أقلام حرة

متى ضاعت النبالة، ابدأ من لوكراسيوس

تركز على مفهومي اللذة والطمأنينة .. لذة معتدلة لا افراط فيها كي لا تؤدي الى الهلاك، وطمأنينة للذات بابعادها عن شبح الرذيلة وتقريبها من المبادئ السامية . اما الموت فهو حسب ابيقور لايعنينا بشيء مادمنا احياءا واذا ما حل ّ فلا نحس به . بهذه الرقيا والاعلاء التحليلي في فلسفة الاشياء وتمحيصها، يختط المرء حياته ويختار كلماته وينتبه لجماليات السمو في عمله الابداعي وبناء انسانية الانسان باتجاه السلم والنبل والمحبة .

 اننا في زمن الهستيريات الجماعية بحاجة الى افكار ابيقور341ـ 270 ق م، متجسدة في قصائد لوكراسيوس ، بحاجة الى لجم تفسخ الاخلاق في المراحل التاريخية لمسيرة البشرية، والعمل على ايجاد صيغ من التوازن . اذا لم تصن كتبنا ولم تق ِ صحفنا سلوكنا من التدهور الذي نحن فيه فلنا ربما بتواريخ جيراننا امثولة للإطلاع او التمثـّل !

 نحتاج الى الاحساس بالغيرية والتعبير هنا لجان بول سارتر، احساس الفيلسوف الى ماهو لاذاتي، الى ميزان شديد الحساسية من العدالة منها ان تتوازن ابيقوريا في سلوك سارتري ؛ اي ان لا افراط هالك وبذات الوقت وضع الآخر في حالة من التفضيل على الأنا ! اذا كان الآخر في حاجة ماسة الى الحياة . ان تقديم يد الانتشال والانتصار في موقف سارتر على سبيل المثال من تحرير الجزائر ايام حكومة غي موليه كان انتصارا لشعب الاوراس وقضيته التحررية العادلة، موقف الفيلسوف نيتشه من القضية الوطنية والقومية بأن نزع اغلفتها رويدا رويدا باتجاه الوهية الذات ! والسوبرمان، موقف المفكرين الطوباويين من السعادة والذهاب الى اليوتوبيا حيث جنان المحبة البشرية المطلقة . كل ذلك يستند الى الانحياز الغيري او الانسلاخ الإقليموي او الطبقي . اواقرار حق الشعوب في تحررها . ومن يقوى ياترى على اعلاء الذات ونبذ انانياتها الضيقة ؟ هناك على سبيل المثال حكاية جميلة ونادرة عن ايثار  هوشي منه  الذي باغته رفاقه بأنْ  بنوا بيتا جميلا له اثناء سفره وعندما عاد عرضوا عليهم البيت فرحين، فاذا بالرجل وبعد ان شكرهم يطرق باب احد الفلاحين من جيرانه الفقراء ويقدم له الدار عارضا عليه تبادل السكن ! وبالمناسبة لم يكن من مآثر الرجل ان يتأنق بل كان يستقبل الوفود وفي قدميه حذاء من خشب ! حتى نبهه الاصدقاء الى الضرورات الاتكيت الديبلوماسي فوافق،على وضع حذاء مناسب ! لكنه ما ان تنتهي مقابلة الوفد حتى يخلع ذلك الحذاء ! .. ومرة " سرق " تفاحة ووضعها في جيبه، وقد راقبه بعض اعضاء السلك الديبلوماسي وسفراء وتابعوا هذه الطلعة الغريبة، واذا بالرجل العظيم هذا يخرج في انتهاء الاحتفال الكبير ليقف الى جانب جندي يحمل حربته في الباب وسط مناخ بارد وحراسة ليلية مضنية، يقف امامه ليقدم له التفاحة مبتسما له مداعبا من ان الجماعة قد اكلوا مالذ وطاب وقد خطفت لك ما قدرت عليه ! .

 الآخر هو رقيا لعواطفنا وسمو لنا واننا بمحبة الآخرين نكبر في عيننا وعيون الآخرين . نماذج تاريخية عديدة تزدهي بالفعل الجميل لا بالتحشيد للذات والادخار للأنا والاحتفاء فقط بالقريب والابن والعائلة والعشيرة والحزب والوطن الواحد والدين والقومية الأفضل ! لا الف لا .. المحبة كونية الطابع .. واللذة كما قال ابيقور هي الصداقة الفاضلة والتي عبر عنها لوكراسيوس بشعره المتضمن لحكمة ابيقور .

 ان اللذة وفق اندريه جيد هي الفرح الحسي، وهو ذاته القائل : " هناك ثمار تنتظر ان نجوع " فنحن اذن مركز اللذة الحسي الأول، بينما  اللذة الأبيقورية هي  الصداقة الفاضلة  المتضمنة  اسعاد الآخر والاحساس به والتفاعل معه ومن اجله .

 ان الموقف الأخلاقي نهضة وتخل ّ ٍ، نهضة واعلاء بالروح الى مصاف عشق البرية جمعاء وتخلّ ٍ عن هذه الأغلفة الشريرة التي نريدها لأنفسنا من مال وجاه ومركز . لاخلود بكثرة ونوع الأطعمة التي تناولت الخلود بروعة العمل والأثر الذي تركت لا لنفسك بل لسواك . وان تضع الأسئلة الحارقة امام نفسك قائلا هل الأهرام من اجل تخليد عائلة ام شعب والحدائق المعلقة من اجل رغبة فردية ام مجد امة؟ هل صنعت انت، على ذات القياس، مأثرتك بدوافع حب الخاصة ام العامة ... تلك هي المسألة .

 

 " السمو جبروت  وملكوت

الرقيا اليه مشقة على الأرواح المترددة

وهو أثير عاطر تحلق فيه

أجنحة الرحمة الملائكية . " لوكراسيوس .

 

 خاتمة القول هنا ان شعوبا حضارية متطورة هي في حضورها الفلسفي قريبة نوعا ما من سايكولوجيا فلسفة  لوكراسيوس وابيقور وتعتبر شعوب في حالة طبيعية، اما شعوبنا المعانية لتدهور حضاري شامل فانها تحتاج الى قرون من الترقية والمعافاة حتى يتاح لها الوصول الى الحالة الطبيعية للشعوب الاخرى الآنفة الذكر اي ان تكون قريبة نوعا ما . ان الطريق شائك وطويل لكن هذا لن يمنعنا من حمل مشاعل لوكراسيوس.

 

ـ توْقٌ أخير: عندما تحاول التشابه جماليا بإنسان آخر اي تدنو من روحه حبا وعطاءا تذكر ان من الصعوبة ان تخترق الانانية الذاتية لك لتكون هو ويكون انت لكنك ممكن ان تصل الى شذرية ألِقة تتماهى مع البيت الشعري القائل:

 

" شفّ الزجاجُ وشفـّتْ الخمرُ

وتشابها وتشاكل الأمر ُ

فكأنما خمر ٌ ولا قدح ٌ

وكأنما قدح ٌ ولا خمر ُ" ..

 

28/2/2010

في المثقف اليوم