أقلام حرة

عولمة المطاعم الفرنسية

رئيس بلدية مدينة (روبيه) والمنتمي للحزب الاشتراكي الفرنسي من سلسلة مطاعم (كويك) البلجيكية للوجبات السريعة التي تقدم اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية حصريا في ثمانية فروع تابعة لسلسلتها في هذه المدينة التي تتميز بكثافتها السكانية الإسلامية. وقيامه برفع دعوى قضائية ضد هذه المطاعم لدى السلطات القضائية الفرنسية. ويذكر أن فروع مطاعم "كويك" الشهيرة منتشرة  في عدة بلدان أوروبية منها فرنسا وبلجيكا وهي تنافس اكبر مطاعم الوجبات السريعة هناك مثل "برجر كنج" و"ماك دونالدز".

ورغم أن هذه اللحوم التي يدعون أنها مذبوحة وفق الطريقة الإسلامية لا تمتاز عن باقي اللحوم الفرنسية بشيء سوى بطريقة ذبح الحيوان، هذا إن صح أنهم يلتزمون حرفيا بشرائط الذباحة، إلا أن السيد العمدة أعتبر هذا السلوك عملا مشينا مخالفا لنهج العلمانية الفرنسي لأنه كما يدعي: {من غير المقبول استثناء خيارات لا ترضي إلا أذواق المسلمين مستثنية غير المسلمين من حساباتها} ولذا أعلن للصحافة انه يطالب الفروع الثمانية بتقديم عدة خيارات {تستجيب لأذواق أوسع شريحة ممكنة من الزبائن} وكأن أذواق المسلمين الفرنسيين  تختلف عن غيرهم!

إن سبب المشكلة الحقيقي هو قيام فروع المطعم الثمانية في المدينة في شهر تشرين الأول الماضي باستبدال شرائح "البيكن"المعمولة من لحم الخنزير بشرائح معمولة من لحم البقر المدخن، تزامنا مع النمو المتسارع لسوق المنتجات الحلال في فرنسا وتهافت الشباب على هذه الأسواق الذي يدل على أنهم لم يستوعبوا الثقافة الفرنسية العلمانية بعد وكأنهم يعتزون بأصولهم الإسلامية ويتمسكون بها، وبالتالي يبدون غير مستعدين للاندماج بالمجتمع الفرنسي!

من الناحية العقلانية لا يوجد مبرر لهذه الثورة الغاضبة لأن هذا العمل بحد ذاته لا يؤثر على سير العلمانية الفرنسية، بقدر ما فيه من تأكيد على تمايز الأذواق، هذا الأمر المشروع الذي لا يتعارض مع أي قيم مجتمعية ما دام يسير وفق سنن المجتمع. إن المطاعم التي يمتاز مالكوها بالخبرة التجارية ويبحثون عن فرص توفر لهم الحد الأعلى من الربح في حرب المنافسة التي يخوضونها ضد المطاعم الأخرى استغلوا هذا التمايز لتحقيق المرابح. وهذه المطاعم عادة ليست  إسلامية ولا يملها إسلاميون بل فرنسيين مسيحيين امتهنوا تجارة المواد الغذائية ويحلمون بتحقيق الربح الوفير ولاسيما أن عدد المسلمين في فرنسا تجاوز الخمسة ملايين وهو رقم ليس هينا ويمكن أن يحقق لمن يستغله مكاسب ليست في الحسبان. وهو ما أكده (عباس بندلي) مدير التسويق لدى شركة (سوليس) الباريسية بقوله : { إن قرار "كويك" ليس إلا محاولة تجارية لمنافسة المطاعم الصغيرة الأخرى التي أصبحت منتشرة بكثرة والتي تقدم لحم الحلال استجابة لمتطلبات 5.5 مليون مسلم يعيشون في فرنسا، والشركات الكبيرة أصبحت تدرك حجم المستهلكين المسلمين ونمو عددهم عاما بعد عام.}

ولكن الفرنسيين المشهورين بتحسسهم الكبير من الرموز الدينية عامة والإسلامية خاصة اعتبروا هذا التصرف منافيا لمباديء الجمهورية الفرنسية حيث نقلت الوكالة  عن وزير الزراعة الفرنسي (برونو لومير) قوله  لصحيفة (الفيجارو): {إن حجب كل ما ليس حلال من مطاعم مفتوحة للعامة يجعلها تميز على أساس طائفي أو ديني وهذا يتنافى مع مبادئ الجمهورية الفرنسية.}

إن هذه الأعمال الاستفزازية رغم بساطتها تدل على أن العولمة وصلت اليوم إلى مرحلة متقدمة في طريق سيرورتها وأصبحت لها يد طولى التي تتحكم بواسطتها في مقاليد الأمور في العالم كله، واهتمام الغربيين بهذه الفرعيات البسيطة يدل على أنهم عازمون على التدخل في كافة مفاصل الحياة  وفي أدق شعيراتها  ليس في مجتمعاتهم ودولهم فحسب وإنما في العالم كله، أي أننا سنجد أنفسنا في القريب العاجل محكومون بإكراهات العولمة وسطوتها بحيث لا نستطيع التحكم حتى بطريقة نشأة أبنائنا أو طرائق تدريس المواد في مدارسنا وجامعاتنا أو في طريقة نشأة بناتنا وأسرنا.

إن هذا العمل يأتي ضمن سلسلة من الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها الدول الأوربية ضد الإسلام والمسلمين سواء بمنع الحجاب أو بمنع بناء مآذن للمساجد أو بمنع التعليم الديني أو بتشجيع الفتيات المسلمات على التخلي عن عوائلهن والالتحاق بالمؤسسات الغربية أو بمنع ترجمة القرآن أو بنشر الصور المسيئة وحتى بالمحاربة العلني لكل ما هو إسلامي.

 وبالمحصلة أرى أننا شعوبا وبلدانا أصبحنا أمام خيار صعب وتحد حقيقي كبير جدا لا قدرة لأي منا على مواجهته بمفرده، مما يستوجب منا التفكير جديا بطرائق جديدة للتواصل البيني سواء كان سياسيا أو تجاريا أو صناعيا لكي نصبح كتلة لها قدرة التصدي وفرض الرأي وألا فإن عجلة العولمة سوف تسحقنا وتشوه كل ما نقدسه ونعتز به ونحن لا حول لنا ولا قوة.

 ولكن هل من سامع ومجيب أم أن قياداتنا الدينية والمدنية أموات لن يسمعوا مهما علت الأصوات لتصدق مقولة (ولقد أسمعت لو ناديت حيا)

 

صالح الطائي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1323 السبت 20/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم