أقلام حرة

بساط الرّيح..

...طربوش مجيدي يحيل على حمرة الدم وبياض النعم.. تتدلى من أعلاه خيوط سوداء تتبع حركة رأسه المهيب..

طالما جلسنا أمام الشاشة الصغيرة أيام كانت بالأبيض والأسود مأخوذين مسحورين بقدرته العجيبة على الحكاية والرواية والتصوير وهو في كل مرة يؤثث مخيّلتنا بمزيد من الوجوه والملامح والأضواء والأجواء العجائبية القريبة البعيدة المألوفة الغريبة في آن...يعترينا لوهلة إحساس أنها آتية من عالم الأسطورة..(يحكيوو على راجل ما عندو في الحيّ حيّ.. قطعة حبل جابها واد..) وينطلق الحلم الذي لا نستفيق منه إلا وهو يضرب بتلك العصا على ذلك الطبق المسطح المعلق بجانبه.. فيُحدث ذلك الصوت كأننا نسمعه يتردد في آذاننا فنهتزّ وكأنها نهاية العالم لا نهاية الحكاية.. ونخرج من عالم الحكاية ونعود إلى حكاية العالم ونلبس دورنا فيها...في النهاية أليس العالم حكاية والحكاية عالما..!؟

قلة هم الذين يمكن لهم أن يجاروه في إتقانه اللهجة التونسيّة كلمة ونطقا وأسلوبا وحركة وطريقة في الأداء.. وكم كنت أتمتّع بالاستماع إليه شأن كل الذين وقفوا على خطابه المميّز وحضوره الجميل..لعله من الضروري أن أقول للقراء الكرام.. إنه المرحوم عبد العزيز العروي.. (بابا عزيز) من أوائل الصحافيين التونسيين ووجه من أبرز وجوه الثقافة في تونس أشهر من أن يعرّف..وجه تونسيّ صميم..تونسيّته تشبه تونسية جبل قربص أو جبل زغوان لا شبهة فيها.. وأصالته تلك وانتماؤه لنفسه وبلاده هي طريقه إلى العالمية على اعتبار كونها ليست سوى المحليّة تنقصها الجدران...كان يتقن فنّ الرسم بالكلمات وكان يمتلك الجرأة أن يكون هو.. لا أكثر ولا أقل...أجرى معه المرحوم خالد التلاتلي سلسلة من أجمل اللقاءات التي أجرتها التلفزة التونسية.. هذا إن لم تكن الأجمل على الإطلاق... لقاءات لم يكن فيها أدنى افتعال أو تصنّع...

كان المستجوب (بكسر الواو) يمّحي أمام محاوره ويفسح له المجال واسعا ليجعل القول فنّا ويرتقي به أعلى الدرجات فيمتع مشاهديه ويروي عطشهم ويشبع فضولهم ويمتع نفوسهم وينمّي ذوقهم ويؤسس لديهم ملكة التمييز بين الغث والسمين والمزيّف والأصيل والمفتعل والعفوي...

أثناء إحدى المقابلات.. سأله خالد التلاتلي قائلا :" بابا عزيز لماذا تكتب وتنتج البرامج وتروي الحكايات؟".. فأجابه:" إنما أقول ما أقول وأكتب ما أكتب وأحكي الحكايات لغاية واحدة وحيدة.. هي أني أرغب أن يكون شعبي أرقى الشعوب ومواطني أحسن المواطنين وبلادي أجمل البلدان.. هذا غاية ما في الأمر.." وهل هناك أجمل من روح المواطنة لديك يا بابا عزيز؟!.. وهل هي هيّنة تلك الغاية التي تحدّثت عنها وقطعت في سبيل تحقيقها أشواطا جعلتك تتحول إلى سلطة أخلاقيّة وأدبيّة يحتكم إليها الناس.. حتى صار بعضهم يقول لبعض :" إذهب فأشتكي إلى العروي؟!.."

حسنات بابا عزيز كثيرة.. لعل أجلّها أنه لم يفقد صلته بمجتمعه ولم يفقد إيمانه بقدرة الكلمة مكتوبة ومنطوقة على التأثير والتغيير والتوجيه ولم يتخل عن دوره ومارسه حتى آخر رمق لأنه كان يحسّه قريبا عميقا يشبه نبضات قلبه الكبير...

مارس المرحوم عبد العزيز العروي فنّ القصّ والحكاية باقتدار وحرفيّة منقطعة النظير لدرجة أنه استحق أن يتبوأ مقعد "حراسة المخيال والذاكرة" والقيام على تمرير خبرة الأجيال إلى الأجيال وإيصال ثروة الإنسان إلى الإنسان.. منعا للهدر وتحقيقا للتراكم الايجابي في الاجتهاد والخبرة والثقة والمبادرة والايجابية والإبداع.. فكان يحمل كل إنسان ليس له في الحيّ حيّ على بساط الريح ويتجوّل به تلك الجولة السحريّة في أجواء عجائبيّة مفتوحة على كل شيء.. فيعود بعد أن يملأ مخيلته بخبرة وقدرة وصواب واستعداد لا يحيط به إلا من امتلكه .. حتى غدا قريبا من الكلّ.. له كل حيّ في جميع الأحياء...

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1346 الثلاثاء 16/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم