أقلام حرة

متى يصبح وزراؤنا مثل وزراء العالم الآخر؟

(كتاب يحمل بين صفحاته بطاقة كتبت عليها العبارة التالية: "هدية من وزير الداخلية إلى موظفي الوزارة". وتضمن نصوصا ومنتخبات لأبرز مفكري وفلاسفة الثورة الفرنسية ونصوصا قانونية تتحدث عن الجمهورية والمواطنة  وتجرّم التعذيب والظلم والتجاوز مبادئ وقيم هي قاسم مشترك بين جميع الفرنسيين ومصدر فخرهم ونخوتهم.. وشدتني العبارة التالية:" مبادئ الجمهورية تجعل المواطن في فرنسا أفضل من باشا في غيرها)

وقد وقفت طويلا أمام  هذا الكتاب لا من حيث المحتوى الذي لا أعرف شيئا مما جاء فيه أكثر من إشارات الأستاذ العوني المقتضبة ولكن من حيث فكرة قيام وزير بتأليف كتاب تعليمي إرشادي لموظفي ومنتسبي وزارته يضمنه نصوصا ومنتخبات تعود لمفكري الثورة الفرنسية وأخرى عن فرنسا الحديثة وحق المواطنة وأخيرا تعليمات لرجال الأمن عن طرائق التعامل مع المواطن،

وكما شدت الأستاذ العوني عبارة الوزير(مبادئ الجمهورية تجعل المواطن في فرنسا أفضل من باشا في غيرها) شدتني أيضا وبشكل أكبر وأكثر عمقا وقتلتني الحسرة أنا صاحب التجربة المتكررة المرة مع رجال الأمن يوم امتهنوا كرامتي وكرامة ملايين العراقيين في معتقلاتهم ومرغوها بالوحل ورسموا على أجسادنا صور الكابلات الكهربائية التي كانت تعانق جلودنا لتترك عليها قبلها وتحياتها كل ذلك لكي يرضا الوزير لأن رضا الوزير عندنا في العراق وفي أغلب دول العالم العربي لا يتحقق إلا بإيقاع اشد وأقسى أنواع التعذيب بالمعتقل حتى وإن كان بريئا أو مشتبها به.

 وكانت توصيات الوزير تأتيهم مكتوبة ليس بكتب ومؤلفات مثلما يفعل الآخرون وإنما بقصاصات ورقية حقيرة وصغيرة تستخدم لكتابة الملاحظات مكتوب فيها (أقتلوا فلانا) (زيدوا في تعذيب فلان) (شوهوا وجه فلان) (زيدوا في إذلال فلان) ومثلها كانت ترفق أوراق من نفس الفئة مع أضابير التحقيق التي ترسل إلى محكمة الأمن الصورية يحدد فيها الوزير وليس القاضي الصوري مدة العقوبة التي يجب أن يحكم بها على المتهم والتي لا تقل في كل الأحوال عن خمس سنوات وشهر واحد وهي العقوبة التي كانت توقع على البريء طبعا لأن من يدان يرسل فورا إلى مثارم اللحم العملاقة لتعطى بقاياه إلى أسماك دجلة أو يلقى في أحواض حمض التيزاب المركز لكي لا تبقى له باقية وإن تلطفوا به ورحموه يلقونه في حفرة صحراوية ويطمرونه بالتراب وهو حي ليصبح واحدا من جيش المقابر الجماعية. أما خباثة وحقارة إضافة الشهر الواحد إلى مدة الحكم فذلك لكي يودع السجين في سجن (الثقيلة) لأن قاعات السجن كانت تقسم إلى ثقيلة وخفيفة ومن يوضع في الثقيلة تمنع عنه مواجهة الأهل والمحامين ويبقى معرضا للتعذيب والاستجواب في الليل والنهار وأما الخفيفة فيودع فيها من يحكم عليه بخمس سنوات أو أقل ويسمح لهم فيها مواجهة الأهل.

النكاية التي تثقب القلب وتدمي الفؤاد وتشعر الإنسان العراقي بتفاهته وتؤكد بما لا يقبل الشك أننا لسنا على استعداد لتقبل التغيير نحو الأحسن أن ما حدث بعد التغيير في 2003 ولا زال مستمرا لا يختلف كثيرا عن تلك الأساليب القمعية الحيوانية السابقة، في وقت كنا نتمنى أن يبادر الوزراء إلى كتابة كتب تشبه كتاب الوزير الفرنسي ترشدهم إلى طرائق التعامل مع المواطن المسكين الذي ذاق الأمرين، ولكن وزراءنا كانوا أول المبادرين لسرقة المال العام والولوغ في جرائم الفساد المالي والإداري فتبعهم وقلدهم من يعمل بمعيتهم. ولذا تعطلت المشاريع وازدادت معاناة المواطن وتنمرد الأتباع والأعوان والأقرباء تماما كما تنمرد رجال الكاكي والزيتوني في العهد المهزوم ولا أقول العهد المباد لأني أرى نفس الرجال يقبعون في الواجهة مع شيء من التغيير ربما لا يتجاوز مسألة لبس السفاري وبدلات الزيتوني لا أكثر.

وعليه أرى أننا في العراق لا نحتاج إلى قراءة كتب يؤلفها وزراء ـ مع علمنا أن ليس هناك بينهم من له قدرة الكتابة ـ بل نحتاج إلى قراءة كتب المعذبين في الأقل لكي تهون علينا مصيبتنا، والله أعلم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1417 الجمعة 04/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم