أقلام حرة

الإنتقال من إنتصار تكتيكي إلى الإنتصار المبدئي

 بل ولأنها لم تنته بالفعل، فهناك ملاحظات عديدة توجب الإنتباه إليها.

بدأً نقول أن هذا الإصطدام يعلم الحكومة كيف يجب أن تتعامل مع الأمريكان عندما تريد أن تحتفظ بسيادتها. ومن ناحية ثانية يجب التنبيه إلى أن أميركا قد لا تنسى الهزيمة بسهولة ويجب الإستعداد لذلك. وكذلك يجب عدم الذهاب بعيداً، والقيام باجتثاثات خاطئة، من النوع الذي يخشى أن تكون النجف وأمانة بغداد وغيرها تتجه إليه، فتحرق الأخضر باليابس، وتحول النصر إلى هزيمة بردود فعل مرعوبة.

 

وبعيداً عن هذين التحذيرين، أود الإطمئنان على المحتوى المبدئي لذلك الإنتصار، لنعرف كيف نتوقع المستقبل.

 

الغضب من حقيقة "أن السفير الأمريكي هو الذي نقل قرار الهيئة التمييزة"، غضب مبرر لولا أن له سوابق لم تثر هذا الغضب. فكونداليزا رايس هي التي أعلنت للعالم أن الشعب العراقي قد صوت بالموافقة على الدستور، وليس اللجنة العراقية المختصة.

 

والغضب من دخول السفير الأمريكي أو ممثل الأمم المتحدة إلى الهيئة التمييزية، وتسليطه الضغط عليها، له ما يبرره بكل تأكيد، لولا أن السفيرين الأمريكي والبريطاني كانا قبل أيام يتجولان بكل راحة، ويومياً في قاعات البرلمان، ورغم ما قد يتسبب فيه ذلك من ضغوط وإرهاب لخيارات ونقاشات البرلمانيين والضغط عليهم لتعديلها لتكون أكثر قبولاً أو أقل حدة تجاه المواقف الأمريكية..

 

نريد أن نصدق، انه صوت الكرامة العراقية وهو يهتف بأنه "ربما يطرد السفير الأمريكي" ما لم يتبين أنها زوبعة انتخابات، كما وصفها أحد البرلمانيين، خاصة وأن السفراء الأمريكان كانوا دائماً يتصرفون بطرق تستدعي طردهم، وخاصة أول سفير أميركي في العراق، كان خبير إنشاء خلايا الإرهاب الكبير "جون نيكروبونتي" الذي يطرده المتظاهرون حيثما حل، لجرائمه المروعة في أميركا الجنوبية، وعلى الأغلب نقل تجربته للعراق، والذي طالبت أنا بطرده فور تعيينه، لكن أحداً لم يحاول أن يعترض عليه.

 

الغضب، إن كان فعلاُ من أجل استقلالية القضاء والسياسة العراقية فهو يتطلب الإحتجاج فور اكتشاف السفير يضغط على على الهيئة التمييزية لأربعة ساعات. أما تمشية الأمر حتى ظهور النتائج، ثم الغضب، فهو ما يثير الريبة في المبدأ. ويبدو للمرء أن ما أثار الإحتجاج "على الضغط" لم يكن "الضغط" نفسه، وإنما نتائجه التي لم تكن تناسب المحتجين.

 

والغضب من انتهاك الدستور من قبل الهيئة التمييزية سيكون موضع ترحيب وسرور أكبر لو أن مثل هذا الغضب كان متواجداً أيضاً ساعة مدد رئيس الوزراء قانون الطوارئ بدون علم البرلمان. وأكثر من ذلك تمرير الإتفاقية مع بريطانيا رغم احتجاج البعض على عدم اكتمال النصاب القانوني، وكأن حساب النصاب القانوني صعب على البرلمان، أو أن تمرير قرار بدون نصاب قانوني، أمر هين لا خطورة فيه.

 

وكان احترام إرادة الشعب في رفض ترشيح الأشخاص الذين يصرون على إهانة هذا الشعب بتقديم الإحترام والولاء العلني لتأريخ البعث شديد السواد، ونكأ جروح عميقة في ذاكرته، كان هذا الإحترام لإرادة الشعب سيثير غبطتنا أكثر لو أن هذا الإحترام كان متواجداً حين مررت المعاهدة الأمريكية، خاصة بصيغتها الإطارية السرية، بالرغم من إرادة الشعب، بل وبعد تهديده حتى بالقراصنة.

 

وكان استقلال القرار العراقي سيكون موضع حبورنا لو أن سياسيونا منعوا كونداليزا رايس من التدخل الفج، حين جاءت تبدل رئيس الوزراء قبل بضعة أعوام. حينها هلل الرئيس الطالباني للمتدخل الأمريكي، مثلما هلل اليوم قبل غيره له.

 

لو أن كل ذلك حدث، لصدقنا بأن استقلال القرار العراقي محترم، وأن الدستور مقدس لا يجرؤ أحد على مسه، وأن السفير الذي يتدخل يتم محاسبته وربما طرده! وأن القانون محترم وأن الهيئات لها حرمتها، ولطردت الهيئة التمييزية بنفسها السفير الصلف وتدخله المهين. لكن ما أدراها أن هذه المرة ستختلف عن كل مرة، وأننا سنغضب هذه المرة ونصرخ بالكرامة واستقلال القرار القضائي والسياسي وحمايته من التأثير؟

 

لا أريد هنا بالتأكيد أن أقلل من شأن الإنتصار الكبير الذي حدث، بل بالعكس، أن ما يدفعني للكتابة هو السعادة والأمل. فاليوم أحس العراقي لأول مرة أن لديه حكومة يمكن أن تقول "لا" في وجه الصلافة الأمريكية. وأن القوانين والأعراف لا تعوّج، حسب رغبة الجانب الأمريكي، وأن السفير ليس أعلى من رئيس حكومة، عندما يكون الأول أمريكياً والثاني عراقي. لا أريد إثارة الماضي من أجل الإحباط، بل أن في داخلي أمل كبير أن يبدأ هذا الإنتصار التكتيكي، مرحلة الإنتقال أو الإقتراب من الإنتصار المبدئي، حيث يصبح كل تدخل مرفوض قبل أن تعرف نتائجه، وكل مخالفة للدستور تستدعي المحاسبة قبل أن نعرف من القائم بها ولماذا.

 

فالسؤال ليس محسوماً في ذهن العراقي بعد: في المرة القادمة، لو تدخل السفير الأمريكي، هل سيتم وقفه عند حده؟ أم أن موازين المصالح هي التي حددت النتيجة هذه المرة، وقد تحدد نتيجة أخرى في المرة القادمة؟ هل سيصدر قانون يمنع السفراء من دخول البرلمان والإجتماع بالهيئات السياسية بدون علم وموافقة وإشراف الجهات المختصة من النظام السياسي العراقي؟ هل سيكون مستحيلاً أن يعلن أمريكي أو بريطاني قرار هيئة عراقية قبل أن تعلنه تلك الهيئة، وهل سيصل القرار إلى السفارة قبل أن يصل الحكومة العراقية والمعنيين؟ هل سيتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لإحصاء النصاب، وبشكل يستحيل معه الخطأ أو الإهمال، وبحيث يستطيع العراقي أن يرى من المحق والمخطئ؟ هل سيكون هناك رادع من القوة ما يكفي لكي يلتزم رئيس البرلمان بذلك حتى لو أراد عكسه؟

 

إنها أمنيات كبيرة يثيرها فينا الإنتصار الذي حققته اليوم الحكومة العراقية والكتل الكبرى في إحباط مؤامرة التدخل الأمريكية لكي تضع في العراق حكومة ومؤسسات تضمن لها أن تسيّر مصالحها وليس مصالح البلد، خاصة في الفترة المصيرية بالنسبة لتنفيذ معاهدة سحب القوات. كان الرفض واضحاً قوياً حتى أن أميركا والسائرون بأوامرها قد ارتدعوا عن مخططاتهم ولم يعودوا يثيروا حتى ضجيجاً كبيراً.

 

ليكن هذا الإنتصار التكتيكي، أيضاً فاتحة أنتصارات مبدئية تضع أسساً للحكم طال افتقادها، وتعطي للشعب ثقة بنظامه وحكومته واعتزازاً ببلاده لغسل هذا الشعور الثقيل بالدونية عن كاهله. إنها مسألة حرجة ولحظة خيار خطيرة ستقرر الكثير الكثير لمستقبل البلاد، فلنعمل ولنضغط ولنصر على أن نسجل انتصاراً مبدئياً حقيقياً، يتمثل في تثبيت قيم السيادة والحضارة بشكل قوانين واضحة!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1312 الثلاثاء 09/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم