تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

كتابة الإخفاق في "وخز الأماني" لمحمد عطية محمود

 الأقصوصة فنّا سرديا صعب الاختراق، يهابه حتى كتاب القصة القصيرة، رغم أنها لا تتعدى صفحة يتيمة في كتاب.. لكن أن نقرأ مجموعة قصصية أغلب نصوصها أقاصيص، فحتما، هذا يتطلب وقفة خاصة.

 الأقصوصة الوحيدة التي مازلت أتذكرها حتى الآن، كانت بعنوان "نظرة" لفارس القصة القصيرة العربية، الدكتور يوسف إدريس، وإن لم تخنني ذاكرتي، فقد نشرت ضمن مجموعته القصصية "لغة الآي آي". لم أنس تلك الأقصوصة، رغم أني قرأتها منذ أكثر من عشر سنوات، في حين لا أتذكر الروايات التي قرأتها قبل عام.

*****

يطغى على غلاف "وخز الأماني" للقاص والناقد المصري محمد عطية محمود اللون الرمادي، لون الكآبة، النهايات والخريف، مما يحيلنا على ضبابية الرؤية وغموض المجهول واللاأمان... إن هذا اللون الكئيب المتجهم يبتلع حتى خلفية لوحة الغلاف، التي تمثل آمالا مزهرة، تخترقها شوكة ألم، (وقد يستنكر بعض القراء افتقاد الغلاف للجاذبية المعهودة، لا سيما إن كانت شاعرية العنوان مثل الكتاب الذي بين أيدينا، وسيعتقد أن الأمر يعزى إلى فقر جمالي وإخراجي... !!)، في حين جاء عنوان المجموعة واسم الكاتب والتصنيف باللون الأبيض.. لون النقاء، الهدوء والسلام، وإن كنا نميل إلى أن يصنف هذا الكتاب كـ"أقاصيص" بدل كلمة "قصص" الفضفاضة. ومن وحي القراءة الأولى للغلاف، سنتساءل : هل الأماني والأحلام توخز القلب، مثل الحزن والأسى والفقد؟ وكيف يكون طعم هذا الألم؟ كيف يجتمع النقيضان؟

هذا ما ستجيب عنه نصوص الأماني.

*****

 

في الأقصوصة التي تحمل عنوان المجموعة، يستيقظ السارد على صوت ساعي البريد، يتسلل الأمل إلى قلبه بوصول خبر يدخل بعض البهجة إلى قلبه، ويكسر رتابة الحياة، ويتعلق بأهداب أكثر من أمل : (خطاب العمل المنتظر، رسالة، نتيجة المسابقة، خطاب القرض، حوالة الأخ المغترب). لكن سرعان ما تتحطم كل هذه الأماني والأحلام المؤجلة على صخرة واقع مرير... لأن الرسالة ليست سوى "مرتجع".. عادت إليه لعدم الاستدلال على عنوان المرسل إليه، وكأن هذا الأمل بلا عنوان، غائم، ضبابي وبلا ملامح، بينما السارد الذي لم يجد سوى خيبة الأمل، كأنه ينتظر "غودو " لن يأتي أبدا.

ونفس الانتظارية سنجدها في قصة "خطوط.. متقاطعة". هذه الانتظارية التي تسحق عزيمة الإنسان، وترميه في غياهب الإحباط واليأس ستتجلى في نص آخر هو "تحت الرماد"، والرماد -عادة- يقترن عادة بالذكريات، بالبقايا... ولأن لا نار بلا رماد، كما يقال، فالذكريات المشتركة بين الصديقين، ستتجدد بلقاء مصادفة بعد غياب طويل، ذكريات أحلام خضراء وطموحات كانت مشتعلة، لكن سرعان ما انطفأت نارها، كما يشي بذلك اللقاء الفاتر بالمقهى.. انطفأت جذوة الصداقة والأحلام معا. فهل يغتال الزمن المشاعر النبيلة/ الصداقة، مثلما يبرع في الفتك بأحلامنا ومشاعرنا المتواضعة (والمشروعة)... الأحلام بحياة حرة كريمة، ويدفع بنا إلى الاستسلام والخنوع وتدخين "الشيشة" مثل صديق السارد؟ هل تتبخر الآمال مثل الدخان، ولا يبقى في نهاية المطاف سوى الرماد ، بعد انطفاء الجذوة في دواخلنا؟

مثل هذه الحيرة ستتفاقم، حين يجد بطل أقصوصة "وسط الأمواج" نفسه، بلا عمل (مطرودا)، وتتجلى براعة الكاتب في اختيار اللحظة الإبداعية/ السيكولوجية.. حيث يستهل قصته بالقول : "يستبد بي كل ما حولي. تعيث في صدري آلام الاختناق.. تدفعني دوامات.. تعبث بي.. تطوي صدري على تلافيف أحشائي المعتصرة بألم حارق.

عبر الأزقة والشوارع المفضية إلى الكورنيش، تتلاطم خطواتي.. تتدافع.. تتخاذل.. تتراشق مع خفقات القلب المخلوع، وضربات تقصم الظهر". (ص 21).

وبفنية عالية، يرصد محمد عطية محمود انسحاق البطل وعجزه، في خلفية لوحة تتواطأ فيها ملامح قاسية متعجرفة مع المكتب المكيف والسيجار الفاخر، مما يفضح الاستغلال واللامبالاة والقهر... بأقل الكلمات، وبدون استجداء عواطف ودموع القارئ أو الوقوع في فخ الصراخ الإيديولوجي، عالي النبرة.

هكذا سيجد السارد، المغلوب على أمره نفسه كغريق تبتلعه دوامة بحر هائج، لكن الأمواج - هنا- ليست سوى سيارات تمرق، قد ترديه إحداها قتيلا في لمح البصر، وهاهو يبحث عن جزيرة أمان وسط سعار تلك السيارات.. سيارات لا يبالي سائقوها بالآخرين.. في عالم سريع الإيقاع، مغترب، مشوه... عالم براغماتي، مادي، متكالب على المصالح والامتيازات.. عالم اللامعنى واللاإنسانية.

إنه نص فلسفي بامتياز.

 وسيتكرر هذا العبث واللاجدوى في "سقوط الأوراق"، حيث يفاجأ السارد، (هنا لا أميل إلى استخدام مفردة (بطل القصة) المستهلكة، لأن أغلب شخوص الأقاصيص يفتقدون البطولة، غارقون في عجزهم ويأسهم... عاجزون عن الفعل (لنقل إنهم : مفعول بهم دائما)، بل إن الكاتب تآمر مع الأقدار، وجعلهم مجهولين، بلا أسماء في كل الأقاصيص... لأنهم كذلك في الحياة، بلا بطولة وأسماءهم لا معنى لها.. !!)، بعد توصله بدعوة لحضور حفل مهم، ووسط البهرجة وآلات التصوير، يلقي نجم اللقاء كلمة، من خلف المنصة، ومع احتدام النقاش، يبدأ التراشق بالاتهامات، والكاتب هنا يفضح غوغائية المثقفين والساسة على حد سواء، يفضح القهر الفكري، الإقصاء والفوضى، التي يتعامل بها مع بعضهم .. مع يفترض أنهم "ضمير المجتمع"، وصوت من لا صوت لهم... فإن كان هذا حالهم، فعلى من نعلق آمال التغيير، والحلم بغد أفضل؟!

 

في أقصوصة "ترقب" يحاول السارد معرفة الساعة، بعد أن تعطلت ساعته، ويراقب الناس من حوله في المحطة، فتخذله المعاصم العارية والأيدي المخبأة في الجيوب، ويلمح فتاة سرعان ما تتجه عيناه الى معصمها، ويتجنب سؤالها حتى لا يفسر ذلك على أنه تحرش بها، وينقذه ظهور عجوز يخفي يديه خلف ظهره، يلمح سلسلة فضية تتدلى على صدره، وقبل أن يسأله غادر العجوز إلى الرصيف الآخر، وهذه القصة رمزية بامتياز، رغم قصرها الشديد... فالمحطة التي تعج بالناس ليست سوى الحياة (الدنيا)، التي تأسرنا بمتاهتها، عبر مختلف مراحل العمر، وفي أدبياتنا اليومية نشبّه - وبمختلف اللغات واللهجات- الحياة بمحطة لا يستقر بها أحد، يتأرجح زوارها بين القدوم/الولادة والمغادرة/الموت، أما الساعة فهي ترمز إلى العمر، المتقاذف به بين زحام هذه المحطة، والذي يسير نحو نهايته الحتمية، بينما فتاة النص الجميلة، المشتهاة، فهي الحياة التي لا تقاوم، لكن سرعان ما تصل رحلة العمر عند محطة الغروب/ الخريف/النهاية : "حينما التفت في اتجاهه كانت ثمة غلالة تحجب جزءاً من ضوء الشمس، و كانت خطواته قد سبقت في الاتجاه المعاكس" (ص 37) .

 

في أقصوصة "الضوء.. والانكسار"، تنثر الشابة الجميلة رحيق أنوثتها ورقتها، بين المسافرين، ملبية خدماتهم.. تبتسم رغم الجرح الداخلي.. جرح العنوسة، وانتظار فارس الأحلام الذي لا يأتي، وحين توشك الحافلة على الوصول، تكسو وجهها نظرة محايدة، لا تخلو من كدر، وحزن على هذا الفارس الذي لم تقابله بعد.. هذا الحزن الشفيف يرمز له محمد عطية محمود بانكسار ضوء الحافلة، الذي يغدو باهتا، مثل حلم بعيد، ويذوب في محيط ضوء مدخل المدينة الباهر.. وفي نص"واجهة للـ.. عرض"، نعاين وجها آخر لمعاناة المرأة، حيث الفتاة الفقيرة، القادمة من هامش المدينة، التي تعمل في محل لبيع التحف، بواجهة زجاجية براقة، والتي تأسرها غواية محل العطور، فتجرب زجاجة العطر وأحمر الشفاه، الذين جربتهما بمساعدة صديقتها، التي تعمل بالمحل، ومثلما تتزين المرأة، تقوم بإخفاء عيب بأحد المعروضات.. عند سماع صوت يناديها بالمحل. مما يدفعنا للتساؤل : من يداري شرخ حياة هذه الفتاة، التي تفتقر إلى بعض الزينة والألوان المبهجة.. هناك، حيث الأضواء الخافتة المتباعدة وأكوام القمامة وتلال الروث وزجاجات شراب السعال والظلام ؟ من يجمل هذا الوجه القبيح؟

*****

 

من النصوص الشجية التي تتطرق إلى التفاوت الطبقي الصارخ : "تواصل"، وسنورده مع هذه الورقة بدون تعليق، حتى لا نخدش بهاء تلك اللوحة الإنسانية... ثم أقصوصة "طلة"، حيث بائع السمك الذي يماطل السيدة التي تدلي له سلتها من فوق شرفتها العالية، وجوارها قطها السمين ( لنتأمل صفة القط، ثم وجود السيدة في مكان عالٍ، يشي بمكانتها الاجتماعية)، وهو من تحت ( حيث الدونية) يماطل في البيع، حتى يختلس نظرات من جسدها، ويعطيها ما تريد ويزيد، فتكافئه بضحكات متواطئة...

 

تنهض أغلب أقاصيص المجموعة على تعدد الطبقات السردية، حيث لجأ محمد عطية محمود إلى التمييز الطباعي، حيث توسل بالخط الطباعي البارز للاسترجاعات، (في أغلب الأقاصيص)، أو وظفه للتعبير عن لحظات تشكل منعطفا نفسيا، مثلما في نص "وخز الأماني"، أو للتمييز بين المشاهد الخارجية والداخلية - إذا استعرنا لغة السيناريو- في أقصوصة "الضوء.. والانكسار"، فبالخط البارز يصف مسار الحافلة، وبالخط العادي تتجول كاميرا السرد بين ركابها، ويتنقل الكاتب، ببراعة، في أغلب النصوص بين حالتين، دون أن يحس القارئ بأي خلل سردي أو انتقال مباغت. أما في "متوالية" فقد جاء الخط البارز لتحديد الزمان أو المكان، في بداية كل لوحة سردية.

 وبرؤية إيحائية شاعرية، ولغة مكثفة شفيفة.. تنحاز إلى المهمش والهش والمسحوق، رسم محمد عطية محمود لوحات وومضات، والتقط حالات نفسية... لشخوص من قاع المجتمع.. راصدا انكساراتهم النفسية وبحثهم الحميم عن بارقة أمل ولحظة فرح، متسللا إلى دواخلهم، بفنية عالية.. متنــقلا بين صخب الداخل وصخب الخارج... في عالم ضاج بالتفاصيل والحكايا والخسائر الفادحة والاغتراب الوجودي.. ممتطيا صهوة جواد الأقصوصة البري المتوحش، الذي لا يقربه إلا فرسان الحكي.

 

 

 

 

*نموذجان من أقاصيص المجموعة:

تواصل:

ضغط على أطراف قدميه.. شد جسمه الضئيل لأعلى.. ترك مقود العربة الحديدية ـ المحملة عليها بالة كرتون قديم ـ للحظة، انحشرت فيها أصابعه في تجويف ما بين أسنانه ولسانه.. انطلقت صفارته صوب زميله ، المترامي لبصره، عند نهاية الشارع المكتظ.

واهنا خرج الصفير. زاعقا أتاه صوت آلة تنبيه سيارة من خلفه.

هبط كعباه إلى الأرض. دفع عربته إلى الأمام، منحنيا بها؛ لتحاذي الرصيف.

عاودت قدماه الارتفاع بمشطيهما، وعيناه على مدي رؤيتهما…

توقف باعثا بصفيره الآخذ في القوة ، والمتقطع.

اندلع صـوت من داخل أحد المحلات زاجرا إياه. أوقف صفيره. أشاح بيده . عاود دفع العربة وسط الطريق .حينما لمح زميله يتباعد، توقف .. ارتقي بأطرافه مرة أخرى.. بعث بصفيره ، متتابعا.. زاعقا بأقصى ما لديه.

من على الرصيف، ومن داخل المحلات، ومن خلف مقاود السيارات.. تدافعت عليه الأصوات.. تدفق السباب.. لكن صفيره ظل يتصاعد بلا كلل حتى التفت زميله، وتواصل صفيرهما معا…

 

هــــــــــــــــــــدايا :

قبل حلول حصته التالية..

 تأبط الحقيبة الجلدية الفاخرة (هدية مي).. يضمنها كراسة التحضير مزركشة الغلاف البلاستيكي السميك

 (هدية رشا).. يلاصقها طاقم الأقلام المذهبة (هدية عبير)، علبة زجاجة العطر الثمينة (هدية منار).. يحتل باقي فراغ الحقيبة ملازم المذكرات ، المحظور تداولها بالمدرسة .. يتربع فوقها باكو بسكويت الشاي ـ الوحيد ـ ذو الورق المفضض.

لدى مروره ؛ لولوج مكتب المديرةالحسناء.. تتطلع إليه أعين الزملاء نصف باسمة.. نصف متخابثة.. ترمق الحقيبة والخطوات المنتشية ـ على غير العادة ـ في دهشة و تعجب . يرمقهم من خلف نظارته المقعرة المغبشة . يمط نحوهم وجهه، يشد معه ذقنه غير مبال.

 

على باب المكتب .. يستأذن محييا في أدب جم . يقتعد أول كرسي يقابله في مواجهتها . يخرج ـ من حافظته البالية ـ بطاقة شحن الهاتف المحمول (هدية بسنت). يطلب ـ باستكانة ـ من السيدة مساعدته في إدراج الأربعة عشر رقما السرية لبطاقة الشحن بهاتفه؛ لتستولي الدهشة على ملامح السيدة.

حين هم باخراج الهاتف من جيب سترته المتواضعة ، وقعت الحقيبة على الأرض منفرجة.

مع تبعثر المحتويات، تشتت نظراته المرتعدة بين الأرض، و وجه السيدة التي فغرت فاها بشدة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1389 الخميس 29/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم