أقلام حرة

الكثير شرفتهم الكراسي .. وبعضهم شرفوها

بعظمة كرسي موضوع في غرفة وزير. وكرسي مرصع بالذهب والجواهر والأحجار الكريمة ليس بأبهة  كرسي مصنوع من جريد السعف أو الخشب العادي. وقد أختار الله سبحانه لنفسه كرسيا وأنزل آية أسمها آية الكرسي تعتبر من أعظم آي القرآن وأكثرها قربا للنفوس. وذكر الله سبحانه في كتابه الكريم كرسي ملكة سبأ الذي نقله (الذي عنده علم من الكتاب) من اليمن إلى فلسطين بطرفة عين. وفي المدينة المنورة أتخذ رسول الله (ص) كرسيا من جذوع النخل ثم من الخشب ثم من أقتاب الإبل يوم الغدير، وفي كل الأحوال والظروف كان منبرا بسيطا في كل شيء إلا في عظمة وقدسية ورقي ومكانة ما يلقى للأمة من أعلاه. وبعد سنة 41 هجرية تحول الكرسي إلى دلالة وميزان معياري للعظمة والأبهة ورمز للسلطة والسطوة فرصع بالأحجار الكريمة وطلي بالذهب ووشي بالحرير والديباج ليجلس عليه الأبخر والأفلج والسكير والزير. ثم لما تطورت البشرية ولم تعد من حاجة للكراسي الشكلية  تحولت إلى الكراسي الرمزية فأصبح لفظ كرسي دلالة ورمزا للمنصب ولاسيما المنصب الكبير.

وعلى مر التاريخ كانت للذين يجلسون على الكراسي مواصفات غريبة عجيبة فمنهم من سعى إليها وقاتل وسفك الدماء من أجلها ليتشرف بها، ومنهم من سعت هي إليه وخنعت لكبريائه لتسمح له بامتطائها وتتشرف بجلوسه عليها . منهم من استخدم علية المكان الذي رفعه الكرسي له ليرى نفسه ربا ثانيا على الأرض فتجبر وتكبر وطغى وتنمر، ومنهم من استخدم رمزية الكرسي ليتهوك ويتهتك ويعاقر الدنان ويمتع ناظره برقص الحسان، وفيهم من استخدمه للتقرب إلى الله بخدمة أخيه الإنسان المحتاج التعبان ولم ير بأسا في الإستفاده من منن الكرسي والخزائن والأطيان.

واقعا تختلف الكراسي عن بعضها اختلافا كبيرا ويختلف الذين يجلسون عليها اختلافا أكبر لكن القاسم المشترك بينهم جميعا وبلا استثناء أنهم كلهم يضعون عجيزتهم عليها حينما يجلسون ولكنهم جميعهم لم يلتفتوا لهذه الناحية.

أما السر الكبير للكرسي وهو السر الذي لم يفك طلاسمه منهم احد فهو أنها مهما طال الزمان لابد وأن تمل من جلوسهم عليها  وتتململ من مكوثهم فتعطيهم  عاجلا أم آجلا جواز المرور للعالم الآخر ولا يبق من ذكرهم عليها سوى رائحة السوء أو فوح العطور وصدق من قال في وصفها (لو دامت لغيرك لما آلت إليك)

وخلال عمرنا الطويل شاهدنا أغلب أنواع هذه الكراسي وأغلب أصناف الجالسين عليها، ولكني اليوم شاهدت صنفا لم نعد نره لندرته حتى أصبح كالغراب الأبيض أو مثل لبن العصفور. الكرسي الذي شاهدته كان في غرفة رئيس جامعة واسط  والجالس عليه شخص يحمل درجة علمية أستاذ دكتور ويشغل منصب رئيس جامعة، كنت في زيارة عمل له  فدخل سكرتيره واخبره أن أخ إحدى الطالبات يبغي مقابلته فوافق على الفور ولم يتردد، دخل الرجل يحمل أوراقا كثيرة من بينها تقارير طبية صادرة من مؤسسات طبية عراقية وعربية تؤكد إصابة إحدى الطالبات بمرض خبيث وتوصي بضرورة استمرارها بالدراسة لكي تشغل نفسها ولا تبقى تفكر في مرضها، هذه الطالبة في المرحلة الثالثة وكان ترتيبها الأول على كليتها في المرحلتين الأولى والثانية ولكنها فصلت ورقن قيدها لكثرة غياباتها ، هكذا عرض أخوها قصتها أمام رئيس الجامعة وهذا ما أكدته إدارة كليتها أيضا.

استوقفني هذا المشهد وأستفز مشاعري لأنتظر ماذا سيكون رد المسئول، ولكنه قطع علي الاسترسال عندما لم يتبع الإجراءات الروتينية المتبعة في مثل هذه الحالة وإنما أتصل مباشرة بعميد الكلية وطلب منه شطب غياباتها والسماح لها بمواصلة الدراسة وعدم التدقيق بموضوع مواضبتها على الحضور. ثم طلب دخول الطالبة التي كانت تنتظر في الاستعلامات وأجلسها بعد أن رحب بها أكثر من ترحيب الأب بابنته وأخبرها بالبشرى وشد على عضدها وشجعها على الاستمرار والمطاولة والمواصلة والصبر.

واقعا كنت وأنا أستمع للمحاورة أستعيد صور جميع الكراسي التي مر ذكرها فوجدت في هذه القاعة كرسيا تشرف بالجالس عليه لأنه آدمي يعرف معنى المسئولية ومعنى الآدمية وهذا جل ما تتمناه الكراسي. 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1347 الاربعاء 17/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم