أقلام حرة

العبارة التي رجّحت الكفّة

 أهمّية النهوض بالفئات المهمّشة والمحرومة في المجتمع الفرنسي وبرنامجه الرّامي إلى وضع حدّ لحالة الغبن والإقصاء وانعدام الرعاية التي تعانيها هذه الشريحة ظنّا منه بأن ذلك سيجلب له مزيد الأصوات عبر إظهار الوجه الإنساني لمشروعه المستقبلي -  ولعله صادق مخلص في ما يقول – غير أن منافسه ميتيران توجّه إليه قائلا :"عفوا سيّدي الرّئيس، ليس بإمكاننا احتكار القلب!؟" فلو حدّثت السّادة المشاهدين عن برنامجك السّياسي والاقتصادي والتّعليمي لكان ذلك أفضل.." فوقع ديستان في حيرة ولم يجد إجابة وظهر عليه الارتباك..وكان هذا اللقاء الفاصل يبث مباشرة عبر القنوات الفرنسيّة، ومن الغد صدرت أبرز الصّحف الفرنسيّة وهي تحمل على صفحاتها الأولى وبالبند العريض عبارة ميتيران "ليس بإمكاننا احتكار القلب!؟" وتحتها التّحاليل التي تتضمّن الإعجاب الكبير ببلاغة العبارة وحسن تموقعها في سياق الحوار واختزاليّتها والطّريقة التي قالها بها و نبرة صوته وقسمات وجهه وهو ينطقها وتلك البسمة الماكرة...حتى أنّ أحدهم ذهب إلى حدّ القول بأنها كانت بمثابة "الضّربة القاضية" لو استعنّا بقاموس الملاكمة...عبارة رجّحت الكفة لصالح ميتيران وساعدته في الحصول على ثقة الناّخبين...وفي البدء كانت الكلمة..ومن الطرائف التي تروى عن السّياسي البريطاني ونسون تشرشل المشهور بردوده الطّريفة وانتقاداته اللاّذعة وميله إلى السّخرية من خصومه أنه كان مرة يخطب أمام جمع غفير ويقول :"سوف نجري استفتاءا في سيلان وسنمنح الهند استقلالها وسنعطي الحكم الذاتي لــ..."وهنا رفع أحد المشاغبين صوته قائلا :" لجهنم يا سيد تشرشل !؟" وهو إنما يريد بذلك إثارته واستفزازه...

 

فخيم السكون على المكان وظل الجمهور ينتظر ردّة فعله...فما كان منه إلا أن ابتسم قائلا وكأنه كان يتوقع هذا الاستفزاز وأمثاله "كم يعجبني أن يتذكّر كل واحد وطنه!؟" وتعالت الضحكات من هنا وهناك وسكت هذا المشاغب ولعله انسحب أو تبخّر...والعرب تقول في أمثالها : البلاء مُوكل بالمنطق...هذه الوقائع وغيرها كثير تؤكد تأثير البيان على الإنسان وأهمية حضور البديهة والعلم الجاهز والتهيؤ والرد المفحم والتعليق البليغ وهي ملكات تربّى وتُنمّى بالمعرفة والخبرة والمراس الطويل...ذلك أن التواصل مع الآخرين يتطلب قدرات أهمها التواصليّة والمبادرة والمرونة والاستعداد الدائم لتعديل المواقف كما يتطلب معارف أولها إدراك واقع تنوّع وتباين الأوساط والتطلعات والاستعدادات والاهتمامات والأهداف والأمزجة والطباع حتى ينطلق من القواسم المشتركة ويتوسّل نقاط الاتفاق وصولا إلى ما يمكن التفاوض والتعاطي بشأنه على اعتبار أن التجربة أكدت عجز كل من المثالية والأحكام المسبقة عن تحقيق التواصل المنشود لا لشيء إلا لتجاهلهما حقائق الواقع ومكوناته والدوافع الأصيلة للتّواصل والحوار وهو ما يقودنا إلى القول بأن التواصليّة علم وفن وجهد متواصل من أجل الوصول إلى المشترك الإنساني وحماية الإنسان من حصار الخطيئة والانكفاء الذي يقلص فيه الإنسانية ولا يحققها...حدثني رجل أعمال عن واقعة حدثت له عندما كان مقيما ببلد أوروبي يكثر به المهاجرون وتتمثل في كونه دخل مقهى ودفع ثمن القهوة والمرطبات التي طلبها ولم يتناولها بعد وعندما راجع بقية الورقة النقدية التي دفعها اكتشف أن القابض أخطأ في الحساب وأرجع له أضعاف ما دفع على وجه الخطأ فما كان منه إلا أن راجعه في الموضوع وأعاد إليه المال...فأظهر الاندهاش والاستغراب قائلا : هذا تصرّف لا ينتظر عادة من مهاجر؟!...فأجابه : أرفض إهانتك وكان عليك أن تحترم زبائنك أكثر؟! وهمّ بالانصراف من غير أن يتناول ما دفع ثمنه، فتوجه إليه قائلا وكأنه يريد أن يعتذر : تعال وتناول ما طلبت مجّانا واعتبر نفسك في ضيافتي...فأجابه : لم أتعود تناول ما لم أدفع ثمنه كما أنّي أرفض ضيافة من لا يحترمني ولا يحترم قومي...إنه موقف يقدم نفسه ولا يحتاج إلى أي تعليق غير أننا نستنتج منه حقيقة وهي أن الاحترام يفرض ولا يطلب ومن يساوم على كرامته يكون غير جدير بالاحترام...والمرء سيّد نفسه إذا رفعها ارتفعت وإذا وضعها اتّضعت...فانظر ماذا ترى؟؟...

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1336 السبت 06/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم