أقلام حرة

العمارة : مآساة مدينة سومرية، تُبكي الحجر قبل البشر !

وتنساب صوب أرشيفها المغروس بألواح الطين في أحشائها. فتتململ حروفها المسمارية تغربا، من عار هذا الزمان.

أهوارك عطشى.

وبساتينك تبكي ترمل نخيلها.

ودجلة بين الحياة والموت تضمد جفافها.

ميسان هيهات منك الذلة !

يا قمراَ في سماء العراق

وشمساً في غياهب دجاه

ذاك هو عرشك، محفوظاً مع أول خيوط الفجر الآتي...

 

ميسان، العمارة، مدينة سومرية من عمق التاريخ. رحمها عامر وولاد. أنجبت للعراق، أولى المفاخر من الحضارات. وعلمت البشرية أنواع الزراعات. وفن الكتابة على الطين والبردي، لوحات آزليات. وذاع صيتها بين الأحياء والأموات. وكتب عن مناقبها، الأعداء قبل الأصدقاء. وتغنى بها فحول الشعراء. وأنشد لها، أسياد الطرب والغناء.

كيف لا، وميسان هي التي من رحمها أنجبت أحرار وأوفياء.

هي موطن الآلهة الأولى. مدينة القصب والسكر والبردي والنخيل وأجود أنواع التمور. كريمة هي ّ بمياهها الجوفية، وبمستعمراتها المائية و بنهر دجلة الآزل، وبأسماكها وطيورها المتنوعة النادرة. وبسمائها الحبلى على الدوام بنعمة المطر، أما نسائمها ومروجها وسهولها ومراعيها وبتنوع خيراتها الحيوانية، فحدث بلا حرج.

وفيها من خصوبة التربة، ما هو كفيل بأطعام جياع الدنيا وجياع سكان عطارد وزحل والزهرة وحتى المريخ أذا نخاها!

وميسان : جزيرة عائمة على بحيرات نفط وغاز، وبوفرة في باطنها المعطاء.

 

مدينتنا السومرية، ميسان، متعددة الأعراق والأديان، تتزاوج فيها وبثراء ووئام وتناغم، ثقافات متعددة. عربية أصيلة وفارسية وتركية ولورية وكورية وهندية.

مدينة سباقة بالتضحيات. دفعت بأبناءها الى ميادين النضال والسياسة والأحزاب. الكثر من بناتها وأبناءها، أنخرطوا في الحركات القومية والأسلامية والشيوعية. ولم تبخل في تقديم خيرت أبناءها، قرابين فداء للهوية، وتحت يافطة تلك المسميات أعلاه. التي لم يكن هم زعاماتها وللأسف، سوى حشد الأعداد من الأتباع ! دون أن يكون لها بوصلة وطنية حقيقية مجردة من الأنانية والذاتية. لتأخذ بيدهم الى بر الأمان، في حياة حرة آدمية متحضرة. تليق بعطاءهم وتضحياتهم وغنى ثرواتهم، البشرية والمادية.

ميسان : تتوفر فيها كل المقومات والركائز، الى منافسة أرقى المدن العمرانية والتجارية والسياحية في المنطقة وحتى خارج حدود منطقتها.

فليست دبي أو الدوحة أو الشارقة، أكثر منها غنى بالخيرات أوالموارد ولا أعرق منها بالحضارة والأصالة. لاكنها تفوقت عليها ببوصلة الزعامات وأراداتها ليس الا !

 

الساسة الجدد، المحليون كما في المركز، الذين جاءت بهم أمبراطورية الشر لحكم العراق. كلهم ودون أستثناء، أستغلوا مظلومية ميسان.

فماذا فعلوا بعد أن جيء بهم الى العرش طوال سبعة أعوام ؟

أجتثوا الجهاز الأداري المحلي القديم، وجاءوا بطاقم أداري جديد من وحي المحاصصة الطائفية التي أعتمدوها أساس لحكمهم. طاقم أداري جديد شره في فساده. عطل كل أمكانية للنهوض بهذه المدينة المنكوبة.

أستشرى الفساد والسرقة والنهب للمال العام في جميع المفاصل الأدارية. سيما منها المرتبط بالخدمات المباشرة ذا الصلة بالحياة اليومية للميسانيين. وطال أيضا البنية والقاعدة الصناعية والأقتصادية للمدينة. التي كانت بنيتها التحتية موجوة أصلا، وكان يعول عليها في مشاريع مطورة لاحقة. للنهوض بواقعها التنموي.

فمصنع الورق و مصنع البلاستيك ومصنع قصب السكر، ومعامل الحجر والمرمر والطابوق والمشروبات الغازية. معامل ومصانع شبه معطلة. بسبب من عمليات الأختلاس والسرقة والنهب وأنعدام الأدامة والصيانة والتجهيزات الحديثة. والحال نفسه ينسحب وبذات التفاصيل

على مصفى المدينة للمنتجات والمشتقات النفطية. الذي كانت طاقته الأنتاجية قبل الأحتلال حوالي خمسة وعشرين الف برميل يوميا، حسب أرقام المقارنة لوزارة النفط الحالية، واليوم لاتتجاوز أنتاجيته أكثر من عشرة الف برميل يوميا، حسب نفس المصدر. هذا بالأضافة الى أنخفاض أنتاج حقول النفط العاملة ولنفس الأسباب أعلاه.

زد على هذه الكوارث كارثة مضافة، تتمثل بسرقت النفطين الخام ومشتقاته وبيعه بالأسواق السوداء، في وضح النهار وعلى مرآى من أبناء المدينة، عينك عينك،! وفوق هذا وذاك من الكوارث المحدقة بالمدينة تأتي الطامة الكبرى، في أستباحة المواقع الآثرية لمملكة ميسان. تلك المكتشفة والمعلمة والمسيجة، قبل الاحتلال والتي تنتظر دورها في أستخراج كنوزها الآثرية التاريخية التي تحكي تاريخ حضارة لمدينة عريقة وشعب أعرق. ولكم أن تتصوروا هول الفاجعة !

 

أن الزائر للمدينة ينصدم منذ الوهلة الأولى، بمظاهر البؤس والشقاء والحرمان. فلا تتوفر في المدينة فنادق أو مطاعم أو حتى مقاهي. ممكن أن تجذب أي زائر أو سائح. حتى وأن كان هذا الزائر قادم من أرض الصومال !

أما شوارعها وأرصفتها ومستعمرات القمامة فيها، فتجعلك تظن أنك في مدينة من مدن المجاعة النائية في أفريقيا ! أما أحياءها، فعبارة عن عشوائيات مبعثرة وبدائية، ولا توحي بأي مسحة حضرية.

 

أن هذا الحال المخزي والمبكي، لا يختصر على مدينة ميسان. بل يشمل قاطبة مدن الجنوب، وأن كان بدرجات متفاوتة نسبيا. وتمثل مدينة العمارة أقسى وأشد صورها البائسة. والحل مرتبط جذريا بزعامات الحكومة المركزية في بغداد. التي تعاني من مرض مزمن، هو فقدان البوصلة الوطنية الحقة !

 

حبيب محمد تقي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1316 السبت 13/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم