أقلام حرة

المايزور السلمان عمره خسارة .. ضريبة ألوطنية في زمنها

ورغبة جامحة لا نعرف عواقبها ونحن نتصدر تلك التظاهرات أمام إخواننا الكبار، وعندما نشاهد من يرتدي زي الشرطة يقترب من المظاهرة وحتى ولو كان مستطرقا تختل موازيننا ونترك الأمر لمن خلفنا . كل ما في الأمر معهم نصيح وبصوت عالي ولربما أعلى الأصوات (المايزور السلمان عمره خسارة) .

 

في عام 1954 ولا استطيع تحديد اليوم أو الشهر ولكني أتذكر الوقت والمكان الذي اصطحبني شقيقي الذي يكبرني رحمه الله الى محلة السراي في مدينتنا الحي،كان الوقت عصرا لندخل احد البيوت في تلك المحلة، انه بيت حسن ميشه . غالب الابن الذي كان معتقلا في سجن نقرة السلمان وأطلق سراحه بعد ان أكمل فترة محكومتيه أو حجزه

كان العديد من أبناء المدينة قد حضروا إلى تلك الدار للسلام على المحتفى بإطلاق سراحه، في تلك الغرفة الصغيرة والكبيرة صارت بالحاضرين الذين يتوافدون على تلك الدار .

 

المرحوم غالب اخذ يتحدث مع زائريه عن تلك السفرة وفترة الإقامة في ذلك المكان الصحراوي النائي وكيف كانت الأفاعي والعقارب تشارك السلطة او إدارة السجن في إزعاج السجناء ويتحدث عن امكانية الهروب، من ذلك السجن . ولكن من يؤمن الوصول الى ألآرض الخضراء أو احدى المدن القريبة؟، السماوة هي الأقرب ..، المنطقة التي تمتد من قضاء السلمان الى مدينة السماوة عبارة عن كثبان رملية متحركة كل هذه تحدث بها على الحضور، أنا بدأت أفهم معنى الأهزوجة التي كانت تردد على اًلسنة وحناجر المتظاهرين ومنها فهمت إنهم يتمنون الذهاب الى السلمان للتباهي بالنضال والتحدي واعتبار الذهاب إلى سجن السلمان وسام شرف و مرحلة هامة من مراحل جعل السلطة عاجزة عن تغيير الأفكار والقناعات التي كانوا يؤمنون و ينادون بها . وجعل حديثه مشوقا للحضور عن الأسماء اللامعة التي تصدرت النضال الوطني في تلك الفترة التاريخية التي تواجدت في ذلك السجن. وبعض الحاضرين يسألونه عن هذا وذاك ممن عرفوهم بشجاعتهم وتوليهم المسؤولية في تلك المرحلة النضالية .

لم تمضي شهورا عديدة من ذلك العام رحل غالب حسن ميشه في حادث مأساوي. (1)

المهم من تلك الزيارة عرفت معنى هذه الأهزوجة التي يكره الوالد رحمه الله ذكرها على ألسنتنا ورده على قائلها : (فال الله ولا فالكم). أذ يعتبرها نذير شؤم، لملله من متابعاته وزياراته المزمنة والمتكررة الى سجن الكوت ومعتقل الحي لتعدد فترات اعتقال أخي في اغلب حملات الاعتقالات التي كانت تطال أعداء النظام الملكي  .

 

بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة أطلق سراح جميع السجناء والمعتقلين السياسيين ومنهم سجناء السلمان، وكان البعض يطلق عليهم إنهم من أصحاب أهل الكهف لعزلتهم عن العالم الخارجي،إلا مع أنفسهم . لصعوبة مواجهتهم من قبل أهاليهم وذويهم وعديد من المرات لا تتحقق المواجهة بسبب الإجراءات التي تتخذها إدارة السجن بالتنسيق مع الشرطة ومن مدينة السماوة يتم ارجاعهم بخفي حنين.

 

لم تستمر الحال طويلا على إغلاق السجن ولكن عندما بدأ الاحتراب بين القوى والأحزاب السياسية المتنازعة على كيفية تحقيق المنجزات لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، وتصاعد وتيرة الخلافات بين تلك القوى التي انشطرت آراءها على الوحدة أو الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، عادت من جديد المعتقلات والسجون وعاد السلمان مرة أخرى ملاذا ومأوى لأصحابه القدامى وأعادة ذكرياتهم التي سجلوها على جدرانه وابواب قاعاته، واتسعت اعداد نزلائه بعد اشتداد القتال في كردستان وظهور قوى معارضة لتلك الحرب من خلال مذكرات الاستنكار،التظاهرات والوفود التي كانت تدخل وزارة الدفاع أحيانا عنوة لتؤكد مطلبها الشعبي بإحلال (السلم في كردستان) ولكن من يعتقل هناك لهم (فلتره) من قبل الاجهزه الأمنية المعنية في التوزيع على السجون والمعتقلات وخصوصا سجن نقرة السلمان له خصوصيته ومختصيه من النزلاء .

 

الأهزوجة ضاع صيتها بعد انتصار الثورة ولا احد يترنم بها اذ استجدت شعارات جديدة أحيانا تكافح السلطة على نهجها اللاديمقراطي وأحيانا كثيرة تساندها على وطنيتها التي لا يشك بها احد لحد هذا اليوم ، وكأن لسان الحال يقول الاختلاف مع قيادة السلطة خلاف حبايب، ولكنه جلب ويلات لا يمكن نسيانها .

كما حصل فيما بعد، من القتل والإعدام والمطاردات وابتداع وسائل جديدة في اختيار السجون كما في قصر النهاية الذي صار مسلخا بشريا للعشرات من المعتقلين .

 

يوم الثامن من شباط عام 1963 صبيحة يوم الجمعة المصادف الرابع عشر من رمضان، في ذلك اليوم احترق الأخضر بسد اليابس .

قتل حسب المزاج والأهواء العديد من الأبرياء مدنيين وعسكريين نساء ورجال، بتهم غريبة عجيبة هذا (صفق للزعيم عبد الكريم) وذك صاح (سبع ملايين تريد حزب الشيوعي بالحكم)، وهذا يصيح بصوت عالي (أنريد السلم بكردستان)، وهؤلاء (رفضوا المشاركة أو وقفوا بوجه الاضطراب) الذي قاده الاتحاد الوطني نهاية عام 1962، ولسرعة تصفية هذه الشرائح صدر البيان رقم 13 سيء الصيت الذي يقضي بإبادة الشيوعيين أينما وجدوا وحلوا وارتحلوا وتمت تصفية حسابات . وزادت أماكن الحجز للمشتبه بهم في ألمدارس،السينمات،الملاعب، وأفضل ما فيها النادي الاولمبي في الاعظميه وقصر النهاية (طيب الذكر ..؟) الذي وفقت بزيارته في تشرين الأول عام 1971 .

وارتفع رصيد المعتقلين والمحجوزين في سجن نقرة السلمان بعد إضافة ما يقارب على الإلف معتقل إلى السجن على خلفية حركة الشهيد البطل حسن سريع في 3 تموز 1963 اذ نقل حوالي ألف معتقل من سجن معسكر الرشيد رقم واحد الى نقرة السلمان بقطار نقل الحمولات والبضائع الى السماوة وأطلق عليه قطار الموت .

ولكني بقيت مراهقا ومتذكرا الما يزور السلمان عمره خسارة وكأنها أمنية لابد من تحقيقها .

 

بسبب رفض المشاركة بالإضراب الطلابي نهاية عام 1962 الذي قاده الاتحاد الوطني اعتقلت مع مجموعة من الزملاء في معهد الصحة العالي في بغداد يوم 17 شباط من عام 1963 احتجزنا في احد الدور السكنية في منطقة باب المعظم وللأمانة والتاريخ لابد من ذكر من اعتقل معي من الزملاء الطلبة عادل شمخي، ماجد عبد الستار، غالب حاج محمد الجنديل، عبد الرضا حسن الساعدي ومعذرة لمن غاب عن الذاكرة .

 

ومن بعد ذلك نقلنا عصرا إلى منطقة مجهولة وكنا سبعة عشر محجوزا اركبنا في سيارتين بيكب شوفرليت وبحراسة مشددة من قبل أفراد الحرس القومي كنت ضعيف البنية، جلس في حضني طالب الحقوق شهيد عيسى اليوسف وكان بدينا تألمت من مضايقته لي وشكوته باني سأختنق أجابني بهمس (الموت بهاي الطريقة أفضل لك) وصلنا إلى البناية الفخمة عرفنا المكان هو النادي الاولمبي الكائن في الاعظمية .

 

التحقيق يجري على قدم وساق يصحبه التعذيب ونسمع الصراخ من شدته وبين فترة واخرى يتفحص في وجوهنا من حضر للتشخيص من أفراد الحرس القومي، لا أنسى ذلك الشاب من الحرس القومي ويصغرنا في سنه عندما تعرض بالتقريع الى شهيد عيسى اليوسف قائلا .: (ها جابوك ايه هم زين من شفتك اشلون جنت اتجر بالزمال وتقول عليه هذا جمال عفلق الحوراني .؟) عمي انته مشتبه واني ما اعرفك اول مرة اشوفك ..؟ زين أني شسمي .؟ (شنو أني مولدك) ولكن خلصنا من هذا الموقف عندما جاء احد افراد الحرس وهو يصيح يالله السبعطعش أخذوهم، .. الى اين ..؟ لا ندري ؟

 

لن نبيت في النادي الاولمبي في تلك الليلة ولكن أرسلنا في ساعة متأخرة منها إلى معتقل خلف السدة الذي كان حديث الإنشاء والحمد لله على نعمه، لان قاعاته كبيرة وفارهة وكل قاعة وضع فيها حوالي ألمائتي وخمسون معتقل أو محجوز كنا في القاعة رقم عشرة يوم احتجازنا في 17 شباط والقاعة رقم 11 بدأت تستقبل زبائنها من أنصار الجمهورية وانجازاتها. ولا أريد ان أكون ما أكون حيث أطلق سراحي لكوني حدث ابلغ من العمر سبعة عشر عاما وسبعة أشهر والواسطة لعبت دورها كونها مؤثرة وقوية .

 

عدت إلى المعهد الذي اعتقلت منه معهد الصحة العالي الكائن في منطقة العيواضية، تخرجت وتم تعييني عن طريق مجلس الخدمة بعد جلب الموافقات الأمنية شأني شأن باقي الزملاء من الخريجين .

مكان التعيين والمباشرة تجاوزت السنة والنصف في ناحية شيروان مازن التي تعني باللغة الكردية (الأسد الكبير) التابعة لقضاء ميركه سور والتي تعني باللغة الكردية (الأرض الحمراء) وهو من أقضية لواء اربيل .

 

(بعد عيني يانكرة السلمان هذي شيروان) الثلج بالشتاء للهامة فرصة الذهاب بالإجازة إلى مدينتي بالسيارة ثلاثة أيام لو أوصل لو لا، بشار بدل شعارك (المايزور شيروان عمره خسارة) طريقها غير معبدة اغلب وسائل النقل المتوفرة البغل أو الاعتماد على الإمكانيات الذاتية واعني بها السير على الأقدام مسافتها سبعة عشر كيلو متر في طريق جبلي وعر ولا أنكر وجود سيارة الدوج باور دبل اكسل التي تزور الناحية مرة كل اسيوع وفي الشتاء تنقطع بنا السبل وإذا تلبدت الأجواء بنذير شؤم القتال فحدث ولا حرج وهي منطقة كانت تحت سيطرة المرحوم الشيخ احمد البارزاني شقيق القائد الكردي المرحوم ملا مصطفى البارزاني .

 

سنة ونصف عشت في تلك الناحية النائية بين الإخوة الكرد البارزانيين وقد توطدت علاقتي معهم بشكل كنت احسد عليها بسبب التفاهم المشترك مع العلم لا اجيد اللغة الكردية . وصرت قريبا منهم .

يوم 8 / 3 /1966 انفككت إلى الصحة الريفية في الديوانية .

 

لم تمض ستة أشهر على مباشرتي، جاءت بدون عناء ولا عقوبة ولا خربطة ولحد ألان لا اعرف سببا للنقل الى نقرة السلمان والحمد لله الواحد القهار. عندما بلغني احد الزملاء بالأمر الإداري وكنت توا عائدا من مهمة التلقيح ضد مرض الكوليرا، استقبلني بتهكم وسخرية قائلا، استلم أمر الشكر والتقدير على جهودك التي تبذلها (2)

 

يوم 17 /10 / 1966 شددت الرحال نحو أمنيتي التي تحققت بعد أكثر من عقد من الزمان وفي سيارات الباص التي تنطلق من مدينة السماوة نحو السلمان، لتقديم الخدمات الطبية والعلاجية لأفضل شريحة من شرائح مجتمعنا وشعبنا العراقي أنهم رموز شامخة من الشعراء والأطباء والأدباء والفنانين وبسطاء وكسبة وعمال ومعلمين ومدرسين وفلاحين مجتمع متكامل تعرفت وتوطدت علاقاتي مع اغلبهم رحم الله من راح منهم (3)(خليصا غير مديون)

الراحل أبو وميض سامي احمد ممثل السجناء لدى إدارة السجن مرتضى البجاري معلم و مسؤول الصيدلية الحاذق وصباح حسن غلطه و هاشم عبد الصاحب، شعبان كريم،سامي محمد علي الطالب في كلية الآداب، أنور محمود طه، سليم الفخري، مقدم مطيع عبد الحسين، فتاح طه، هذا ما حفظته الذاكرة من الأسماء اللامعة ومعذرة لمن خذلت في استذكاره، وكان عددهم بحدود المائتين وخمسين سجين .

 

ولا أنسى آلة ضغط الدم هدية من الدكتور عبد الصمد نعمان تركها لهم عندما كان سجينا ووجدت سمعة طيبة يتحدث عنها الأهالي والسجناء عن الدكتور رافد صبحي أديب الذي كان يقدم خدماته الجراحية إلى السجناء والآهلين بالآلات الجراحية البسيطة المتوفرة، وكذلك شاهدت كميات لا يستهان بها من أدوية السامبل التي يتبرع بها العديد من الأطباء والصيادلة من أغلب المدن العراقية تضامنا معهم .

 

بهمة وحيوية جعلوا من هذا المعتقل الصحراوي مركز إشعاع فكري وثقافي مساحته واسعة بنزلائه.

فيه عشرة قاعات وظفوا تلك القاعات لنشاطهم الإبداعي، قاعة لمكافحة الأمية، وقاعة مكتبة ومطالعة، وقاعة ورشة عمل ولا أبالغ إذا قلت عندما يكون عندنا عطل في احد الأجهزة الكهربائية العائدة لمستشفى النقرة نستعين بأحد السجناء من ذوي الخبرة التي اكتسبها في السجن، وهناك قاعة تعليم اللغات .

كل قاعة من تلك القاعات أشغلت للإنتاج والإبداع، من أمسيات شعرية ومسرحيات حيث كان أبناء القضاء يسمعون أصواتهم في أداء أناشيدهم بالمناسبات الوطنية التي لا تفوتهم .|

عام من العمل والخدمات مع من أحببتهم في طفولتي وكأن دينا في ذمتي أريد سداده .

ذكرتهم بالأهزوجة التي كنت أشاركهم في ترديدها في الطفولة واليوم معهم (4) المايزور السلمان عمره خسارة

 

....................

(1) استشهد بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحه في حادثة القطار الذي اصطدم بسيارة الباص التي تقلهم لأداء

زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام في منطقة سدة الهندية

(2) زميلي الموظف الصحي الصابئ الطيب رزاق خطاب كان مسؤول الذاتية في العيادة الطبية المركزية في الديوانية بلغني بالأمر الإداري متهكما

(3) الشهيد جبار عنيد توفي في السجن وهو كان محجوز لكونه رفض إعطاء البراءة سيئة الصيت

(4) كنت على صلة وثيقة مع الرفيق الراحل ابو وميض ونتحدث بمثل هذه الأحاديث

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1410 الجمعة 21/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم