أقلام حرة

لازال الغفاري منفيا

مختلف المذاهب والملل والنحل وتبارت في تعظيم وتاليه رموزها وقادتها وشيوخها  ومرجعياتها الحي منها والميت وكأنها لازالت تعيش أجواء عكاظ وأيام المعلقات حيث أغدقت الأموال وأطنبت في الأقوال وتبارت في تعظيم مراقد ومساجد ومعابد ومقامات الأموات ولسنا بصدد نقد وتقييم وتشريح مثل هذه الظواهر التي طالما مارستها كل ديانات وشعوب الأرض ضمن عقلية وفلسفة المقدس والرمز والقائد الديني والدنيوي ولكننا هنا نريد ان نشير ان لااشكال في تصوير وتبجيل الرمز ولكن الإشكالية الكبرى في الباسها ثوب القداسة والعصمة وخصوصا لبعض القادة السياسيين ومن اجل هدف مستتر وليس خفي الاوهو نقل صفة العصمة والقداسة والعظمة من الرمز الزائل إلى البديل الماثل وخصوصا بالنسبة للزعامات المتوارثة في الأنظمة السياسية اللاديمقراطية. ان هذه الممارسات والأفعال تبدو وكأنها سلوكيات عادية وتدل على عظمة المقدس والمقلد ولذلك استحق كل هذا التقديس والتبجيل والتاريخ يحكي عن الكثير من هذه النماذج من أباطرة وفراعنة ومستبدين حاولت السلطات الحاكمة ان تزرع تقديسهم في الخيال الشعبي ولكن مايدحض هذا الاعتقاد هو:

أولا:- تبدل اسم ورسم وعنوان المقدس من عصر وفترة زمنية إلى أخرى فما كان بهذا الوصف سابقا لم يعد ألان كذلك.

ثانيا:- اختلاف اسم ووصف هذا المقدس من منطقة إلى أخرى ومن شعب إلى أخر أو امة إلى أخرى وحتى من مدينة إلى أخرى مما يجب عدم فرض شمولية القداسة على جميع البشر في أي مكان وزمان كانوا. ومن كل ذلك نستدل على نسبية وصف المقدس.

ومن المهم هنا ان وراء هذا التقديس أسباب لاتكمن في ذات المقدس بقدر ماتكمن في ذات ومصلحة وظروف وثقافة المقدس (بفتح القاف وكسر الدال) وهي أسباب عديدة ومتنوعة بتعدد وتنوع البيئة الاجتماعية والبنية الثقافية وظروف نشأة الفرد والجماعة. ومما لاشك فيه ان هناك علاقة عكسية بين عظمة ودرجة وقوة المقدس(بفتح الدال) وبين قوة واستقلالية وشخصية المقدس(بكسر الدال).

إنما أريد ان أشير إليه هنا هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري هذا المسلم والمكافح الايثاري الكبير صاحب الحس الإنساني المرهف وصاحب العلاقة النقية الصادقة بتعاليم صدر الإسلام والرسول محمد(ص) والذي قال عنه الامام علي (ع) (لم يبق اليوم أحدا لا يبالي في الله لومة  غير أبي ذر) ،رافعا  قول الحق(( والذين يكنزون الذهب  والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم) (بشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة) من اجل محاربة الثراء الغير مشروع وساعيا لنشر العدل والرحمة والسلام والتكافل والتضامن بين البشر وعدم شرعية وحرمة  لابل كفر الثراء الفاحش بجانب الفقر المدقع.

 هذا الثراء الذي يقول عنه الإمام علي(ع) (مارايت من نعمة موفورة الاوبجانبها حق مضيع)و(ما جمعت ثروة الا من بخل او حرام).

 وهو الأمر الذي تنص عليه الكثير من الآيات والصور القرآنية وخصوصا في بداية الدعوة الاسلامية حيث ان نواتها ومادتها وأداتها الفاعلة هم الفقراء والعبيد البوءساء في ارض الجزيرة بغض النظر عن اللون والجنس والقومية. هذا الصحابي الكريم الذي وصف بابلغ وأحسن الأوصاف من قبل الرسول الكريم والإمام علي عليه السلام باعتباره من أنصاره واقرب المقربين إليه ليس من باب النسب بل من باب الدفاع عن الحق والعدل.

وعن الأحنف بن قيس قال بحق الغفاري(رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب رث الهيئة يطوف في الخلق وهو يقول وبشر أصحاب الكنوز الكي في جنوبهم وكي في جباههم وكي في ظهورهم ثم انطلق وهو يقول :ماعسى تصنع لي قريش؟؟(وتتوالى الإخبار عن أبي ذر وهو يطوف في طرقات المدينة ومجالسها منددا بالأغنياء داعيا لهم بالويل والعذاب ويضيق به مترفو المدينة فينفيه عثمان إلى الشام ليظهر هناك بحركة أخرى يقول عنها الطبري في تاريخه إنها فتنت الفقراءواولعتهم به.مما اضطر معاوية ابن أبي سفيان ان يكتب إلى الخليفة شارحا له المخاطر التي تهددهم بوجوده في الشام ويوعز الخليفة إلى عامله بإعادته إلى المدينة الاانه لايلبث هنا ان يعاود نشاطه الذي تركز حول المطالبة بتجريد الأغنياء من أموالهم.... وفي وجه هذا الإصرار يصدر الخليفة الثالث قراره النهائي بإبعاد الشيخ الغفاري إلى مكان بعيد في الصحراء وغير مأهول بأحد ليضمن عدم اتصاله بالناس ويبلغ بهم الخوف منه ان يصدروا عند إخراجه أمرا يمنع الاقتراب منه وتوديعه.وخرج أبو ذر في طريقه الى منفاه فيلحق به نفر من أصحابه تحدوا الحظر المفروض حوله يتقدمهم علي ابن أبي طالب ليودعه.. وتمر ساعة تتلى خلالها كلمات حادة فيها تثبيت للشيخ المبعد وفيها إصرار على المضي في كفاح المستأثرين. ويستقر أبو ذر في الربذة قرابة عامين  لايسمعه الاابنته ثم يموت هناك)

 فقد بالغ الخليفة الثالث في إسناد الارستقراطية العربية وخصوصا من بني أمية وحواشيهم فوضع بيت المال تحت تصرفها وأطلق للصحابة وغيرهم اقتناء الأموال وتملك العقارات والتنقل في الأمصار دون قيد)*

وروي عن عمر بن عبد العزيز(ان رسول الله مات وترك الناس في نهر مورود فولي ذلك النهر بعده رجلان لم يستحقا نفسهما وأهليهما منه بشيء ثم ولي ثالث فكري منه ساقية !! ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابسا لاقطرة فيه)*

ومن اجل أنتكون الصورة واضحة في مدى ثراء بعض المسلمين او الاقلية منهم وبؤس وفقر الأغلبية في ذلك الوقت دون وجه حق مما اثار الغفاري وغيره . ومن هذه النماذج نورد الأمثلة والنماذج التالية:-

عثمان بن عفان

---------------.

من النقد-------- 150 ألف دينار ومليون درهم,

قيمة الأرض والعقارات ------.  100 ألف دينار.

 

الزبير بن العوام

----------------:

من النقد          = 50 ألف دينار.

أموال مختلفة..= 1000 فرس و100عبد.

ضياع وعقارات في البصرة ومصر والكوفة والإسكندرية وغيرها ويخبرنا المسعودي ان دوره وضياعه كانت لاتزال معروفة في وقت كتابة هذه السطور وهو سنة 332 هجرية.

 

زيد بن ثابت:-

--------------.

قيمة ضياعه مع النقد .....= 100 ألف دينار.

وخلف من السبائك الذهب والفضة ماكان يكسر بالفؤوس.

 

ومما يجدر الإشارة إليه ان مقاومة ومقارعة الغفاري للسلطات والخلفاء والأمراء لم يكن من اجل المطالبة بالحكم والسلطة والجاه والثروة لنفسه وإنما من اجل العدل والمساواة بين المسلمين وعموم الناس تحت رعايتهم وهو يذكر بصورة العفو في القرآن الكريم التي تتوعد الذين يكنزون الذهب والفضة دون خلق الله.

 في كل ماو رد لااريد ان اسحب الغفاري إلى رعيل الاشتراكيين اوكما قال بعضهم بالاشتراكي الأول حيث ان مثل هذه المفاهيم والمصطلحات هي مفاهيم حديثة كالاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية وغيرها بل نستطيع ان نصفه الايثاري الأول أو احد ابرز الايثارين في صدر الاسلام وفي مقدمتهم الإمام علي السلام

فقد كانت روحه الإنسانية المشبعة بحب الناس والتضحية في سبيل سعادتهم ورفاههم لاتستكين ولايقر لها قرار وهو يرى جموع البائسين وهم لايملكون قوت يومهم في حين يمتلك آخرون سبائك الذهب والفضة التي تقطع بالفؤوس.... والله وأدعياء خلافته وأولي الأمر على ذلك شهود. فما كان منه الاان يضع روحه على كفه في سبيل العدل والحق  مما أقض مضاجع الحكام وأثلج صدور الفقراء وزرع روح الأمل بين ثناياهم  وهو لايخاف في الحق لومة لائم.

بتياراتها وفرقها وعناوينها المعروفة باعتباره من مدرسة الإمام علي (ع)  .

 فما هو السر في ابتعاد اغلب حركات الإسلام السياسي عن تبني الدعوة الغفارية والحمد لله لم تكن الشيوعية ولا الزندقة معروفة آنذاك بالإضافة إلى كون الغفاري من أصحاب الرسول الأوائل وله شان كبير في الدعوة للإسلام  ووجود الإمام علي عليه السلام مما حجب عنه سيف الولاة واحتفظ برأسه سالما  مقابل سلبه حريته في الاتصال بالناس .

انمايهمنا من الأمر هو استمرار الفرق الاسلامية كافة تقريبا بتجاهل الغفاري ومظلوميته التي هي مظلومية كل المعدمين والفقراء ونخص بالذكر الطائفة الشيعية تنكب رايته في الكفاح ضد التمايز الطبقي الهائل وبما لايقاس مع عهد صدر الاسلام  خصوصا وان هذه الحركات أصبحت لها جماهيرية واسعة من الشباب وعموم الفقراء بعد ان   خفت بريق نجم (الحركات الشيوعية واليسارية)  والقومجية وخصوصا بعد انهيار ماسمي بالمعسكر(الاشتراكي) والتجربة الناصرية والصداميةاواصبحت بسبب البؤس والتجهيل والاستبداد وقسوة الأنظمة الدكتاتورية تنأى بنفسها عن الأحزاب السياسية التقليدية.

حيث يتم ألان زج هذه الطاقات الهائلة في فعاليات وشعائر تعزز الإيغال في جلد الذات والشعور الدائم بالذنب  الموهوم  حيث ان كل المظالم  والقتل الذي تعرض له أهل البيت من الداعين للعدل والمساواة إنما كان بفعل ودفع السلطات الاستبدادية  والسلاطين الطغاة  للحفاظ على كراسيهم كوسيلة  لإدامة استئثارها بالسلطة والجاه والثروة  ولم يكن ذلك من فعل وإرادة جموع الكادحين والمظلومين الذين هم وقود للحروب والظلم والعبودية والتعسف لمالكي المال والسلطات الجائرة .

ان هذه الطاقات يجب ان  توظف في شحذ وعيهم الوطني والطبقي لفهم ماهية الاستغلال وواقع الأغلال المكبلين بها من قبل الرأسمال العالمي والمحلي التابع وهي المصدر الرئيسي  لشقاء الشعوب وحرمانها والسبب الرئيسي للحروب.

 وهنا يكمن السر الحقيقي للتفاوت الطبقي الحاد بين المالك لرأس المال والأجير  المتأتي من اللعنة المميتة للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في العالم الرأسمالي بقيادة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة الجشعة والساعية دوما باعتبار الربح والاستغلال هو جوهرها وسر بقائها  دون ان تحد من تعاليم الديانات ولا أخلاق ولا مواثيق أمام حبها الجنوني للربح وجني وكنز المال واستثماره في امتصاص المزيد من ثروات الشعوب وامتصاص دماء الكادحين والمعدمين بغض النظر عن ديانتهم او جنسهم او قوميتهم .

ان كشف مثل هذا السر وهتك هذا الستر الذي تتستر به الرأسمالية العالمية  وخدمها من مثل الحرية والديمقراطية والأمن ماهي الاعصائب تضليل لعيون ملايين البشر .

من هنا نعرف ماهو ولماذا كان الاحتلال واستعمار الشعوب.

من ذلك نعرف لماذا الجيوش والسلاح وأدوات القتل والخراب ففي أخر الإحصائيات ذكر ان الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أنفقت اكثر من ألف مليار دولار  ككلفة حرب في العراق وأفغانستان؟؟؟!!!

من ذلك نعرف ماهو سبب الجهل والإمراض وماهي أسباب القتال الطائفي والعرقي وماهو سر وجود مافيات القتل والسلب والتهريب والتخريب وما هو سبب  عيش اكثر من 23% من  الشعب العراقي تحت خط الفقر في ارض الذهب الأسود.

. ومن اجل ان يطول عمر الاضطهاد والاستغلال تبقى مثل هذه الأسئلة بلا أجوبة؟؟؟

ومن اجل ان تزدهر تجارة تجار الحروب ومن اجل ان تتضاعف أموال الحرام في مصارف وحسابات الأثرياء دول وشركات وأفراد يجب ان يبقى الغفاري منفيا لامكان له لاعلى المنابر ولافي الدفاتر ولا حتى في المقابر!!!!!

 ولكنه بالتأكيد كان وسيظل خالدا في عقول وذاكرة الفقراء والمهمشين وصوتا يرعب  الطغاة والمستبدين والذين يكنزون الذهب والفضة ويجاورهم وعلى مرأى ومسمع منهم بطون جوعى وأجساد خاوية تفترش الأرض وتلتحف السماء يعيش بعضها على مخلفات نفايات  ذوي الكروش وفضلات أصحاب الجاه والعروش.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1074  الاربعاء  10/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم