أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الوعي الخالص مصطلح فلسفي وهمي

تراتيبية تصنيف الوعي

حسب تاريخ الفلسفة نستطيع عمل تراتيبية نوعية توصيفية زائفة لا معنى حقيقي لها بين ثلاث مصطلحات تم ويتم تداولها في الفلسفة الحديثة هي الوعي بما هو نتاج عقلي منفصل تماما عن القصدية والجوهر الخالص وهو توصيف خاطيء مشوّه للوعي كفاعلية عقلية. فحين تقول (وعي) فإنك بذلك أردت أم لم ترد تقصد به الذات العارفة في حمولتها الوصول الغائي نحو تحقيق هدف مرسوم بذهنك (قبل) الشروع بممارسة وعيك الاشياء والموجودات في عالمنا الخارجي. هذا اذا ما إعتبرنا الوعي بعدي على قبلي يسبقه هو الشيء الموجود المستقل بذاته بمعنى توفر موضوع الوعي الادراكي..

النوع الثاني من الوعي هو الوعي القصدي الذي تتحدد فاعليته الفلسفية الموجودية بحمولته القصدية الملازمة له أي لموضوعه وهي النسخة الكاربونية المستنسخة لما ذهبنا له قبل اسطر بفارق الافتتان بالتسمية المصطلحية فلسفيا.. كنت ذكرت في مقالتي السابقة أن مصطلح الوعي القصدي كان برينتانو ابتدعه ليتلقفه من بعده تلميذه هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية واشياعه اقطاب الوجودية الملحدة هيدجر وسارتر و وميرلوبونتي.

أما الوجودية المؤمنة فاقطابها هم ياسبرز وجبريل مارسيل رجل الدين اللاهوتي المسيحي الذي كان له تاثير فلسفي كبير جدا في مباحث فلسفية خارج نطاق مباحث الفلسفة الايمانية في الدين وخاصة في فلسفة الاغتراب. طالما قادنا هذا الاستطراد الى الوجودية فمن غير المعقول عدم التطرق الى رائد الوجودية الحديثة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجورد الذي توفي في ريعان شبابه اقل من اربعين سنة وكان متدينا مخلصا انكر العقل ليبشر بالايمان الديني القلبي ولا تزال هذه النظرية الايمانية سارية المفعول الى يومنا هذا. كان كيركجورد متاثرا بافكار كلا من نيتشة وهوسرل ومستنكرا افكار هيجل في الديالكتيك المثالي للتطور التاريخي. وضع كيركجورد اسس الفلسفة الوجودية بنقطتين هامتين جدا:

1. اعتبر الوجود سابقا على الماهية او الجوهر. وقد اخذت الماركسية بهذا المبدأ الاستراتيجي الهام الذي انكره وبشدة متطرفة اسبينوزا قائلا الجوهر او الماهية تسبق الوجود ونحن حسب قوله ندرك الوجود بدلالة الجوهر.

2. خالف سورين كيركجورد هيجل حول التطور الجدلي المثالي للتاريخ قائلا التاريخ لا يسير بحتمية المسار الخطّي كما يتوهم هيجل معاصره الذي تحركه عوامل موضوعية خارجية. بل التاريخ تحكمه القطوعات او القفزات النوعية التي تجعل التاريخ يتطور بخطى نوعية تطورية بتاثير من سيرورة الواقع. وبخصوص ماسماه كيركجورد القفزة التطورية النوعية في التاريخ سحب مقولته على محاربة العقل والانحياز للايمان القلبي. قائلا الايمان الديني لا يحققه التفكير العقلي بل يحتاج الانسان الى قفزة نوعية في المطلق الديني الذي مصدره القلب.   

اما النوع الثالث من الوعي فهو الوعي الخالص بمعنى هو ذلك الجوهر المفكر الذي يبحث عن معرفة الماهيات. بمعنييها الفلسفيين الاثنين الاول هو الماهية كجوهر مادي في المدركات العقلية والثاني الماهية كقيم وجدانية لا يدركها العقل بمباشرة موضوعية . وهذه تقيم وزنا كبيرا للسلوك النفسي الانفعالي الحدسي الذي مبعثه اللاشعور في تغليب العاطفة على العقل وهو ماتعتمده الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه... الوعي الخالص هو الوعي الذي يتعالى تراندستاليا إدراكيا ومعرفيا لما هو فوق محدودية الوعي الطبيعي في وعيه لمدركاته في عالم الاشياء وفي الطبيعة..

الوعي الخالص أول من إبتدعه  الفيلسوف اليساري المنشق عن هيجل برونو باور 1809 – 1882 في القرن التاسع عشر. هذا المصطلح الوعي الخالص هو ماتبنته الظاهراتية (الفينامينالوجيا) على لسان هوسرل في القرن العشرين الماضي. وحظي المصطلح باجماع فلسفي من قبل فلاسفة الوجودية باستثناء سارتر الذي اعتبره خرافة فلسفية دوغمائية لا تمتلك اسباب حضورها المعرفي الفلسفي. واقتنع بوجود وعي قصدي بالضرورة العقلية المعرفية للوعي. اما أن يكون الوعي خالصا كما ترغبه وتريده فينامينالوجيا هوسرل فإنه يخفق تحقيق مصداقيته المنهجية الفاهمة بسبيين الاول غياب الموضوع الذي يكافيء الوعي الخالص. الثاني هو في أي معيارية فلسفية وليست علمية تنكرها الفلسفة الظاهراتية يمكننا التأكد من ممارستنا الوعي الخالص.؟

اذا إفترضنا وردتنا الاجابة على تساؤلنا أن الوعي خالص بموضوعه الذي مصدره القيم بمعنى الماهيات التي هي ليست جواهر الاشياء التي يقصدها منهج الميتافيزيقا التي تستغني عن منهج العقل حيث يتعيّن الموجود بصفات خارجية تسمى العرض والى جوهر دفين خلفها تحتويه الصفات الخارجية هو الماهية ولا يكون موضوعا مباشرا لادراك العقل.. بهذا نكون وصلنا نصف الحقيقة بالرغم من ضعف هذا التعليل إذ أن الوعي مجردا من (صفة الخالص) هو وعي يمارسه كل الناس ولا يحمل صفة التعالي التراسندتالي الفلسفي المعرفي الذي تختص به النخبة. حتى فرق التصوف في جميع الاديان التوحيدية وغير التوحيدية في ممارساتها التسامي الروحاني الصوفي وفي مذهب وحدة الوجود الذي يجد فيه الصوفي روحه تقترب من النور الالهي. لا تاخذ بوجود وعي خالص يعلو وعي الانسان الطبيعة وموجوداتها. حتى مدارس الاديان الوثنية مثل صوفية الزن والبوذية وقبائل المايا الصوفية لا تعرف معنى ان يكون هناك وعي خالص.

الاجابة التي تكمل عندنا نصف الحقيقة الثانية حول تساؤلنا عن معيارية الوعي الخالص بغير موضوع ادراكه الذي هو الماهية التي هي (القيم) الوجدانية الانفعالية العاطفية والنفسية السلوكية التي تجاهر به الفلسفة الظاهراتية فتكون الاجابة هي عجز البرهنة الفلسفية عن وجود وعي خالص خارج البحث في الماهيات كقيم التي لا يدركها العقل المباشر وانما يدركها منهج الحدس الانفعالي الوجداني. علما أن من بديهيات الوعي الخالص او غير الخالص هو أنه يعي كل شيء كمواضيع تدركها الحواس ويتناولها العقل المعرفي بمقولاته التفسيرية.

الحقيقة أن الاشتقاقات المصطلحية بالفلسفة عديدة وتعتبر تلك الاشتقاقات تراكم خبرة معرفية فلسفية أ كثر منها حمولة تجديد إجتهاد معرفي فلسفي. ومن خصائص (المصطلح) الجوهرية التي ينفصل بها الوعي عن الميتافيزيقا انه متعيّن ادراكي مصدره المنتج له هو العقل المعرفي المادي بخلاف مصطلح (المفهوم) الذي هو كل ما ينبثق عن محاولة فهمنا الوجود بطرائق  ميتافيزيقية مسدودة ومقفلة النهايات. وكان المفهوم الميتافيزيقي لدى نيتشة مسخرة واصفا الوجود انه ميتافيزيقا لا معنى لها كمفهوم مضلل للعقل وكذا الحال عند كانط وهيوم وجون لوك وغيرهم. حيث انكر هيوم حتى وجود العقل قائلا لا وجود لما يسمى العقل واخذها عنه فيلسوف العقل واللغة الانكليزي جلبرت رايل توفي عام 1970. قائلا خذوها عن يقين أن لا تتوهموا وجود مايسمى عقل ابدا. الطريف بالامر ان فوكو واقطاب فلاسفة البنيوية المتاثرين بفلسفة مابعد الحداثة انكروا العقل واعتبروه الكارثة التي دفع الانسان ثمنها في حرب عالميتين ازهقت ارواح الملايين والمشوهين والمفقودين.

الانسان كائن ميتافيزيقي

انا أجد الانسان جوهرا ميتافيزيقيا كما هو جوهر عقلي تفكيري ناطق. والميتافيزيقيا جوهر فلسفي حاضر في تاريخ الفلسفة عبر عصور طويلة ولحد الان بما لا يمكننا التفكير المعرفي والفلسفي الا ونجد انفسنا سقطنا في مبحث الميتافيزيقا رغم ضراوة العداء والمقت الشديد للميتافيزيقا كمفهوم غيبي لا معنى وجودي له.. العديدون هم الذين يتقافز باذهانهم أن الميتافيزيقا المعرفية تخرج من تحت عباءة الدين واللاهوت حصرا وهو غير صحيح . الميتافيزيقا تبحث في كل مبحث بالوجود الذي يعيشه الانسان ويعجز العقل اعطاء إجابة عنه.

ماركس ومثالية المنهج

ماركس نتيجة تعلقه الشديد بالنزعة المادية وقف معارضا لكل من برونو باور في مصطلحه (الوعي الخالص) بما وجده ماركس أن المصطلح بما يمتاز به من سلبية  ونزعة ميتافيزيقية تتلبسه جدا وهو سبق يحسب لماركس حول رغبته وأد مصطلح الوعي الخالص بمهده.. بنفس وقت وقوفه اي ماركس وبشدة اكثرفي معارضته النزعة التأملية المثالية الدينية لدى فيورباخ خاصة بعد أن اصدر هذا الاخير ثلاثة كتب تدور حول مركزية اصول الدين في علاقة الطبيعة بالانسان. أهمها كتابيه الشهيرين (اصل الدين)  والثاني (جوهر المسيحية ).

ماركس كانت مهمته الفلسفية وهو شاب تعلقه الشديد بوجوب البحث عن مصير الانسان على الارض وليس البحث عن مصيره دون جدوى في السماء. معتبرا طروحات كلا من شتيرنر وباور صادرة عن فلاسفة هم بقايا الفكر الهيجلي المثالي الذي تتلمذوا عليه من قبل استاذهم هيجل..

اما بخصوص فيورباخ المادي فقد كان ماركس معجبا به انه يفكر بالفلسفة تفكيرا ماديا في تعلقه بالطبيعة وميتافيزيقا التفكير الانساني على انهما مصدر الدين. ورغم أن ماركس استمد مادية فيورباخ وأخذها عنه معترفا بما قام به في توصله بمساعدة رفيق دربه الفلسفي انجلز الى الجدل المادي الذي يحكم التاريخ بما اطلق عليه مصطلح (المادية التاريخية) التي يحكم جدلها الديالكتيكي تطور التاريخ.. ورغم كل إعجاب ماركس بفلسفة فيورباخ التأملية الصوفية الا أنه أي ماركس اصدر كتابه الشديد القسوة بالضد من فويرباخ اسماه (اطروحات عن فيورباخ ) يضم 13 اطروحة ينتقد بها ماركس حسبما يذكر الباحث اليساري ثامر الصفار( النزعة الانسانية اللاتاريخية) عند فيورباخ. وجدت مخطوطة الاطروحات بعد وفاة ماركس ونشرها انجلز.

الحقيقة أن فيورباخ كان ذا نزعة انسانية تاريخية مركزيتها التي تطيّر منها ماركس هو طابعها (الديني) التصوفي التأملي التي تحاول المزج في توليفة واحدة بين الدين والانسان والطبيعة معتبرا فويرباخ ثلاثتهم جوهرا واحد يسمى الاله الذي إخترعه الانسان في البحث عن ذاته الوجودية فوجد بالنتيجة نفسه انه هو (الاله)..

لكن ما أثار حفيظة ماركس على هذه التوليفة التي ارادها فويرباخ أنها تمزج بين الطبيعة والدين في تأمل فلسفي مثالي لاثوري غير واقعي حسب اتهام ماركس لها. ماركس وهو ما يؤكده تاريخ حياته ولد من أجل ان يكون (ثوريا) ومشاكسا سياسيا عنيدا مبدئيا في حمله هموم كيف يصبح العالم انسانيا خاليا من الفقر والتمايز الطبقي؟ ولاقى من أجل ذلك الكثير من الاضطهاد والابعاد والطرد في بلدان عديدة ليستقر آخر سني حياته في حي سوهو بلندن وكان اواخر حياته يكتب واقفا لا يستطيع الجلوس بسبب التقرحات التي ملأت جسمه ولا يملك نقود علاجها.

ومن المفارقة التي ذكرها كثيرون أن أعظم فيلسوف كتب عن إدانته اللاانسانية للفقر ومعاناة الانسان بسببه هو ماركس الذي مات معدما وفقيرا مدقعا وكان يرى اولاده يتساقطون بالمرض ويموتون امامه بسبب الفقر حتى يروى انه اثناء دفن احد اولاده اراد إلقاء نفسه بالقبر خلف ولده ومات مديونا لبائع يشتري منه البطاطا وبعض الغذاء. ولم يكن تهمّه مباحث الفلسفة التي وجد فيها أنها تحاول تفسير العالم وليس تغييره الانساني المطلوب. أذكر بختام هذه الفقرة عبارة رائعة للفيلسوف الانكليزي برنارد شو قوله الفقر هو أم كل الرذائل.

فريجة وهوسرل والرياضيات بالفلسفة

تذكر مصادر فلسفية ان هوسرل لم يمر مثل غيره من الفلاسفة اليساريين المنشقين عن هيجل بما سمي حينها المرحلة الهيجلية المثالية. بالحقيقة كان طغيان افكار هيجل بالجامعات الالمانية بوجود تلامذة نوابغ له مثل ماركس وفيورباخ ما جعل شوبنهاور المعاصر له يعتزل في فندق مع كلب له حتى وجدوه ميتا على كرسيه من غيضه وكرهه لهيجل.

المصادر تشير الى أن هوسرل بقي ذو نزعة علمية بالفلسفة قادته الى طرح نظرية وجوب جعل الفلسفة علما بالرياضيات يوازي العلوم الطبيعية. الجدير ذكره يصبح من الغرابة جدا مثل هذا النزوع الظاهراتي المتناقض السقوط في مطب ميتافيزيقا الظاهراتية التي حملت اسم هوسرل وإلا فما معنى أن ترفع الظاهراتية انها فلسفة تعنى بدراسة الماهيات كقيم بمنهج الحدس الوجداني الانفعالي؟

الجدير بالذكر انه بالفلسفة عامة وفي العلوم وفي مباحث الفلسفة لا تاتي خبرة معرفية من لا شيء سابق عليها. الخبرة تراكم معرفي وما طرحه هوسرل حول جعل الفلسفة علما من علوم الرياضيات كان بعمله مهد الطريق امام فلاسفة الوضعية المنطقية التجريبية حلقة اكسفورد الانجليزية اقطابها بيرتراند رسل ونورث وايتهيد وجورج مور وكارناب وفينجشتين المتأخر تبنيهم مقولة يجب ان تكون الفلسفة علما من علوم الرياضيات.

الحقيقة ان الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة هو صاحب إحياء فكرة هوسرل غير الجديدة على الفلسفة في تقهقر وتراجع الفلسفة امام التقدم العلمي المتسارع.  مخاطبا فريجة اعضاء الوضعية الانجليزية انه اصبح من المخجل ان الفلسفة لا تكون علما من علوم الرياضيات مرتكزها توليفة علوم الرياضيات مع المنطق وفلسفة اللغة. امام صعقة فريجة هذه قام كلا من بيرتراندرسل وعالم الرياضيات الشهير في القرن العشرين عضو الوضعية الانجليزية نورث وايتهيد تاليفهم كتابهما المشترك عام 1906 على الارجح اسمه ( مباديء الرياضيات) الذي استغرقا بتاليفه ثلاثة سنوات.

في اعقاب الاهتمام الهامشي فلسفيا بالكتاب بدأ النزاع ينخر الوضعية المنطقية الانجليزية حيث احتدم الخلاف بين راسل وفينجشتين , وكذلك بين جورج مور يؤيده كارناب في ضرورة ترك تطويع علم الرياضيات والمنطق للفلسفة والاهتمام بفلسفة اللغة واللسانيات كما يفعل الفلاسفة الاميركان ريتشارد رورتي وسيلارز وجون سيرل. وصل اختلاف جورج مور مع اعضاء الوضعية ان قال لهم اجعلوا لغة الفلسفة يتكلمها الناس في الشوارع وفي اسواقهم واماكن تجمعهم.

للمقال صلة ببحوث سابقة وصلة بحث لاحقة

***

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم