أقلام حرة

ما يعيق النظام العالمي الجديد هو الازدواجية في النظرة والتعامل مع القضايا

والادعاءات المتعددة على انها فشلت واضمحلت عن الوجود مع غروب شمس الشيوعية وما يعتبرها البعض الكبوة لهذا الفكر والفلسفة، وما نتلمسه هو  عدم اسكان الحال على نجاح طرف وسقوط الاخر مهما تبجح البعض لحد اليوم. ومر العالم خلال تلك الفترة بمجموعة من الحوادث والظواهر وبمنحنيات مختلفة من كافة الجوانب، والاستقطابات التي حدثت كانت مبنية على المصالح اكثر من الاستناد على جوهر الفكر والعقيدة والفلسفة وايمان الاكثرية باحقية احد او عدمها او انعدام التوافق مع الاخر، وكانت الايديولوجيا هي المهيمنة اكثر من اي شيء اخر.

لا اعيد هنا ما حصل خلال عقود الحرب الباردة بالتفصيل وكيف انتهت، الا انني اترك ما نراه اليوم للمراقب كي يحكم على مَن مِن الطرفين انفرد في حكم العالم واين توجهت البشرية وما جلبت معها التغييرات المختلفة من كافة الجوانب، ويجب ان نقارنها مع ما وصلنا اليه وحصلنا فيه من نسبة العدالة الاجتماعية والمساواة وضمان الحرية المطلوبة لنا كانسان، وحقوقنا الذي نعيش في مرحلة معلومة المعالم والصروحات الفكرية الاتية من الغرب الينا! ويجب ان يعرف الجميع من هو المسبب في تدهور الاوضاع العالمية الاقتصادية السياسية العسكرية والعلاقات الدبلوماسية بين الدول، ويتبادر الى اذهان كل محلل السؤال المصيري وهو هل نبقى الى الابد اسير الحكم الفردي وسيطرة المصالح والاقتصاد الحر والاحتكار الرسمالي واستغلال الانسان والابتعاد عن القيم النبيلة للانسان من قبل الفكر والعقلية التي تدير العالم.

المحير في الامر بعد الاتفاقات الثنائية بين القطبين توجهت الولايات المتحدة الامريكية وعملت بكل جهدها لفرض نفسها كقوة وحيدة من اجل ضمان سيطرتها على المعادلات العالمية الجديدة كما افرزتها نهاية الحرب الباردة، ومدت  ايديها بطلاقة الى المراكز الاستراتيجية العالمية التي لم تتمكن من قبل الوصول اليها واعتبرت نفسها منتصرا، كما لم تخفي نواياها منذ الوهلة الاولى واطلقت في كل يوم مصطلحات وتعاريف ومفاهيم جدد لما فيه العالم من النظام العالمي الجديد ومتطلبات العولمة وصدام وصراع الحضارات ونهاية التاريخ، وجنة الراسمالية الموعود في اخر المطاف والى اخره من النظريات، ونست انها الموقعة على اتفاقيات ثنائية مع زعيم القطب الاخر واستغلت الافرازات وما ظهر على ارض الواقع بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، واصبح النظام العالمي على حال يمكن ان نصفه بالمهزوز وفي مرحلة  متنقلة فرضت تغييرات مختلفة من كافة النواحي السياسية الاقتصادية الثقافية على العديد من الدول في كافة بقاع العالم، وتسرع البعض على ابداء خطوات وتضرر منها فيما بعد ولم يحسب لها الحساب الدقيق بينما كان الاخر اكثر هدوءا وصبرا، وهناك من خسر الكثير ولم يعد يتمكن من الاستقرار لحد اليوم.

كل هذه المستجدات ولم تنجح امريكا من ضمان امنها واستقرارها لحد اليوم على الرغم من اعلانها النصر على خصمها اللدود، والهجمات التي تعرضت لها والازمات التي وقعت فيها والتراجعات التي اجبرت عليها دليل على عدم نجاحها لحد اليوم، وتعقدت الخارطة الجيوسياسية للعالم باتجاه لم تتمكن امريكا خلال هذه الفترة من تحقيق ولو نسبة قليلة من الاهداف التي اعلنتها في حينه، والاستقطابات والتكتلات العالمية لم تحدث ما املت امريكا وتوقعت ان تكون لمصلحتها وحسب تنبؤاتها التي ادعت انها في الطريق الصحيح . بل لم تتمكن من التاثير القوي المباشر على الحياة السياسية لاقرب المقربين لها وعند حدودها، فهناك لازالت المكسيك وهي جارها الجنوبي على حال بعيد عما اعلنته امريكا من تقارب والتاثير المباشر ولم تنجح في تغيير ادنى نسبة من الظروف السياسية في قارتها، وكما نرى حال شمالها كندا ايضا، على الرغم من ادعائها بان تكون هذه المنطقة تحت هيمنة مباديء التجارة العالمية الحرة وادعت من الفرضيات وبينها اتحاد كندا معها، ولكنهما بعيدان عن البعض ولم تنجح في هذا التوقع ايضا، هذا ناهيك عن الدول اللاتينية من دول امريكا الجنوبية ومحاولاتها البائسة للضغط عليها.

اما نظرتها الى اوربا وما تعتري طريقها واهداف امريكا في هذه القارة، لازالت تتعثر وهي كما هي منذ نهاية الحرب الباردة ولم تتغير وفق معيار الولايات المتحدة الامريكية ذاتها بحيث الدول الشرقية لازالت في بداياتها وعلى الرغم من توحيد النقد الاوربي  لازالت المشاكل كثيرة وحدثت تغيرات عكس تيار الراسمالية الامريكية ونواياها ولازال حال هذه القارة عالقة وتتراوح امريكا في مسيرتها في هذه القارة ايضا.

 شرق اسيا   تحت رحمة المخلفات التي ابقتها لها امريكا من فشلها في فيتنام والانقسامات العديدة بين الدول المسيطرة اقتصاديا مع متطلبات اليابان والصين التي منعت فرض السيطرة الكاملة على هذه المنطقة من قبل امريكا والتي ارادت التحكم بمصيرها، وهكذا بالنسبة لجنوب اسيا ومحاولاتها التحرر من الهيمنة الخارجية الدائمة بكافة انواعها، وهذه الدول تجاري الدول الغنية في الغرب في اكثر النواحي وتعتمد عليها الكثير من الدول ذات الثروات في الحصول على الايدي العاملة الضرورية منها، الا انها تحت تاثير عدم الاستقرار وافرازات الارهاب ومحاربته والفوضى العارمة في الشرق الاوسط المثرة عليها .

لم تبق الا دول الاتحاد السوفيتي السابق وهي تتحمل ضغوطات الطرفين الروسي والامريكي وتدخلهما في شؤونهم الداخلية وجهودهما المضنية في كسبهم بالترهيب والترغيب لتحديد هويتهم وفق تطلعاتهما هما لهذه المنطقة ومصالحهما الاستراتيجية فيها.

تنظر امريكا لهذه المناطق بازدواجية كاملة وتتصرف وفق مصالحها الذاتية دون اي اعتبار لخصوصيات  كل منها، لذا لم تنجح لحد اليوم في التقدم خطوة واحدة فيها، والنظريات التي طفت الى السطح بعد انتهاء الحرب الباردة والتقييم الذي اجري لم تنتهي بمحصلة صحيحة. وفي هذه المرحلة بالذات تعيد الكثير من هذه الدول في كافة صقاع العالم النظر في سياساتها وعلاقاتها وعملها من اجل ضمان مصالحها ولم تؤخذ مصالح امريكا ومتطلباتها من الاولويات في رسم سياساتها .و الدول الافريقية في حال لا يمكن الادعاء بانها تحت سيطرة واوامر امريكا كاملة في هذه المرحلة .

اما من الناحية الثقافية والكلتورية العامة لنظرة امريكا للعالم، لها اراء ومواقف تلصقها بالفكر والنظرة الراسمالية البحتة، بحيث تقسم الحضارات الى الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والهندية والاسلامية والاوسلافية والارثوذوكسية والافريقية، وتعتقد ان الصراع والصدامات تحتدم بين هذه الحضارات وتريد فرض ما سمتها بالحضارة الغربية وهي الجديدة على العالم، وادعت ذلك اعتمادا على العديد من الاسباب، والاختلاف في الحضارات من حيث العقائد والدين واللغة والتاريخ والعادات والتقاليد هي التي تتصادم مع ما موجود في الغرب حسب نظريتها، وتقول هي انه بفعل التقدم التكنولوجي في العالم تقرب المسافة يوما بعد اخر وبعد التلاقح او التضارب والتصادم مع ما موجود في الغرب ستسيطر الحضارة الغربية وتعيش الناس فيما بعد في دائرة محدودة ضمن حضارة واحدة استنادا على التجديد والاصلاح والتغيير وتستقر الحالة على شكل وصورة واحدة، وحتما تدعي بان الصورة الغربية هي الملائمة والمسيطرة، وتستند على القوة السياسية والاقتصادية في تبريراتها، والنظام العالمي يُخفي  الاختلافات التي كانت موجودة اصلا. وفي جانب اخر ربما الخط الحضاري هو الذي يكون فاصلا بين تكتلات في مرحلة ما الى ان ينمحي بفعل الضغوطات العلمية التقدمية الطبيعية للغرب ويتوجه العالم نحو الوحدوية في الحضارة بعد مراحل الصدامات والصراعات الحضارية وليس الحوارات كما يدعي الاخرون.

من المباديء الاساسية التي تعتمد عليها امريكا في هذه الامور بعيدا عن الصدامات والصراعات الحضارية والتي تعتبر من اكبر نقاط ضعفها، وهي تدعي الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان من جهة والتي تصطدم مع تصادم الحضارات ومع ما تطرحها حول الحضارات ومستقبلها في كافة الجوانب، وما تعلنه عن سيطرة جهة معينة في نهاية المطاف، وهذا ما يعيق تنظيم العلاقات العالمية وتُكره امريكا في عيون العالم اكثر، وتعتمد في طرحها هذا على الجوانب الاقتصادية والسياسية فقط،و تضرب التعددية كاهم ضرورات الديموقراطية الحقيقية عرض الحائط.

الامر الهام الذي تهملها امريكا بقصد او بغيره، هو عدم الاعتبار لما موجود لحد اليوم من ترسبات الحرب الباردة، ونحن نعيش في ظل التوجهات والعلاقات التي كانت سائدة في تلك المرحلة، وهذا واقع نتلمسه ولا يمكن تغاضيه مهما حاولت امريكا من انكارها.

لذا الازدواجية في النظرة والتوجه والعمل في السياسة والاقتصاد والعلاقات مع العالم ستفرز ما لا يحسب له حساب في المعادلات العامة، ونحن ننتظر ما يبرز بعد عبور هذه المرحلة من النظام العالمي الجديد لنرى في الافق ما يستقر عليه العالم، ولكن ما نتوقعه ليس لصالح الرسمالية ونظرياتها لانها بعيدة عن مصالح ومنافع الانسان وقيمه ورفاهيته وسعادته الحقيقية ومستقبله الامن.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1387 الثلاثاء 27/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم