أقلام حرة

أحداث 8 شباط ـ 1963 وذاكرة علي العبود *

هي بالأصل إنحناءات كهولة، لم تزل تحتفظ بأمجاد أبطالها العظام ..

الذكريات هنا أشبه ببطاقات عزاء لعاشق أتعبته لغة المكابرة، لتحكي فيما بعد قصصا لرموز رسموا بمواقفهم مسيرة الزمن ..

أولئك شخصيات لم تلوثهم أحداث السنين المصابة بآكلة العفن ..

الناصرية أنذاك منطقة لا تُعرفُ أساطير ملاحمها،إلا عبر بيوتات تجردت من طواغيت أهوائها، فتآلفت تلك الوشائج بين ساكنيها، وصار للمحبة منارة تزهو طوال قرون، لتبقى حية تنبض بشموخ رموزها، التي بقيت خالدة في نفوس تلك الشخصيات . .                        

المشهد كما هو، شعارات، أناشيد، تظاهرات،  ما برحت عالقة في ذهن الصبي،

الهتافات ورفع العلم ويوم الخميس من كل إسبوع، لوحة مشرقة، ما زالت تؤرقها بصمات نفوس لم تنل منها ركامات الكوابيس المثقلة بإمضاءات أحزان الصبر المعفر برائحة الدم وإستغاثات الموت وصراخ التعذيب وملامح التوحش،

تلك المرسومة فوق جباه أولئك الذين استباحوا لغة اللاحياء، فأنفضوا لإرتكاب جرائمهم، بينما نزيف الشهادة يجري،  ليبحر في اقصى أعماق أولئك الذين عمّدوا بدمائهم ومعاناتهم الطويلة أيقونة الحياة، لتبقى أرواحهم أساطير خالدة تنبض في نفوس الطيبين .

حياة الزعيم هنا صورة مشرقة، أسطورة مشرفة صار لها أن تحيا مع إمضاءات زمن مصحوب بنحيب بقعة من الأرض محمولة فوق رفيف قلوب طاهرة وأحياء عاشوا، ليحكوا قيم المجد والتضحية،

لقد كانت حياة الزعيم،  بالنسبة ل علي وأهله وجيرانه تعني تفاصيل المحلة والمدرسة والأهل،  تعني يوم الخميس ومدرسة الشرقية، تعني أستاذ أحمد ورحيم وأم صبحي وفلاح، بل تعني طائرا الحمام اللذان كانا يحلقان بجناحينهما بعيدا بعيدا في أجواء المدينة، ليصطفا فوق رؤوس التلاميذ، الذين كانوا يشعرون بسعادة غامرة وهم يرفعون أيديهم تحية ليوم العلم لكأنهم يبتغون معانقة السماء ....

لهذا جميع التفاصيل، مدرسة قرطبة وإستغاثات الضحايا، إستشهاد سيد وليد الذي تم دفنه حيا، إستشهاد أم رحيم التي خرجت مع ولدها عاجل في مظاهرة سوق الخضارة، إقتياد إستاذ أحمد الى السجن، إضافة إلى أولئك الذين تركت فيهم فطرة النقاء صبغة ألإستيناس بمعاشرة ألأوفياء، شواهد لملاحم ما فتئت تتنفس آفاقها رحيق الروعة وعطر المحبة .

لقد بقي شاخصا علم العراق وهو يحمل إصطفاف التلاميذ، هنالك حيث تستلقي جميع ألأشياء وفق كبرياء تام، كما هنالك  أيضا ًحيث تنبعث الذروة على شكل ألوان قوس قزح، تهيم بها نفوس اولئك الذين لا يعرفون من الحياة الا جمال الطبيعة وإنسياب تدفق أنوارها، هنالك عبر جبروت ذلك التوحد، ينتشرا طائرا الحب،او يمضيان معا في رحلتهما المعتادة،  ليتسلقا  فضاءات سماء تكشف أجوائها عن زرقة محايدة ..

بينما على الضد إذ عندما يتحالف الطيبون مع روعة ألأشياء، الشر قدر مشؤوم يعلن عن ذاته بلا تردد أومبالاة .. يطرق أبواب الحياة مصرا على مداهمة النبلاء بكل وقاحة .. يسرق منهم كل ما بنوه من أحلام، ليدحر مسيرتهم التي تم تشييدها وفقا لجبروت وروعة ذلك الصرح الذي أسمه الضمير ..

 لهذا  ذات يوم ومع تصاعد ذرات غبار داكن تعكر مزاج الصبي، الذي كان يحمل بين دفتيه واحة مشرقة، لقد أختلطت كلمات نشيد المذياع وهو يردد (الله أكبر فوق كيد المعتدي) مع صوت المذيع الذي كان يسعى لإن يقول شيئا ما .. شيء يختلف عن كل ألأشياء، التي تجول في ذهن تلميذ لا يقدر أن يستوعب أثقال الليل المعبأ بأصداء الكوابيس..

التساؤل هنا موضوعة مباغتة إجتاحت أفكار الصبي، لعل ألإجابة تعلن عن بركان تمردها، الذي كان ينتشر متدفقا بالضد من نبرة المذياع، بل وبالضد من أصداء ما كان يسمع، ليسأل أباه عن حقيقة ما يجري ..

الأحداث تنذر بشيء ما، تمضي بطريقة مدهشة، لكإنها إعصار ريح مباغتة أقبلت من جهة مظلمة، شيء يهدد بإعباء خبر مخيف، راح يتحرك خارج دائرة التصور التي أتيح لها التساؤل عما يبثه المذياع،

  البيان هنا هو صوت يبثه المذياع،

ـ سأل الصبي ما ذا حدث ؟

أجاب ألأب بنبرة حزينة : انقلاب ضد الزعيم يا ولدي .

هنا ومع تدافع مشاعر الصبي، إمتزجت الأسئلة مع ما جاء به المذياع،

 (لقد قتلوا الطغمة الحاكمة الشعوبية)

 هنا خبر نزل كالصاعقة، ليستلب مشاعر الصبي الذي راح مذهولا خلف أستار البحث عن حقيقة الخبر، سؤال يصعب على طالب الصف الخامس الإبتدائي إدراكه أو تصديقه، خاصة ان أخبار القتل راحت تتفاعل مع مقولة الإنقلاب، التي تم تفسيرها من قبل والد الصبي على انها تحمل معنى الإطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وقتله،

 أناشيد لم تسمع من قبل  راحت تتفاعل في ذهن علي الذي وجد نفسه مصعوقا بكلمات غير مألوفة (الله اكبر فوق كيد المعتدي)، ترى ما المقصود ب  المعتدي؟

(المعتدي) كلمة إرتبطت بموضوعات لم تجد لها بابا من أبواب التفسير، فهي لم تأخذ طريقها الى مشاعر التلميذ الذي لم يرسم في واحة مشاعره إلا زوارق المحبة وزقزقات العصافير، تلك التي تحلق فوق أجنحتها حبات السنابل،

ولهذا لقد بقيت صورة  الخبر، تحمل بين ثناياها اخبارا مخيفة راحت تخط معها أسماءا أخرى فرضتها لوائح الموت الذي راح يكشر عن أنيابه ...

*مدخل عن أحداث 8 شباط  1963 الناصرية /  سجلتها ذاكرة علي العبود .

 سيتم نشر المقاطع الأخرى تباعا بعون الله .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1406 الاثنين 17/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم