أقلام حرة

كلما سقطت بغداد فاضت ذهبا

تفكيرهم وآثارهم ومخلفاتهم وطرائق خروجهم منها، ولكنهم رغم هذا الاختلاف يشتركون جميعهم بأنهم كانوا طامعون في بغداد لأن ما فيها لا يوجد مثله في غيرها وكمية ما فيها لا يوجد ما يضاهيه عند غيرها وعلاقة حكامها بمحكوميها تساعد على الغزو وتيسره..

 كما أن طرائق سقوط بغداد وأسباب هذا السقوط كانت متشابهة بشكل يدعو للدهشة والاستغراب وحتى الريبة والشك لأنها تبدو وكأن الحكام أنفسهم كانوا يسعون جديا لخرابها ودمارها.

 ولمن يستغرب من هذا القول أو يعترض عليه سوف أجري مقاربة بين سقوطها على يد المغول القدماء (الأجلاف الهمج) التتار عام 1258 وسقوطها على يد مغول العصر (المتحضرون المتمدنون) الأمريكان عام 2003

كان حاكم بغداد يوم ذاك يسمي نفسه (المستعصم بالله) وكان حاكمها في يومنا يسمي نفسه (عبد الله المؤمن) ...

بعث قائد التتار وزعميهم (هولاكو) رسالة تحذير إلى سلطان المسلمين .. وبعث قائد المتحضرين وزعميهم (بوش) رسائل تحذير إلى قائد العراقيين. ولم يستمع القديم أو الجديد لهذه التحذيرات ويلتفت لجديتها ...

رد سلطان المسلمين على رسالتهم بنبرة فيها تحد وعنجهية وتهديد ووعيد وتخويف بأنه سوف يحرق نصف صحرائهم التي جاءوا منها.. ورد قائد العراقيين  بنفس اللهجة والأسلوب وهدد بأنه يملك من وسائل التصدي والردع ما لا يمكن توقعه وتصوره، وأنه سوف يحرق نصف هذا المكان أو ذاك. ولكن لا السلطان صدق في تهديده ووعيده ولا القائد الضرورة كان عند كلمته ووفى بوعده...

غضب قائد المغول وغزا بغداد بجيش عديده مليون جلف متوحش أهوج بدائي مجهز بالتجهيزات العسكرية الضرورية التي تلائم العصر مدعومة بروح غطرسة حقيقية تسعى للنصر ولا ترضى سواه.. وغضب قائد المتحضرين وقاد كل جيوش العالم المتحضر المثقف المجهزة بأحدث التكنولوجيا العسكرية والعلمية وغزا بغداد.. وفي الحالتين لم تصمد بغداد أكثر من صمود قرية خربة أمام عصف ضربات قوة  لا يوجد لها مثيل في الكون...

يوم ذاك طمع قائد المسلمين بالأموال المكدسة لديه ولم يخرج منها شيئا لتجهيز الجيوش وإشباع الشعب الذي كان محاصرا وجوعانا وخائفا ومقهورا.. وفي يومنا طمع قائد العراقيين بالأموال المكدسة في خزائنه وقصوره وبنوكه ومخابئه ولم يخرج منها شيئا ليصرفه على  تجهيز مقاتليه أو إشباع شعبه الجوعان  الذي قاسى ويلات ثلاثة عشر عاما من الجوع والحصار والحرمان وأربعين عاما من التعسف والقهر وبات يتوق للحرية حتى ولو كانت هبة من الشيطان الرجيم...

يومها فر الجنود المرابطون وتركوا مواقعهم ولم يبق مع السلطان سوى حاشيته التي كانت تتنعم بخيراته وتتمرغ بترفه لتدافع عن مصالحها.. ويومنا فر الجنود الجياع المعدمون الذين كانوا يستجدون أجرة السيارة التي تقلهم إلى مواقع وحداتهم  ولم يبق في بغداد سوى بقايا من قوات الحرس الجمهوري التي كانت ترفل بعز الدولة وتتنعم بالطيبات ولا تشابه باقي الوحدات من حيث الراتب والمأكل والملبس والرتب ، وحتى هذه البقية تبخرت واختفت بقدرة قادر ولم يعد لها وجود...

يوم ذاك شعر قائد المسلمين بالخطر الحقيقي وعرف أن أيامه انتهت ويوم موته قد قرب فأرسل ابنه للتفاوض مع القوات التي تحيط ببغداد.. ويومنا أرسل القائد رجاله ومساعديه للتفاوض مع القوات المهيأة للهجوم على بغداد وفشل التفاوض في الحالتين ولم يجد نفعا، ففي يومذاك ويومنا فشلت المفاوضات فأخذت القوات الغازية تضرب بغداد يومها بالمنجنيقات والنار ويومنا بالقاصفات والصواريخ الذكية بعيدة المدى، وتحولت بغداد في الحالتين إلى خراب وأطلال...

يوم ذاك هرب أعوان وقادة الجيش إلى أماكن مجهولة.. ويومنا هرب بعضهم إلى خارج العراق وبعضهم إلى قراهم وبلداتهم وبعضهم تعاون مع المحتل وبعضهم سلم نفسه طوعا لا كرها...

يوم ذاك مثل السلطان ذليلا بين يدي قائد الغزاة المنتصر وأعترف مذعنا ذليلا بمكان خزانته التي كانت عبارة عن حوض كبير  في ساحة القصر السلطاني الذي يقيم فيه مملوء بالذهب، فقتل شر قتلة وصودرت جميع ثروته من قبل الغزاة.. ويومنا هرب القائد من ساحة المعركة ودخل في حفرة جرذ، ثم أخرج منها ليمثل بين يدي ضابط صغير يقلب شفاهه بالقلم الذي بيده ليرى إن كان يحتفظ بين أسنانه بشيء خطر. ودخلت قوات الغزو إلى القصور الرئاسية والكهوف المنزوية والأماكن السرية وعثرت على كميات مهولة من سبائك الذهب والعملات الغربية المختلفة التي تقدر بالمليارات. وفي كلتا الحالتين لو كان القائد عاقلا شريفا نزيها وطنيا مخلصا حريصا على بلده وشعبه ووزع جزء صغيرا من ثرواته الطائلة على الشعب الجائع لكانت حتى أشجار النخيل قد اشتركت بصد الأعداء ولتعذر على العدو اختراق دفاعات الشعب الأعزل...

يوم ذاك سرق الغزاة كل ما وقع تحت أيديهم من ذهب تكدس على مدى خمسة قرون حكم فيها العباسيون بغداد .. ويومنا سرق المحتل كل ثرواتنا بما فيها تحف وأنتيكات تلك القصور والمتاحف والمكتبات الأرشيفية وغيرها بما فيها ذهب الماجدات العراقيات الذي توارثنه عبر القرون والذي لا يقدر بثمن وهو الذهب الذي جمعه القائد منهن عنوة وغصبا لنصرة قادسيته الرعناء...

يوم ذاك كانت للخليفة 1750 زوجة وسرية ومحظية وجارية وخادمة ومطربة ومنشدة وفنانة وساحرة وماكرة يقضي معهن جل وقته مستعينا بأكل العسل والحبة السوداء ومخ العصافير.. ويومنا كانت للقائد زوجات وسريات ومحضيات وفنانات غربيات ومعشوقات أجنبيات يقضي معهن أسعد أيامه مستعينا بالحبوب المنشطة والطب الشعبي والسحر الأسود..

يوم ذاك ذبح المغول كل أفراد جيش المسلمين وذبحوا ثمانين ألف من سكان بغداد وتركوا جثثهم تتعفن في الشوارع والطرقات .. ويومنا ذبح الأمريكان مئات الألوف بالأسلحة المبيدة والحارقة فذابت واختفت أغلب الجثث وما بقي منها لم يصدر رائحة تزعج المحتلين..

يوم ذاك كنا مسلمين وعربا ونؤمن أنا خير أمة أخرجت للناس.. وفي يومنا كنا مسلمين وعربا ولكننا لم نكن نؤمن أنا خير أمة أخرجت للناس بعد أن أذلنا الطغاة، ولكننا في الحالتين لم نرق لأن نكون حقا مسلمين وعربا وكنا دون منزلة أتعس أمة أخرجت للناس ...

فهل يوجد من شك في أن حكامنا هم سبب بلوانا التاريخية؟ وهل يوجد بيننا من يعترض على هذه الحقيقة أو يدعي خلاف ذلك؟ اعتقد أن الحكام أنفسهم سوف يغضبون على من يعترض لأنه يهين مشاريعهم التاريخية. لكن فقط يجب أن نعرف وأن نثق بحقيقة واحدة أكبر من كل الحقائق وهي أن الغزاة راحلون ولا بد أن يرحلوا مهما طال الزمان ..

 وكل احتلال وبغداد بألف عافية وعافية وحكامنا بألف  هزيمة وهزيمة لكي لا ننسى خدعة ألف ليلة وليلة!!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم