تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ماذا نحتاج ان نقرأ قبل قراءة كانط؟

يصادف يوم 22 ابريل 2024 الذكرى الثلاثمائة لميلاد الفيلسوف عمانوئيل كانط. الكاتبة انجا ستينبنر(1) تحاول التعريف بكانط وتسعى لجعل القارئ قادرا على فهم انتقاداته الثلاثة. عندما طلب بعض الطلاب من استاذ الفلسفة القديم معرفة أفضل كتاب تمهيدي في الفلسفة، أشار الاستاذ باستياء الى "نقد العقل الخالص" لكانط. لأول وهلة هذا بدا غريبا: أعمال كانط وخاصة عمله الأخير تصعب جدا قراءته ويترك الخوف لدى منْ يحاول دراسة الفلسفة. حتى صديق كانط موسى مندلسون Moses Mendelson، أحد أكبر المفكرين في القرن الثامن عشر، أعلن ان نقد العقل الخالص كان"يستهلك الروح". لكننا نعتقد ان استاذ الفلسفة القديم كان على صواب. حالما تجد طريقة لقراءة كانط، فان كتبه يمكنها ان تعلّمك كيف تتفلسف جيدا. كُتب كانط منهجية ونقدية ومعقدة بشكل مقبول، انها تحفز القارئ على الصراع  وعدم الاتفاق معها. اذاً كيف نبدأ؟ من المفيد معرفة القليل عن خلفية كانط واهتماماته وطريقته في التفكير بالاضافة الى المفاهيم التي يستخدمها.

على عكس العديد من فلاسفة التنوير العظماء نحن لانزال نتحدث عن عمانوئيل كانط ،كان كانط الرابع من بين تسعة أطفال، لم يولد في اسرة ثرية. والده كان يعمل في صناعة لجام الخيل وهي مهنة ليست راقية اجتماعيا ولا اقتصاديا. العائلة كانت متدينة وتقية، كجزء من حركة دينية برزت في القرن السابع عشر وأرادت تجديد الحياة البروتستانتية وإجراء إصلاحات في الكنيسة. ومع ان كانط لم يكن متدينا عند بلوغه – لكن البعض يشير بأصابع الإتهام لتأثير الفيلسوف على تزايد اعداد الكنائس المهجورة في مدينة كونيغسبرغ (بروسيا الشرقية) – غير انه كان يعتز بهدوء العقل والايجابية اللذين ميّزا اسلوب حياة التقوى، مذكّرا بالحكمة الرواقية. هو طوال حياته إعترف بتأثير طريقة التفكير العقلية"الطبيعية" لوالدته بالاضافة الى مبادئها الأخلاقية القوية. وبمساعدة الأصدقاء والجيران الذين انتبهوا لموهبة كانط، جرى إلغاء رسوم الدراسة وإرساله الى مدرسة جيدة وان كانت صارمة. ورغم ان التعليم كان جافا جدا لدرجة بدا كانه مُصمم "لإخماد أي رغبة" حتى في الافكار والاسئلة المثيرة، لكن كانط بقي على نفس فضوله الفكري.  سُجّل كانط  كطالب في الجامعة، ونجح فيها ماليا من خلال عمله كمرشد خاص بالاضافة الى فوزه في ألعاب البليارد وهي المهارة التي ساعدته في تمويل نفسه في حياته المبكرة.

في سن الـ 46  حصل كانط على ما كان يتوق له من الاستاذية في المنطق والميتافيزيقا وهو ما ضمن له الاستقرار المالي. عاش كانط في كونيغسبرغ  طوال حياته وهي المدينة التي كانت آنذاك مركزا تجاريا صاخبا في بروسيا. كان لكانط  اصدقاء متنوعين. أفضل اصدقائه كان تاجرا انجليزيا مهاجرا يسمى غرين Green، طلابه كانوا من كل العالم، يأتون من بروسيا والولايات الألمانية الاخرى، وكذلك من روسيا و البلطيق وبولندا. وبقدر ما كان كانط مهتما بالعمل الأكاديمي، كان ايضا يخصص النصف الثاني من كل يوم للترفيه الاجتماعي: تناول الغداء مع الاصدقاء، ممارسة لعبة البليارد،الكارتات، حضور الصالونات والمسارح. هذه الحياة الممتعة اصبحت متاحة من خلال التحول الثقافي اثناء الاحتلال الروسي لكونيغسبرغ  1758-1762، الذي جعلها اكثر تحررا وأقل تفاوتا طبقيا وبدون تحيزات واكثر انفتاحا على الرفاهية.

وعلى صعيد أحدث التطورات في العلوم الطبيعية بالاضافة الى الميتافيزيقا، نشر كانط دون الإشارة للمؤلف كتاب (التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات) في بدايات عام 1755. في هذا الكتاب اقترح كانط توضيحا ميكانيكيا خالصا لبداية الكون، والذي بقي لوقت طويل كأساس هام للنقاشات الفلكية. في تلك الاثناء، كانت كتابات كانط النقدية حول الدين على وشك ان تُنشر، لقد انتهت فترة حكم اثنين من الحكام التنويريين وهما فردريك ولهيلم الاول وفردريك العظيم أعقبهما حكم الملك الجديد فردريك ولهيلم الثاني الأكثر صرامة، وهو ما يعني ان كانط اصبح يواجه مشكلة مع الرقابة. لفترة من الزمن انتشرت شائعات بان كانط ربما سيُنفى ويفقد حق النشر مرة اخرى. ومع ان هذا لم يحدث، تلقّى كانط تحذيرا شديدا وشخصيا من الملك الذي اتهمه بإساءة استعمال موقعه كمربّي لأذهان الشباب ليدفعهم للتحول ضد تعاليم الكنيسة. وبعيدا عن الخوف، كتب كانط للملك معلنا رفضه الاتهامات لكنه وعد ان لا ينشر اي مادة حول الدين طالما بقي الملك حيا. وحالا بعد وفاة الملك، نشر كانط الكثير من التأملات النقدية حول الدين. في عام 1796 وفي عمر 73 عاما ألقى كانط محاضرته الأخيرة.

ثلاثية كانط النقدية The Three Critiques

بعد عقود من الإنغماس والكتابة في العلوم والفلسفة والعديد من الموضوعات ذات الصلة، بدأ كانط عمله في مشروعه "النقدي". وحالما بدأ البحث في أشهر أعماله وهو نقد العقل الخالص، أخذ اسلوب حياته يتغير. هو تحوّل من مثقف اجتماعي شجاع الى استاذ منسحب اتّبع اسلوب حياة صارم تحكمه الدقة والمزيد من الانضباط الذاتي. "الفلسفة النقدية" لكانط اشير اليها ايضا بـ "transcendental". وهذه المفردة ليست مرادفة لـ "transcendent". انها لا تعني "وراء" بل ان الكلمة لها معنى تقني هنا. انها تشير الى التحقيق في "الشروط الضرورية لإمكانية حدوث شيء ما". بكلمة اخرى، في نقد العقل الخالص كانط يسأل:

ماذا يجب ان يكون موجودا لكي تصبح المعرفة ممكنة؟

ماذا يمكننا ان نعرف؟

بالمقابل، كانط يسأل عن الشروط المسبقة للمعرفة الانسانية. ونفس الشيء، في نقد العقل العملي كانط يسأل عن شروط الاخلاق، وفي نقد ملكة الحكم يسأل عن شروط الجماليات والتطبيقات الاخرى للحكم.

لماذا عُرفت انتقادات كانط الثلاثة الشهيرة بهذا الاسم؟ ما الذي تنتقده ولماذا؟ انها تفكير نقدي حول حدود تطبيق العقل، وفي نفس الوقت، هي حول تقاليد كانط الفلسفية. كانط تلقّى تعليمه في العقلانية، وبشكل أدق فلسفة ليبنز Leibniz كما نُقحت من جانب كرستين ولف Christian Wolff. العقلانيون اعتقدوا ان المعرفة تنبثق من العقل. بدأت تبرز لكانط  شكوك حول دقة هذه الفكرة الاساسية لسنوات قبل فترته النقدية، ولكن عندما قرأ ديفد هيوم استيقظ تماما من "سباته العقائدي". "الدوغمائية" اصبحت طريقة كانط في الاشارة للعقلانية، بينما هو أشار الى طريقة هيوم التجريبية بـ "الشكية". التجريبيون، مقابل العقلانيون، اعتقدوا ان المعرفة جاءت من التجربة وحدها. من المفيد التمييز بوضوح بين العقل والفهم. العقل"Reason" هو قدرة الانسان على التفكير المنطقي. هو لا علاقة له في كون المرء ذكي او متعلم بينما هناك عدة طرق يمكنك بها تحسين مهاراتك العقلية، اعتقد كانط انها القابلية التي نمتلكها جميعنا، لذا لا احد يُعذر من التفكير العقلاني. ذلك يعني القدرة على الوصول الى استنتاج من الاسباب وتجنب المغالطات كالعقائد المتناقضة. لذا فان "العقل" هو ما نستعمله للتفكير الجيد، انه مستقل عن التجربة.

اما الفهم "understanding" له علاقة بالطريقة التي نفهم بها العالم، لذا هو يشمل كل شيء له علاقة بالتجربة. هذا الفرق ايضا يأخذ شكل القبلي – "قبل التجربة" و بعدي "بعد التجربة". المحللون يحذرون: من ان كانط ينوي القول ان العقل شرط غير كاف للمعرفة. هو يعتقد اننا نحتاج مدخلات من العالم للامساك بالمعرفة، لذا فان الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تعطي لنا معرفة. المعرفة هي بعدية وأي محاولة للحصول على معرفة عبر العقل وحده ستغرقنا في "ظلام وتناقضات". في حقل الاخلاق التي نالت تغطية في نقد العقل العملي،كان العقل مفيدا جدا: كانط يعتقد اننا نستخدم العقل لنتحرر في تفكيرنا حول المبادئ الاخلاقية، انها قبلية.

لماذا هناك ثلاثة انتقادات؟ لماذا ليس فقط تلك الاثنين؟ الفرق بين نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي يسهل رؤيته. في النقد الاول، استطلع كانط ما نحتاجه لإكتساب المعرفة. لكن، عند النظر الى الطريقة التي نفكر بها حول القيم الاخلاقية، حالا اصبح واضحا ان التفكير الاخلاقي يعمل بطريقة مختلفة. هذا ما عبّر عنه كانط في النقد الثاني. اذاً، ماذا يعمل النقد الثالث، نقد ملكة الحكم؟ انه هناك ليتوسط بين عالمي النقد الاول والثاني. في قراءتهما ، يبدو ان عالم التجربة الحسية والعالم الاخلاقي، الطبيعة والحرية،  منفصلان. الحكم هو قدرة الانسان على الجمع بين الاثنين. أحسن حالة دراسية هي الجماليات. البيان او القول الجمالي يختلف عن بيان المعرفة: "الوردة حمراء" هو بيان يختلف عن القول "الوردة جميلة". لكن، الحكم على الجمال هو ايضا مختلف عن البيان الاخلاقي. الاحكام الجمالية تتطلب كل من الانتباه للطبيعة، تجربة حسية، واستعمال حرية الانسان،والخيال الذاتي.

لماذا الانتقادات الثلاثة هامة جدا ولماذا تبقى كذلك؟ لماذا يعتقد شوبنهاور ان نقد العقل الخالص "أهم كتاب كُتب في اوربا على الاطلاق"؟ لماذا شعر الشاعر كولريدج Coleridge عندما قرأ الكتاب كأن يدا عملاقة تستحوذ عليه؟هل بسبب ان كانط كان صائبا في كل شيء في انتقاداته الثلاثة؟ بالطبع كلا. لكن ذلك سيكون امرا خاطئا للبحث في أي فلسفة. على سبيل المثال، العديد لا يتفقون مع استنتاج كانط في نقد العقل العملي بأن الاخلاق بُنيت على قواعد يختارها الافراد لأنفسهم بحرية ، وانها يجب ان تُطاع بشكل ملزم "categorically". هذه سُميت الضرورات الحتمية فهي ملزمة قبليا و لا تهم طبيعة الموقف. هذه الطريقة الرسمية للغاية في النظر الى الاخلاق يصعب العيش بها. لكن هناك الكثير من التأييد لها لأن كانط يعبّر عن شيء هام حول طبيعة الاخلاق والتفكير الاخلاقي. بعمل كهذا هو طوّر النقاش الفلسفي ودفعه الى الامام . واذا كنا نقول اننا لا نستطيع اتّباع نظامه في حياتنا، فنحن في نفس الوقت لا نستطيع تجاهله في الاخلاق الفلسفية. والشيء ذاته يصح على نقد العقل الخالص، الذي غيّرت رؤاه الى الابد الطريقة التي نفكر بها حول كل من الميتافيزيقا والابستيمولوجي.

اخيرا، في نقد ملكة الحكم هو قام بعمل رائد ومتميز في طرح اسس للجماليات الفلسفية، والتي لاتزال صحيحة حتى اليوم. لذلك، بدلا من توقّع ان يعطينا أي كتاب فلسفي أجوبة نهائية، من المفيد جدا ان نقرأه كمساهمة تفتح لنا منظورات جديدة وتهيء الإمكانية للمزيد من الفلسفة.

الآن أصبحنا جاهزين تماما

الآن اصبحت لدينا بعض الافكار الاساسية عن خلفية كانط ومشاريعه، لذا نحن في موقف جيد بما يكفي للبدء بقرائته بما في ذلك ثلاثيته النقدية الصعبة. كل شيء آخر تحتاجه عليك ان تجلبه للحفل بنفسك. قراءة الفلسفة يجب دائما ان تكون عملية بطيئة، لذا فان الصبر هو احد الاشياء التي لا يمكننا الاستغناء عنها هنا. كانط مثل العديد من الفلاسفة الكبار، يدعونا للانخراط النقدي مع افكاره، لذا يجب ان نكون مستعدين للتفكير النشط على طول الخط. اخيرا، علينا ان نتخذ قرارنا حول قيمة مساهماته في زماننا الحالي. لكن يجب ان نقوم بذلك بطريقة مستنيرة وعقلانية. تلك هي الكيفية التي تفلسف بها كانط ولهذا يجب ان نكون نحن كذلك.

***

حاتم حميد محسن

.................

الهوامش

(1) الكاتبة Anja Steinbauer درست الفلسفة في جامعات هامبورغ و تايوان (NTNU) ولندن (SOAS) و كلية كنك في لندن. هي رئيسة منظمة الفلسفة للجميع.

 

في المثقف اليوم