أقلام حرة

تداول السلطة.. إيرانياً!

 الذي يُسْتَحْسَن عدم وجوده، فهو إسرائيل، التي شَحَنَتْنا بعداء لها، أعمى أبصارنا وبصائرنا في كثير من الأمور، فلتتصوَّروا الحال التي يمكن أن يكون عليها تفكيرنا ومواقفنا ومعاييرنا وموازيننا..، لو لم يكن لها من وجود، أو لو لم تَمْلأ نفوسنا بهذا القدر الهائل من العداء لها!

 

على أنَّ هذا الخلل الكبير في العلاقة بين منتجات "العقل البارد" ومنتجات "القلب الحار" لا يسوِّغ، ولا يُبرِّر، "إصلاحه" في الطريقة (وللغايات) التي جاء بها "الإصلاحيون" و"الليبراليون" العرب في عهد إدارة الرئيس جورج بوش على وجه الخصوص، فاستمرار هذا "الخلل"، على شروره، يظلُّ أهون الشرَّين، أي أهون من شرِّ الاستخذاء لمشيئتها وشروطها ومطالبها، ومعاملتها على أنَّها "الضحية" لـ "مزاعم وادِّعاءاتٍ باطلة" استمسكنا بها زمناً طويلاً حتى علَّمتنا هي، وبـ "التي هي أسوأ"، ضرورة وفائدة غَسْل عقولنا ومشاعرنا منها!

 

إيران أيضاً، وفي انتخاباتها الرئاسية العاشرة، تأتي لنا بمزيدٍ من الأدلة على أنَّ "الانتخابات"، برلمانية كانت أم رئاسية، يمكن أن تأتي من انتفاء الديمقراطية، التي لا يمكن أن تَظْهَر وتتأكَّد وجوداً من غير الانتخاب، وكأنَّ القول بضرورة أن تتضمَّن الديمقراطية انتخابات يجب أن يُسْتَكْمَل بالعبارة الاستدراكية الآتية: "ولكن ليس كل انتخابات يصلح دليلاً على وجود الديمقراطية".

 

وإنِّي لأفهم ما يسمَّى "التجربة الديمقراطية الإيرانية" على أنَّها خير وأقوى دليل على أنَّ حكم رجال الدين (أو الحكم الثيوقراطي) أكانوا من القائلين بـ "ولاية الفقيه" المشتقة من عقيدة "المهدي المنتظَر"، أم من القائلين بـ "نظام الخلافة الإسلامية"، أو بما يشبهه، أم ممَّن يشدُّهم الحنين إلى استئناف حكم الكنيسة في عصر الظلام الأوروبي، لا يمكن أن ينشأ ويستمر ويتوطَّد إلاَّ في الحرب، وبالحرب، على الديمقراطية، التي هي خير مقياس نقيس به درجة نمو الإنسان في الإنسان.

 

لا أشكِّك في روح التنافس القوية التي اتَّسمت بها انتخابات الرئاسة الإيرانية العاشرة، فالمرشَّحون للرئاسة كانوا أربعة؛ والمنافسة كانت على أشدها بين اثنين منهم هما نجاد وموسوي؛ ولا شكَّ في أنَّ جمهورية إيران الإسلامية قد تفوَّقت في "التنافسية الانتخابية" على كل الجمهوريات الرئاسية العربية، التي لم تعرف إلاَّ المرشح الرئاسي الواحد الأحد، أو المرشح الرئاسي الواحد المتعدِّد، أي الذي يزيِّن ويزركش الانتخابات الرئاسية بمنافسين له، يفوزون مجتمعين بواحد في المئة من مجموع أصوات الناخبين، الذين يكفي أن نمعن النظر في حجميهما المطلق والنسبي، وفي طريقة حشدهم واستجماعهم في مراكز الاقتراع، وفي الدوافع الإيجابية والسلبية لإدلائهم بأصواتهم، وفي الفروق الظاهرة والخفية بين نتائج التصويت ونتائج الفرز، حتى يظهر لنا، ويتأكَّد، أن لا انتخابات قد أجْريت.

 

ولكنَّ المتنافسين في انتخابات الرئاسة الإيرانية يتنافسون كتنافس فريقين رياضيين، يلعبان لعبة كرة القدم مثلاً، إنْ لجهة روح المنافسة القوية، أو لجهة علاقة الرياضة بالسياسة، أو علاقتها بالسلطة السياسية الفعلية والحقيقية، والتي تتركَّز في أيدي رجال الدين، على وجه العموم، وفي أيدي "الإمام القائد المرجع السيد الخامنئي قدس سره"، على وجه الخصوص، بصفة كونه القائم بأعمال المهدي المنتظَر إلى حين ظهوره!

 

في "مملكة السماء"، أي في جمهورية إيران الإسلامية، التي تُصوِّر نفسها على أنَّها "حكم الله على الأرض"، لا وجود للسلطة الفعلية والحقيقية إلاَّ في أيدي فئة ضئيلة من رجال الدين الشيعة، غير المنتخَبين من الشعب؛ لأنَّهم منزَّهون عن الانتخاب، وإنْ توجَّهوا، يوم الانتخابات، مع ملايين الناخبين، إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، فهم يستمدُّون "الشرعية" من مَصْدَر أعلى من "المَصْدَر الانتخابي"؛ ولقد عرفوا كيف يُثبِّتون احتكارهم الديني للسلطة السياسية الفعلية، ولكل سلطة فعلية، في "الدستور"، وكأنَّ "الدستور" يمكن أن يكون متصالحاً مع القيم والمبادئ الديمقراطية إذا ما جَعَل "صندوق الاقتراع" حاجزاً لا يمكن تخطيه بين الشعب، أو الناخبين، وبين مراكز السلطة الفعلية والحقيقية، أي بين الأمَّة، التي ينبغي لها، ويحق، أن تكون مصدر الشرعية السياسية وكل السلطات، وبين نحو 90 في المئة من السلطة الفعلية والحقيقية.

 

المؤسَّسة الدينية الحاكمة هي وحدها التي يحق لها تمييز "المرشَّح الرئاسي الجيِّد" من "المرشَّح الرئاسي السيئ"، وكأنَّها تقول للأمة مع حلول كل موسم انتخابي: اختاروا لكم رئيساً، بحرِّية تامة، من هؤلاء الذين رشَّحناهم لكم، بـ "مسطرة الترشيح" التي نملكها وحدنا!

 

وتشتعل المنافسة بين المرشَّحين هؤلاء (وجماهيرهم) من أجل الفوز بمنصب رئيس الجمهورية، الذي يمنح صاحبه "سلطة التنفيذ لقرار السلطة المجسِّدة لولاية الفقيه".

 

و"ولاية الفقيه" لها ما يشبهها سياسياً في نُظُم الحكم العربية "الانتخابية"، فالشعب يمكن أن ينتخب بحرية تامة هيئات حكم لا تملك من سلطة الحكم الفعلي والحقيقي إلاَّ ما يؤكِّد أنَّها أقرب إلى العدم منها إلى الوجود. إنَّهم يتنافسون من أجل أن يتداولوا "سلطة" لا تستحق التداول، فهي كالنقد المزوَّر لجهة علاقته بالنقد الحقيقي.

 

ولقد أفل عندنا "عصر الانقلابات العسكرية"، أي عصر تداول السلطة الحقيقية بالانقلاب العسكري، لتَسْتَتِب "الجمهوريات الرئاسية الوراثية"، التي لا فرق بينها وبين "ولاية الفقيه" إلاَّ ما يعدل الفرق التافه بين السني والشيعي! 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1077  السبت  13/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم