أقلام حرة

دفء في القلب يسمّى "الوطن"

ظروف مغادرته أرض بلاده في الثلاثينات من القرن الماضي قاصدا فرنسا للدراسة..عبارة قالها وهو يركب الباخرة المغادرة للميناء والجزائر البيضاء تتوارى شيئا فشيئا وتتوغّل في البال ذكرى بلاد هي على أي حال وطن..وحدّثني مهاجر تجاوزت إقامته في المهجر ثلاثين سنة وهي مستمرة إلى الآن عن المشاعر المركّبة التي انتابته والإشكالات الفكرية والنفسية التي تستوقفه كل يوم وتحاصره وتلحّ عليه في الإجابة وكأنه تقمّص حالة الشاعر اللبناني محمّد علي شمس الدين حينما قال في قصيدته «الطواف حول المنزل»:

تستوقفني أحيانا أسئلتي

وأنا أدخل في القبر لأنساها

أرجوها أن تتركني وحدي

فأنا أرغب أن أبكي

«غادرت في ظروف صعبة وواجهت مجتمعا ينظر إلى الوافد بعيون الرّيبة حتى أنهم أوقفوني وفتشوني ذات مساء سبع مرات وهم في كل مرة يبعثرون أمتعتي ولا يكلّفون أنفسهم عناء جمعها ولا يصدر عنهم أي اعتذار..في تلك الليلة اشتقت كثيرا إلى بلادي ووددت لو أعود فأتمرّغ على ترابها أقبله وأحضنه..غير أني عاتب عليها لأنها اضطرتني إلى ركوب الصعب والمغادرة إلى غربة تجفّف الرّيق وتشيّب القلب..؟ ! ».

هكذا تحدّث إليّ «منصف» وهو ينظر في الفراغ وكأنه يسترجع قائمة معاناته الطويلة في غربة لم تنصفه عاد منها بشعر رماديّ بعد أن طار غرابه (كناية عن بياض شعر الرأس وذهاب الشباب) وبعملية جراحية على القلب لتغيير الشرايين المسدودة وبجسد منهك وبمكاسب قليلة قياسا بسنوات غربته وعذابه..

تجربة «هاشمي» لا تبتعد كثيرا في محطاتها ومضامينها عن تجربة مواطنه «منصف» فقد غادر وهو في ريعان الشباب يستقبل من عمره أكثر مما يستدبر يحلم بالثروة والعيشة الراضية وتحقيق الذات.. اشتغل بجدّ وتفان وتقلّب في أكثر من مهنة..

تزوّج مرتين في المرة الأولى من ألمانية أنجب منها ولدا وبنتا وفي المرة الثانية من سويدية أنجب منها بنتا وهو الآن يعيش بمفرده بعد أن فارق أبناءه وصار غريبا حتى عن نفسه«عش وطارت فراخه وعدت وحيدا كما بدأت.. غير أني أفكّر في العودة إلى أرضي في الجنوب لأغرس الرمان وأتزوج امرأة من بلادي فارعة الطول جمالها عربي أصيل في وجهها خال تشبه الفنّانة سميرة توفيق(وهو يضحك) فأدفن فيها عظامي الباردة وأنجب منها أولادا سمرا مثلي وعندها أكون قد استرجعت بلادي وشبابي وكتب لي عمر جديد» جميع هذه الاعترافات تؤكد أن الهجرة كانت لدى هؤلاء حلا اضطراريا هي اقرب ما تكون إلى قاعدة «أخفّ الضررين» في أحسن أحوالها وأخف معاناتها أما في أسوإ حالاتها وأمرّ عواقبها فهي ترجمة عملية للمستجير من الرمضاء بالنار..!؟ إضافة إلى أننا نشتّم من هذه الاعترافات التي هي أقرب ما تكون للانهيارات النفسية رائحة الندم و الحسرة وكأنّ لسان حالهم يقول: «ما أكثر ما أعطينا..ما أقل ما أخذنا!» أو «ما أكثر ما توقعنا وانتظرنا و أمّلنا..ما أقل ما وجدنا!»

أغلب المهاجرين الذين عرفتهم أو صادفتهم كانوا يمارسون « طقس البحث عن الزمن الضائع».. أما جعفر فيمثل حالة فريدة بصراحته النادرة واعترافه الجارح بما لاقى في تجربة الهجرة يقول: «كم لاقيت هناك.. في تلك البلاد الباردة.. إني عندما أتذكّر أجهش بالبكاء وأقول:عزائي أني سأجنّب أبنائي هذا المصير و أغرسهم في أرض بلادي شجرة نخيل أو زيتون.. وإذا ضاع حقك في بلادك فهو في بلاد الآخرين أضيع..الغربة كربة ولا أزيد و الإستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها».

في هذا السياق ينقدح تساؤل هو التالي: هل يحتاج المهاجر وغير المهاجر أن يمرّ بهذه التجارب والمعاناة ليدرك أنّ الوطن يظل فوق كل اعتبار وأغلى من كل ما سواه وأسمى من جميع الاختلافات والصراعات والحسابات...

قد نختلف مع عمرو وقد نستاء من ممارسات زيد وعلينا في جميع الأحوال أن لا ننسى أن الوطن حقّ وأنّ حبّه من الإيمان ومن يتنكرّ لجزء من الأرض تتنكّر له الأرض جميعا.. ذلك لأن الأرض وفيّة لنفسها ورحم الله الشابّي شاعر تونس الجميلة حيث تغنّى بها قائلا:

أنا يا تونس الجميلة في لجّ           الهوى قد سبحت أي سباحة

شرعتي حبّك العميق وإنـي   قد تذوقت مرّه وقراحــه

لا أبالي وان أريقت دمائي              فدماء العاشقين دوما مباحة

ضيّع الدهر مجد شعبي ولكن ستردّ الأيام يوما وشاحـه

وقد أجاد علي الرضا الحسيني حين قال:

أحببت تونس لا أرضى بها بدلا       وليس في مقلة التاريخ إلاّها

سطّرتها في كتاب المجد فاتحة         من ذا يطاول ذاك العزّ والجاها؟!

 

كلمة لا بدّ أن تقال في هذا السياق:

هذا التوتّر الذي يسود علاقة المواطن بوطنه لن يزول إلا بزوال أسبابه وإعادة الإعتبار لآدمية الإنسان ومواطنته والأحداث الأخيرة أكّدت أن لا مناعة للأوطان بغير شعوبها وأن لا مستقبل بغير تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان وقد أعلنتها الشعوب في أكثر من جهة: لا للإستبداد..لا للإحتلال والتدخل الأجنبي.. وهي فرصة لجميع الأطراف لمراجعة الأفكار والمواقف وتعديل الساعات على التوقيت العالمي..والموكب الإنساني يتحفّز للغد الأفضل ويمارس مراسم البراءة من أعداء الإنسان..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1332 الاثنين 01/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم