أقلام حرة

كان أجمل أبنائي..

حلق ذقنه وتعطّر ولبس بدلته الجديدة وتأنق في اختيار ألوانه وغادر المنزل وكأنه عريس ليلة زفافه...كم تمنيت أن يتحقق ذلك اليوم .. عند المساء رنّ جرس الهاتف ليتحدث صوت ويخبرني بأن ولدي قد أصيب برصاصات وأنه قد فارق الحياة ويدعوني للحضور إلى المستشفى لتسلّم الجثة... مضيفا : معذرة سّيدتي، هذا يحصل كل يوم ....إنها أشياء الحياة ... تعازيّ الخالصة" كان نجما فهوى وكل الأولاد نجوم في عيون والديهم .....وانطوت حياته وكأنها صفحة من كتاب...

كنت استمع إلى هذه الأم الثكلى ويتجدّد لديّ يقين بأن أصدق المشاهد تغيب عنها عين الكاميرا ولا يخطؤها القلب "ولد في الخارج وكنت حريصة على أن لا يفقد صلته بوطنه وهويته وهو ما جعلني أصرّ على أن يتم تعليمه الابتدائي وقسما من الثانوي في بلاده فنشأ متزنا منضبطا مهذبا جدّيا متسامحا محبوبا من الجميع وكنت أرى شبابه يتفتّح كالوردة يوما بعد يوم ورجولته تكتمل سنة بعد أخرى فيمتلئ قلبي غبطة وينتعش الأمل في حقل عمري وكنت أقول : قد عوض الله صبري على فقد والده بعد أن لم أجد من يقف إلى جانبي... ثم فجأة تسقط كل تلك التّضحيات والآمال برصاصات طائشة أطلقت عليه خطأ أثناء معركة تصفية حسابات...."

ألا تعرفون أخوي الكبير؟....

الم تسمعوا عنه...

عن خيزرانة نور...

صب شامخ كله وشباب

وناي أغان وقارورة من عبير

وهبّة بأس بوجه الصعاب

وأجمل وجه وأحلى ثياب

وسن ضحوك يفتح قدّامه كل باب1

الدنيا يومان: يوم فرح ويوم ترح والناس جميعا على سفر دائم والرّحلة تبدأ من عتبة البيت، بل من عقر الدار، والموت أقرب إلى الحي من قميصه..وإذا كانت أعظم وأغلى عطية "الحياة" معرّضة للانطفاء في كل لحظة كأنّها  شمعة في الرّيح  فما هو أقل منها لا يستحق التفجّع.... والحياة قصيرة جدا.... كثير من المتاعب.. كثير من الآمال.... ثم مساء الخير يا أهل الخير.. وتركتكم بأمان يا أهل العدوان ؟... ولا تستوي الحسنة ولا السيئة... ويلوح من تلك الناحية المضيئة ذاك الشاعر المفلق المتنبّي منشدا:

أرق على أرق ومثلي يـــــأرق                  وجوى يزيد وعبرة تترقرق

جهد الصبابة أن تكون كما أرى                 عين مسهّدة وقلب يخفق

مالاح برق أو ترنّــــم طائـــــــر                إلا إنثنيت ولي فؤاد شيّق

جرّبت من نار الهوى ما تنطفي                 نار الغضى وتكلّ عمّا تحرق

وعذلت أهل العشق حتّى ذقته          فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وعذرتهم وعرفت ذنبي        أنّني              عيّرتهم فلقيت فيه ما لقوا

أبني أبينا نحن أهل منـــــازل                   أبدا غراب البين فيها ينعق

نبكي على الدّنيا وما من معشر                  جمعتهم الدّنيا فلم يتفرّقوا                  

ولقد بكيت على الشباب ولمّتي                  مسوّدة ولماء وجهي رونق...

حذرا عليه قبل يوم فراقــــــــــه                 حتى كدت بدمع عيني أشرق

 والموت آت والنفوس نفائس                    والمستغرّّ بما لديه الأحمق

في الوقت الذي يعود فيه المهاجرون إلى مسقط الرأس وأرض الأجداد ليحضنوا الأحباب بعد اغتراب وليغنموا لحظات وصال تعيد للقلب اخضراره.... يمعن ذلك المهاجر في الغياب ويتوغّل في الحضور حينما تنصب مائدة الطعام ويجتمع الشمل... حينما تفتح غرفته فينبعث منها صخب الأشياء.... أشياؤه.... ويتضوع في المكان العطر.... عطره... ويتجلى في البال جمال الحضور الذي كان حضوره...

خذيني أمي

 اذا ما رجعت وقودا لتنور نارك

وحبل غسيل على سطح دارك

عساني أصير إلاها...

إلاها أصير...

إذا ما لمست قراره قلبك أمي

...........

وأعشق عمري

لأني إذ مت أخجل من دمع أمي 2

كم أتذكرالسيّد سيمون  ذلك الأستاذ الفرنسيّ المتعاون الذي علّمنا حبّ اللغة الفرنسية قبل أن نتعلم قواعدها وطرّز ذاكرة الطفل فينا بلوحات أدبيّة و إنسانيّة تتوهّج على الأيّام ...حينما قال لنا ذات درس.. ذات نزهة في المعاني " لتدركوا الفرق بين البحر والأم.. البحر الذي هو المحيط والأم التي ولدتنا (البحر والأم في اللغة الفرنسية ينطقان بنفس الكيفيّة ونفس الحروف   Mèreأم / بحرMer) كونوا واثقين بأن قلب الأم أكبر من البحر..." ومن قال بأن البحر أرحب من قلب الأم!؟... ولا يسبر غور قلب الأم إلا الخالق العظيم...

أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها

ثم عاد مستشهدا...

فبكت دمعتين ووردة

ولم تنزو في ثياب الحداد...

لهذه الأم و لكلّ أمّ فقدت حبيبا هو فلذة تسعى  نقول: أعظم الله أجرك وعوّض صبرك ورحم فلذة كبدك وكلنا أولادك وقبلة على جبينك يا.. أم الشهيد..

 

......................

-     1 توفيق زيّاد

-     2 محمود درويش

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1325 الاثنين 22/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم