أقلام حرة

نشكو الى الله البصرة الرعناء (*)

فانا اكاد اشم عبق تواضع وكلمات وتصوف وايمان الحسن البصرى، ومالك بن دينار، ورابعة العدوية، وأبي عمرو بن العلاء، وهارون بن موسى العتكي، وأبوموسى الأشعري، والخليل بن أحمد الفراهيدى، ويونس بن حبيب، والاصمعي، والجاحظ وحنين ابن اسحاق والحسن بن الهيثم البصرى وواصل بن عطاء .

اكاد اسمع صدى صوت الفرزدق يدوي في سوق المربد :

جَزَى الله عنّي في الأمورِ مُجاشِعاً         جَزَاءَ كريمٍ عالمٍ كيفَ يَصْنَعُ

فإنْ تَجْزِني مِنْهُمْ، فإنّكَ قادِرٌ،               تَجُزُّ كَما شِئْتَ العِبادَ وَتَزْرَعُ

يُرِقّونَ عَظْمي ما اسْتَطاعُوا وَإنّما          أشِيدُ لَهُمْ بُنْيانَ مَجْدٍ وَأرْفَعُ

وَكيْفَ بكُمْ إنْ تَظلمُوني وَتَشتكوا           إذا أنا عاقَبْتُ امْرأً، وَهوَ أقْطَعُ

إذا انْفَقَأتْ مِنْكُمْ ضَوَاةٌ جَعَلْتُمُ                عَلَيّ أذَاهَا، حرقها يَتَزَرّعُ

تَرَوْنَ لَكُمْ مَجْداً هِجائي وَإنّما               هِجائي لمَنْ حانَ الذُّعافُ المُسَلَّعُ

اكاد اسمع السياب القادم من جيكورفغيرمسارقطارالشعرالعربي الذي كان يمشي على سكة ضيقة من العصرالجاهلي الى القرن التاسع عشر، اشتغل بصمت وعمل بصمت ومات بصمت  اكاد اسمع صوته الحزين وهو ينشد متمددا على سريرالموت في المستشقى الأميري بالكويت  :

عيناك غابتـا نخيـل ساعـةَ السحـر

أو شرفتان راح ينـأى عنهمـا القمـر

عيناك حيـن تبسمـان تـورق الكـروم

وترقص الأضواء . كالأقمار فـي نهـر

يرجّه المجـذاف وهْنـاً ساعـة السحـر

.............................................

مـطـر

مطـر..

مـطر..

فــي كــل قـطـرة مــن المـطـر

حمراء أو صفـراء مـن أجنـة الزهر

وكـل دمعـة مـن الجـيـاع والـعـراة

وكـل قطـرة تـراق مــن د م العبـيـد

فهي ابتسام فـي انتظـارمبسـم جديـد

أو حلمـة تـوردت علـى فـم الولـيـد

في عالم الغد الفتي، واهـب الحيـاة

ويـهـطـل المطـر

وغابة النخيل التي يتغنى بها السياب كانت تضم ثلاثين مليون نخلة بالتمام والكمال، قبل ان يغتالها صدام ويقتلها وهي واقفة . وقبله كان الحجاج بن يوسف الثقفي رأى فيها رؤوسا قد ايعنت وحان قطافها، فعملت فيها سيوفه ودحرجتها على الأرض .

اكاد اسمع فرقعة السيوف ووقع حوافرخيول بني العباس وهي تكرعلى اكواخ الزنج المصنوعة من سعف النخيل وورق البردي، واشم رائحة النارالتي تلتهمها واختنق بدخانها..

واسمع خريرريشة ابي سليمان بن محمد البستي وابي الحسن علي ابن هرون الزنجاني وهما تغوصان في المحبرة لتسطران كلمات الرسالتين الخامسة والسادسة من الرسائل الخمسين لأخوان الصفا.

اكاد احس في فمي طعم حلاوة البصريين وطيبتهم اللتين هما من حلاوة البرحي والخضراوي والخستاوي والقنطاروالبريم والحلاوي.. وارى تمايل قامات صبايا البصرة على ايقاع رقصات الخشابة والسامري والهيوة.

اكاد اشم النسيم المتدفق من شط العرب، واسمع حفيف النخل الذي يتراقص علىانغام شبابة حادي يقود الأبل الى الواحات الشرقية .

ومن بعيد ارى مرفأ استيراد البخورمن بلاد العرب ومن بلاد العجم ومن الهند والسند. فقد كان معبد كمعبد (بعل) في زمن ملك بابل، يستهلك لوحده سنويا الف طن من البخور، ويحرق كهنته عشرة آلاف وزنة تأتيهم من البصرة.

والبصرة التي كانت جزءا من دولة سرجون الأكدي، حط فيها الأسكندر المقدوني وعسكر فيها فترة عندما احتل العراق عام 233 قبل الميلاد .. تحمل اسماء لا تحمل مثلها اية مدينة عراقية اخرى..

فبعد ان كانت (خريبة) عادت لتصبح سوق العالم وخزانة الأدب وعين الدنيا والمؤتفكة وبندقية الشرق وعروس الخليج ومنارة العقاب وذات الوشامين والبصرة العظمى والبصرة الزاهرة وثغرالعراق الباسم والفيحاء وقبة العلم ومدينة الشناشيل.

لكن ان تكون رعناء! فذلك لتقلب الجوفيها اثناء اليوم الواحد لاسيما في فصل الربيع..

وعن اسمائها اجتهد الباحثون والمؤرخون، كل حسب هواه وكل حسب علمه.. فالأخفش يزعم ان البصرة تعني الأرض ذات الحجارة الرخوة الصغيرة المائلة الى البياض..وحمزه الأصفهاني يدعي ان اصلها فارسية وتعني الطرق المتشعبة.. ويعقوب سركيس ردها الى الكلدانية وزعم انها تعني الأقنية اومحل الأكواخ.. وقال عنها آخرانها اكدية مشتقة من كلمة صيري وتعني الصحراء وانها وردت

في حوليات سنحاريب كأسم لقبائل حاربها .. وقيل انها سميت البصرة لأنها كانت تقع على مرتفع من الأرض وان من يقف عليه يستطيع أن يرى ما حوله .

ومع كل ما تقدم تبقى البصرة هي من انجبت اجيالا من المتنورين والشعراء والفنانين والمناضلين واصحاب مهن..

واجيالا اخرى يفوقونهم عددا من الطيبين.

 اما من اين مصدرهذا الود الذي اكنه للبصرة؟

فانا احب المدن التي تتولىالجبال والبحارانشاءها، وتحتضنها اشجارالجوزوالتمروالعنب..واحب الموانىء التي تستقبل المراكب والسفن الشراعية والبخارية وتودعها. وتزود راكبيها بالتمروالزبيب والماء الرقراق زادا للسفرنحوالمجهول وكشف ماهوغيرمكتشف..

اليس ابن أبى عينية المهلبي، قد قال فيها:

يا جنّة فاقت الجنان فما               تبلغها قيمة ولا ثمن

ألفتها فاتخذتها وطنا                   أن فؤادى لمثلها وطن

زوج حيتانها الضباب بها             فهذى كنه وذا ختن

فانظروفكّر فيما تطيف به            أن الأريب المفكّر الفطن  

من سفن كالنعام مقبلة                  ومن نعام كأنها سفن

اوليس ابن بطوطة من قال في اهلها بانهم خصوا بطابع كريم مع الأغراب، يعطونهم حقوقهم كاملة، ولا يجد الغريب فرقاً أو تمييزا؟

ولم يبالغ ابن بطوطة، فقد كانت معابد اليهود، وكنائس المسيحيين تجاورمساجد وحسينيات المسلمين.. وتتعايش في محبة وسلام .ومعها يتعايش الهنود الذين سكنوا الصرة حتى صارت لهم سوق تحمل اسمهم.. و نبي الله (العزير) مدفون في (زمزوم) على نهر دجلة، كانت السفن تنقل زوار قبره من يهود ومسلمين وغيرهم ..

والبصرة حالة استثنائية قلما تتكررجغرافيا او حتى تأريخيا.. فهي مدينة ساهمت في تشكيلها ثلاثة بحار: بحرالماء وبحرالشعروبحرالنفط.

اغلب الظن انني منذ ان تطلعت الى خارطة العراق أول مرة (وكان ذلك في خمسينيات القرن الماضي) اكتشفت عليها دائرة في اقصى الجنوب، اوقل نقطة صغيرة تشيرالى مدينة تشكل الرئة التي يتنفس بها العراق.

وعندما كبرت عرفت ان كل ما كان ياتينا نحن اهل اقصى الشمال، من كتب ودفاترواقلام وطباشيرواصباغ وبهارات وبخورودراجات ومراوح ، كان من البصرة.. 

وان كل الروايات ودوواين الشعرالتي قرأناها مترجمة كانت تفرغ من المراكب المشحونة الى البصرة .

وكل الحناء الذي كان يصبغ راحة ايدي العرسان، كان ياتينا من البصرة.

ولي في البصرة احبة من صحفيين وكتاب عرفتهم، واعزة قرأت لهم آثارهم او تمتعت بمشاهدة لوحاتهم ولم اعرفهم  ومنهم زكي الجابر، ومحمودالبريكان، وفيصل لعيبي، وعادل كاظم، وصديقي العزيزالشاعرالفنان محمد سعيد الصكار.

و(صكار) بعد ان ودع البصرة بدمعتين سالتا من تحت نظارته الطبية، كان مكتبه في شارع الجمهورية ببغداد في سبعينيات القرن الماضي ملتقى صناع الكلمة ومبدعي الحرف والتتشكيل وعازفي العود وناقري الطبل.. وبين الحين والحين كنت ارى في مجلسه من جاء من البصرة وعلى ملابسه آثاررذاذ بحارالبصرة الثلاثة، وبقايا من مزيج التمرالمدقوق والسمسم المطحون..

وعندما كبرالعراق وكبرت مشاكل العراق ..وخيم عليه ظلام الدكتاتورية والحزن، كان الظلم الذي اصابنا، قد اصاب البصرة..والنظام الفاشي البائد وزع القمع علينا بالتساوي..هدم قرى كوردستان وقطع اشجارالجوز ونسف عيون المياه، وقطع نخيل البصرة.. قتل شباب وشابات كوردستان، واعدم شباب وشابات البصرة..غيرجغرافية كوردستان وشكلها على مزاجه، وغيراسماء معالم البصرة وعلى مزاجه..دفن رجال ونساء كوردستان في صحارى وسهول العراق وهم احياء، واعدم رجال ونساء البصرة باطلاق الرصاص على رؤوسهم وهم مكبلين، ودفنهم في قبورجماعية.

البصرة - ومعها الجنوب المغدور- وضعها عسف الحاكم المستبد في خانة التخلف، وخانة الاستعباد، وخانة النبذ الجماعي.

اديم ممتدة على مدى رؤية النظر، تشكوالعطش وتنتظر بفارغ الصبران يهطل عليها مطرالله، بعد ان حبس عبدالله عنها الماء..

مدن تشكو الفقرويعيش اهلها في اكواخ القصب، نساؤها متعبات في تحضير لقمة اولادهن، ورجالها مشاريع عبثية في الموت على تخوم الشرق في سفرشيطاني دام ثمان ساعات، وثمانية ايام، وثمانية  دقائق..بل دام اكثر من خمسة وثلاثين سنة.

شيوخها بكوا فلذات اكبادهم الذين توزعوا في مشارق الأرض ومغاربها عندما لم يسعهم الوطن المحكوم بالرعب والعسف والأضطهاد ..

كوردستان، والبصرة- ومعها الجنوب- كانا مطاردين من صائدي الرؤوس وصائدي الغزلان، وصائدي النورس والقبج.

مطاردين، لغة، وطائفة، وعرقا، وتأريخا..

اشجارالنخيل مطاردة حتى لاتكبرالتمرة بين طيات سعفها.. واشجارالجوزمطارة حتى لاتثمر..

والجبال مطاردة حتى لا تصادق الثواروتخبئهم في مضائقها وشعابها ومفازاتها..وبحارالبصرة الثلاثة مطاردة حتى لا يبحرسندباد في بحر، ولا ينظم شاعرقصيدة على بحر، ولايتدفأ الأنسان ببحرالنفط .

نساؤنا مطاردات حتى لاينجبن العلماء والثواروالشعراء والفنانين..

مآذننا مطاردة حتى لا ترفع اصوات استغاثتنا الى رب العالمين.

لكننا الآن وفي العام العاشر بعد الألفين، نجلس القرفصاء في حضرة الحسن البصري ونشكو اليه حكامنا الذين ملكهم الله كعبيد ائتمنه اصحابهم واستحفظوهم مالهم وعيالهم، فبددوا المال وشردوا العيال وافقروا الأهل..

نشكوه ان علماء الفتاوى جعلوا من علمهم وسيلة للاستجداء على الفضائيات، وتكفير عبادالله وحل دمهم.

نشكوه ظلم اولياء امورنا الذين لايلتمس كلهم سبيل الجنة..

اوليس القائل عندما اتاه رجل من البصرة سائلا : يا ابا سعيد اني حلفت بالطلاق ان الحجاج في النار، فما تقول اقيم مع امرأتي ام اعتزلها؟: كان الحجاج فاسقا وما ادري ما اقول.

نضع رؤوسنا المتعبة على صدرواصل بن عطاء ونبكي..

نشكو اليه سقوط العدالة وانكسارالمنطق وجنون العقل امام جبروت المقاولين والسماسرة وتجارالسلاح وتجارالبترول ومروجي الحشيشة والخشخاش..

نشكوى اليه قساوة السماء المعدنية التي تمطرنا غثيانا وقرفا وعدوانا..

نشكواليه تعدد مصادرالفتاوى التي تعلب افكارشبابنا كالسردين.. وتحدد مسارحياتهم فتلبسهم ثوبا اقصرمن اجسادهم، وتزودهم بالاحزمة الناسفة لركوب قطارالجاهلية السريع المتوجه صوب جنات النعيم، على امل تناول وجباتهم على مائدة الصحابة والشهداء والصديقين ومعاشرة الغلمان والحسان على ضفاف انهارالكافوروالعسل..

نشكوه ظلم ذوي القربى، وجحود ناكري فضل مناضلينا على كراسيهم المرصعة وقصورهم الفخمة وسياراتهم الفارهة. فلولا كفاحهم، ولولا صمودهم، ولولا بسالتهم، ما كانوا ليصلوا الى مصاف الفراعنة والقارونات وخازني الذهب والدولارات.

نشكوالله هموم ثوارنا الذين يقفون مكسورين وحزينين امام بوابات المدن الجنوبية فلا يجدون من يرحب بهم وينفض عنهم غبارالسفر الذي استغرق اكثر من ربع قرن، لايقدم لهم احد قطعة قماش يلفون بها جرحهم او خبزا ممزوجا برائحة تراب الأرض، او يشتري منهم بطولاتهم وذكرياتهم وقصص صولاتهم، او يشتري منهم بقايا الكلمات التي دونوها في دفاتر يومياتهم..

نشكوه دماء الشهداء، و دموع الأمهات الثكالى اللواتي لم يدخل عليهن احد ولم يقدم لهن احد رغيف خبزاو قنينة ماء يغسلن به بؤسهن وينسين به عذابهن..

نشكوه حسرة الأطفال اليتامى الذين يقفون على ابواب مقارهم الموصدة علهم يحصلون على حقيبة مدرسية او دمية يحتفلون بها في عيد الأضحى.

 

نشكو الى الله البصرة (الرعناء)..

[email protected]

-------------------------

(*) اشارة الى اسم من اسماء البصرة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1409 الخميس 20/05/2010)

 

في المثقف اليوم