمر المجتمع كالتي يعيشها في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين حيث الانفتاح على العالم بواسطة شبكة الاتصالات العالمية والدعوات الى الحرية الشخصية واحترام حقوق الرأي والتعبير والتفكير تصل احياناً حد التجاوز على الذوق العام الذي يعبر المجتمع من خلاله عن طبيعته وهويته.

ترى هل ان اخفاق المجتمع العربي اليوم في عقلنة العولمة راجعٌ الى ان المشاريع العالمية تستهدف علمنة تراث المجتمع الثقافي؟ ام ان المشكلة في ان المجتمع يريد ان يعيش خارج بيته بالأجواء نفسها التي يعيشها داخله، في الوقت الذي تريد منه العولمة ان يكون كما يريد في بيته وان يكون كما يراد منه خارجه، هي تريد منه ان يكون عربياً ومسلماً داخل بيته وتريد منه ان يكون مواطناً عالميا خارج بيته على وفق ما تعنيه العالمية من هيمنة الغرب الأقوى في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة ..

لا نستطيع الجزم بأن الانسان يستطيع ان يكون على صورة واحدة لا تقبل المراجعة او التغيير، فما بين تاثيرات الظروف ومناخات النمو المعرفي وبين ان يدرك الانسان انه ذات وليس موضوعاً، سيتمكن من اكتشاف هويته وإثبات ذاته من خلال تجاربه الحياتية والخبرات التي يحصل عليها من تجاربه وتجارب الاخرين والرسائل الثقافية التي يستوحيها من التراث ممثلاً في المتاحف والاثار والكتب والصحف والمكتبات..

يفشل كثير من الناس في فرض هوياتهم الخاصة على الاخرين ويضطرون الى التنازل عنها ليتشبهوا بغيرهم من اجل تمشية الأمور وتجاوز العقبات، فقد يعيش بعض الناس وهم غير راضين عن حياتهم وادائهم مضطرين لقبول واقعهم المفروض عليهم والذي يتعذر عليهم مواجهته وتغييره، يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" ان الوعي البشري محدود بالظرف الإجتماعي والحضاري الخاص بالبيئة التي يعيشها الإنسان.

يسلط علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي الضوء على طبيعة احساس الفرد بنوع وجوده في الحياة، فالذي ينظر الى المتحف مثلا على انه مكان يحتوي على أشياء تشير الى طبيعة وثقافة مجتمع في مرحلة زمنية من مراحل التاريخ القديم والحديث لا تربطه به اكثر من رغبة الاطلاع والسياحة الثقافية التي ينتهي مفعولها بمغادرة المكان والتقاط الصور، اما الذي يرى في المتحف موضوعاً فإنه يمنح حاضره نظرة مستقبلية يرسم ملامحها من خلال معطيات يمده المتحف بها من خلال الرسالة التي تحملها موجوداته المادية والتي يترجمها الى لغة الواقع ليقارب بها بين الماضي والحاضر كي يتجاوز حالة الرضا الوهمي التي تخدعه بها عثرات الواقع المنهك المتأخر المأزوم..

ان الحد الأدنى من الأداء الثقافي يشتمل على بذل جهود مضاعفة تصل حد تكليف النفس اكثر من طاقتها للوصول بالمواطن الى حالة التوازن، لأن حالة التوازن تمنحه امكانية الالتفات الى الوراء والوقوف عند التراث واستحضاره، اما عندما يعيش الفرد حالة من القلق وفقدان او ضعف الثقة بالمحيط الذي يعيش فيه مع المقربين والآخرين، ومع السلطة ذاتها، فإن التراث لن يعدو كونه محطة استراحة تحتاجها النفس في اوقات معينة ومواقف معينة، في الوقت الذي ينبغي له ان يكون محطة يحتاجها حاضرنا كي نمر بالاتجاه الصحيح والمسار الآمن، فالتراث هو الماضي باحداثه وشخوصه وانتاجاته، وهذا كله رصيد من الخبرة يتحول الى ثروة عندما نستثمرها في حاضرنا على وفق معيار نقدي يعود علينا بالنفع في اجادة التصرف وحسن الاختيار وتحقيق الهوية، وما حالة الضياع أو ازمة الهوية التي تعيشها اجيال اليوم إلا لأنهم لم يجدوا من يصل بهم الى حالة التوازن، ولم يتمكنوا ذاتياً من تحقيق ذلك في زمن تكالبت فيه المشاكل والضغوطات والاغراءات والتهديدات وضرورات الحياة التي لم تعد كما في السابق، فاليوم صرنا من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، ضمن نظام عالمي يتحرك فيه رأس المال ليدير مشاريع ضخمة عابرة للقوميات يعود نفعها على الجميع مع الاخذ بنظر الاعتبار ان القدر الاكبر من النفع يصب في صالح المنتجين ومالكي المشاريع، فهذه المشاريع وان كانت تسهم في تشغيل ابناء المجتمعات في مختلف انحاء العالم وعلى اختلاف اوضاعهم ولغاتهم والوانهم وميولهم واديانهم، إلا انها في النتيجة نمط من انماط التبعية المتطورة، وهي تبعية يرتضيها الناس لأنها في الحد الأدنى تخفف عنهم شعورهم بإالغاء الذات، مع انها تسعى وتهدف الى ذلك ولكن عن طريق لا ينتبه اليه كثير منا، وهو طريق الاقتصاد والمال والاعمال، الطريق الذي الغى فيه اشخاص كثيرون عبر التاريخ انفسهم من اجل مكتسباته المالية والمادية..

الهوية الثقافية وفلسفة التربية..

ينبغي ان تختلف نظرتنا الى المتحف اليوم عما كانت عليه بالأمس، بعد ان تخلّت المدرسة في زمن التقينة المتطورة والشخصية القلقة وازمة الهوية، عن اداء دورها في تحقيق الهدف من فلسفة التربية القائم على اعداد جيل من الابناء يعي اهمية حفظ الثقافة في جانبها المادي كالمتحف والجريدة والكتاب والمدونات، فلأسباب كثيرة لم تعد المدرسة اليوم قادرة على النهوض بالجانب التربوي للطبلة واقتصرت على الجانب المهني التعليمي في حدود لا تدعو كثيراً الى التفاؤل..

المدرسة في اعتقاد الفلاسفة التربويين، مكان يُراد من دخول الطالب او التلميذ اليه اعطاؤه دروساً عملية اجتماعية في حفظ التراث ونقل الثقافة الى ساحة التحضر كي يرتقي المجتمع الى ما ينبغي ان يكون ـ او على اقل تقدير لمنع اصابة المجتمع بالركود الذي يؤدي الى التخلف وبالتالي الانعزال عن العالم، بينما واقع الحال يفيد بأن الناس يعيشون ويتعبون في اعمالهم وحياتهم وهم باقون على ما هم عليه، وبالتأكيد ان جانب السلطة الحاكمة له بالغ الاهمية في وصول الحال الى هذا المستوى الذي لا يخدم حركة النهضة الثقافية في المجتمع، فقد نجد الصغير والكبير يحمل جهاز موبايل ويجيد استخدام الحاسوب ويعرف كيف يتنقل عبر العالم الافتراضي، لكنه قد يكون فاشلاً في معرفة نفسه، وفي معرفة هدفه، فكثير من الناس يعيشون حياتهم مستسلمين لفكرة ان وجودهم هو حصيلة تكوين اسري اقامته علاقة بيولوجية سيكولوجية بين الاب والام، وبالتالي فقد شكّل هذا الشعور أو هذا الاداراك التلقائي، احباطاً وتراجعاً، جعل الشخص يتعامل مع نفسه وجسمه كآلة يُراد لها ان تعمل وتنتج بغض النظر عن هدف ذلك العمل وقيمة ذلك الانتاج..

الثقافة هي روح المجتمع، ولكي لا تتجمد تلك الروح ويتحول المجتمع الى كتل بشرية وتجمعات تتحرك في دائرة الاحداث اليومية للحياة، فالمتحف احد ادوار واطوار الثقافة، والتربية هي الحقل الآمن لتدريب ابناء المجتمع على معرفة هوياتهم التي يهتدون اليها بواسطة الثقافة، ويأتي الدين ليشكل روح تلك الهوية، لذلك فالثقافة والهوية والدين والمجتمع رباعية مترابطة يقوم عليها بناء الشخصية وعندما نذكر الهوية الثقافية فنعني بذلك منظومة القيم والعادات والأخلاق والمعرفة والإبداع المهني والإبداع الفكري، ومن شأن هذا الترابط الرباعي بين الثقافة والهوية والدين والمجتمع تمكين الفرد من اكتشاف هويته التي توفر له مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى دون اضرار جانبية، بل ربما توفر له اجواء ايجابية من حرية الإستخدام الواعي لمخرجات العملية الصناعية الإقتصادية العالمية فقد نكون مضطرين اليوم الى عكس الية النظرية والنتيجة، فنبدأ من النتيجة كي نرجع الى الفكرة أو النظرية، فبعد أن تمكنت ونجحت الأجيال السابقة والى وقت قريب في حفظ التراث كانتاجات ثقافية وفشلنا في احتواء هدف تلك الإنتاجات عندما لم نعد نشعر ونحن نزور المتحف مثلا اننا نتواصل مع موجوداته كأنها فينا ومنا وليست جزءاً من ماضي نستذكره بعاطفة وفخر فنشعر بنشوة هي اقرب الى كونها جرعة مهدئة منها الى كونها محفزاً مقوياً، قد يكون من المفيد بالنسبة لنا اليوم ان ننطلق من المتحف لنصل الى فلسفة العلاقة الحيّة بين الماضي والحاضر مستخدمين لذلك ادوات التقنية الحديثة بدوافع من الهوية الثقافية الإجتماعية الدينية، وهذا هو دور القائمين على حفظ التراث وتنمية وصيانة وادارة المتاحف..

باعتقادي ان الاهتمام بالمكان يأتي بالدرجة الثانية بعد الاهتمام بالانسان، لأن هدف الثقافة هو ايجاد اشخاص مؤهلين لحمل الرسالة التي تركها لنا السلف في المتاحف والكتب والمدونات والاثار والاخبار، ولكي نكون مؤهلين لحمل هذه الرسالة نحتاج الى قراءة مضمونها، والقراءة تحتاج الى لغة حيّة تضمن حصول التفاعل بين الماضي والحاضر، لكن الظروف غير المتوازنة اظطرت بعض الشباب الى ان يلغي نفسه قبالة شعوره بالارتياح في وسط يمضي بهم في طريق لا يبدو انه يصل بهم الى مكان آمن، ولأن الحاجة الى معرفة الذات حاجة ملحة وضرورية وبدونها تستحيل حياة الانسان وقد يصبح الانتحار حلاً للمشكلة كما يرى عالم النفس الدنماركي المريكي اريكسون، لقد لجأ بعض الشباب الى اكتشاف هوياتهم عن طريق الآخرين، ومن الخطورة بمكان ان يساء استخدام التقنية المتطورة بحيث يؤدي دوراً سلبياً في تدني قيمة الذات وتدني الذائقة والحس الواعي مما اسفر عن ظهور اشخاص بلا معنى او تافهين او اصحاب محتوى فارغ في واجهة المجتمع، والذي يدعو للأسف والى الشعور بالفشل ان يكون عدد الاعجابات والمشاهدات والتفاعلات والمتابعات التي يحظى بها مقطع فديو لهذا او ذاك معياراً في تقييم تلك الشخصية بغض النظر عن قيمة محتوى الفديو، يكفي انه نال استحسان واعجاب عدد كبير من المتابعين الذين شدتهم الآلة المتطورة اليها وفتحت امامهم نوافذ لصناعة هوياتهم من خلال العالم الرقمي والتقنية واعادة تكوينها بعيداً عن اللغة والدين والتراث قريباً من سوق السلعة وكان نتيجة ذلك ظهور شخصيات مضطربة قلقة مشوشة هي اقرب الى اللامعنى منها الى ابسط معاني الوجود الحي للنوع البشري، وتصل درجة الانهيار حدّها عندما تقترب من مفكرين ومثقفين يصنعون افكارهم في بيئة عربية ومجتمع اسلامي دون ان يكون لهذه الافكار صلة بواقع حياة مجتمعاتهم، بل لعلها تزيد في استغراق المجتمع في سوق السلعة ورقمنة المستهلك.. يمارس بعض دعاة الثقافة والتنوير اليوم انتقاداتهم لمنظومة قيم اجتماعية ومواريث تاريخية ومصادر دينية وعرضها على جمهور منهك يعيش حالة الضعف بسبب ضغوطات الاوضاع العامة في داخل البلاد وخارجها في عموم العالم تقريباً وهو ما قد يشكل خطراً يتهدد الهوية..

الهوية كيان مرن يتشكل ويتغير تبعاً للتحولات التي يمر بها الشخص او المجتمع، فالهوية ليست ثابتة ولأنها ليست كذلك يخشى على المجتمع العربي المسلم اليوم من ان تسهم هذه الاضطرابات والاخفاقات والاحباطات المتراكمة والمتكررة وكثرة المشاكل الاجتماعية والأسرية، في تكوين هوية مضطربة ثقافيا قد يعتادها المجتمع بسبب استمرار تراكم تلك الإضطرابات في ظل غياب حقيقي لإدارة قادرة على تلافيها، فلا يعود للكتاب معنى في حياة ابنائه إلا بمقدار ما تمليه الحاجة المادية للكتاب من حيث ان القراءة تسهم في تأهيل الشخص للحصول على موقع اجتماعي وظيفي وليس لأن القراءة تسهم في اكتشاف وتكوين الهوية التي يراها الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الروحية "لافل" انها تمنح صاحبها قدرة الإجابة الحاسمة عن اهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية مثل : لماذا اعيش ؟ من انا ؟ و.. و.. ويرى عالم النفس الدانماركي "اريكسون" ان تحقيق الهوية امر حيوي وضرورة حتمية تستحيل بدونها رغبة الناس في الحياة ويرى ان يكون ميتاً افضل من ان يعيش بلا هوية..

يرى عالم الانسان البولندي "مالينوفسكي " ان ثقافة اي مجتمع تنشأ وتتطور في جو يتم فيه اشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الإجتماعي الذي ينظم ويحكم تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع، فإذا تعرض ذلك النظام الإجتماعي الى ما يهدد سلامة بنائه من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية فإن ما يدعو الى القلق والتشاؤم في بعض الأحيان هو ان تسهم تلك الإضطرابات والظروف المتذبذبة في ظهور ثقافة مرحلية خاصة بشريحة او طبقة وربما كل المجتمع، تشتمل على فهم جديد مختلف عن المألوف من مفاهيم مثل الكتاب والمتحف والمدرسة والجامعة، هناك من العلماء من يعتقد ان الثقافة مفهوم لا يقتصر على انتاجات المجتمع الحاضر وانها تجمع بين التجربة والخبرة المكتسبة عبر التاريخ ممثلة في مخرجات تلك المراحل الزمنية السابقة من كتب ومتاحف وآثار يضاف اليها التجارب الحية والحيوية لأبناء المجتمع في حاضره بما في ذلك الجانب النفسي والعاطفي والمعرفي والتعليمي، ولأن الانسان ينسى بحكم طبيعته البيولوجية فمن واقع المسؤولية الثقافية يستوجب ان يحدث حراكاً ثقافياً للوسط المثقف في اي مجتمع لإنعاش ذاكرة المجتمع وتقريب ماضي الآباء والأجداد اليهم باستخدام ادوات جديدة لا يشعر الناس معها انهم امام ماض جميل عليهم ان يسمعوا عنه وان يشاهدوا اثاره كجانب نظري تستوجبه احياناً ثقافة المجتمع المرحلية وحاجة الفرد الحياتية الى مصادر طاقة يستطيع بها التحرك في حياته اليومية على سبيل تمرير الوقت وتحقيق بعض المكتسبات المعاشية والحياتية التي لا تلامس الفهم العميق للثقافة..

ونحن نتحدث عن الهوية الثقافية للمجتمع علينا ان لا نغفل طبيعة هذا المجتمع والطريقة التي يعيش بها الناس، فليس من المفيد في الجانب العملي للبحث الانثروبولوجي ان نتناول ثقافة المجتمع عبر ازمنة مختلفة ونعمل على تكوين مقاربة بينها وبين ثقافة اليوم بمعزل عن الجوانب الاجتماعية والحياتية للمجتمع وللفرد وندعو الناس الى تقديس الموروث وتعظيم إرث الآباء والأجداد وتقييم انجازاتهم بينما هم يعيشون ظروف حياة مختلفة عن تلك التي قامت عليها ثقافة آبائهم واجدادهم.. ان الحل العملي المنهجي يقتضي اخذ ظروف وطريقة حياة الناس بنظر الاعتبار ودراستها دراسة وافية تعملل نتائجها على ايصال الناس الى حالة من التوافق بين المادي والمعنوي، البيولوجي والسيكولوجي في حياة كل فرد، فالثقافة كما يرى عالم الاجتماع البولندي مالينوفسكي وهو احد اهم علماء الانسان في القرن العشرين، يرى ان الثقافة تنشأ وتتطور في مجتمع بعد تلبية احتياجات افراده البيولوجية التي حددها في المأكل والملبس والزواج والسكن، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات تتحقق حالة التوازن عند الفرد وتنعكس هذه الحالة من التوازن على المجتمع بالتالي، عندها تتشكل الهوية الثقافية المنبثقة من طبيعة ذلك المجتمع وعندها لا يغدو المتحف مكاناً تاريخياً أثرياً تأخذنا اقدامنا اليه متى استشعرنا سايكولوجيا حاجتنا الى الاستجمام والراحة والتمتع..

يقتضي مشروع الهوية الثقافية البدء من واقع المجتمع والوقوف ملياً عند احتياجات ابنائه وان نوفر حلولاً جذرية للمشاكل الإجتماعية التي أخذت تكبر في بلادنا واخذت تهدد سلامة البناء الإجتماعي فيه، إننا مدعوون اليوم من واقع الوعي الثقافي ومن واقع الحرية المسؤولة ان نتبنى كمجتمع، كمنظمات ومؤسسات دينية وتربوية وثقافية وانسانية مستقلة رعاية هذا المشروع الذي تلتقي فيه سلامة الماضي بإستقرار الحاضر لضمان المستقبل، لا شك انها مهمة شاقة جداً خصوصاً واننا نعيش في زمن لم يعد بوسع اي مجتمع ان يعالج مشاكله بمعزل عن العالم او ان يعيش بمفرده دون ان ينظر في انجازات المجتمعات الاخرى كما يرى الانثروبولوجي الامريكي كارلتون كون..

ان غلبة التيار المادي الاقتصادي وهيمنة القرار السياسي دون الثقافي على طبيعة المشهد الحياتي لشعوب العالم يجعل بلداننا امام تحد خطير ومصيري لا يتيح امامنا اكثر من طريقين، إما اكتشاف هويتنا الخاصة التي لا نزال الى الآن وعلى الرغم من كثرة الإحباطات والمعوقات، نمتلك مقومات وادوات اكتشافها خصوصاً وان مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتمتع بوجود حقيقتين اتفق عليها كثير من علماء النفس والإجتماع والانثروبولوجيا، هي انه ما من مجتمع إلا وله دين او هو يبحث له عن دين، والحقيقة الثانية هي انه لا يوجد شخص في هذا الوجود ليس لديه شعور ديني، من خلال واقع حياة الناس الاجتماعية والثقافية يدرك الباحث الانثروبولوجي وجود هاتين الحقيقتين حاضرتين بحيوية وفاعلية في مفاصل حياة الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وهو ما يعد خميرة حيوية مهمة لاكتشاف الهوية الثقافية للمجتمع التي تمكنه من وضع بصمته الخاصة في المشهد الحياتي.. الطريق الثاني هو الاندماج بالنسيج العالمي الذي يحكمه التيار المادي بحكم تفوقه الصناعي والتقني والقبول بالتغريب الثقافي وهو ما يفرض على الناس هوية ثقافية جديدة تصنعها ثقافة الأقوى وهي ثقافة غربية بلغة غريبة عن طبيعة مجتمعاتنا خصوصاً العربية منها، وهو طريق في ايسر محطاته يعطي للفرد حرية ان يكون كما يريد داخل بيته او داخل مجتمعه، على ان يكون كما يراد منه عندما يخرج من بيته، وهو طريق يحكم على المجتمع بالتبعية، وفي هكذا جو تضطرب الثقافة ولا يعود فيه الكتاب او المتحف أو.. سوى نشاط اجتماعي اعتباري في اطار ثقافي هو اقرب الى التمني منه الى الواقع.

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم