أقلام حرة

عتيق للتبديل

تعود علاقتي بمحمود إلى مرحلة الدراسة الابتدائية يوم كان طفلا نحيلا منطويا على نفسه خجولا لا يلعب مع باقي الأطفال، محمود من عائلة فلاحية بسيطة فقيرة نزحت من الجنوب في أواسط خمسينات القرن الماضي بسبب ظلم الإقطاع لتبحث في المدينة عن ملاذ ومصدر رزق وانتهت بهم الحال أن يعمل الأب مزارعا لدى أحد أصحاب البساتين والأم عاملة وكلاهما بأجر يومي. نشأنا أنا ومحمود سوية وانتقلنا إلى المرحلة المتوسطة ثم الإعدادية سوية.لم يسمح له والده بالعمل على أمل أن ينهي دراسته ويتوظف ويعينه في تربية أسرته الكبيرة. كنا في أوقات الفراغ نجلس في مقهى (تركي) الشعبية في شارع المحيط في الكاظمية نتحدث عن همومنا وهموم بلادنا ونتمنى .. ونحلم بغد أكثر رحمة وإشراقا، وكان يمر قربنا بعض الشباب يحملون على ظهورهم أكياس الجوت وينادون بصوت عال: عتيق للبيع ...عتيق للبيع. وحينما يلمحهم كان يتأفف ويقول متى ما كف هؤلاء عن الدوران في الحارات الفقيرة اعرف أن العراق أصبح بخير، وفعلا كفوا عن التجوال لكن العراق لم يصبح بخير بل زادت الهوة بين الفقراء والأغنياء وزاد ضغط الحياة على الفقراء.

ترك محمود الدراسة ليعمل في أحد المصانع الأهلية ولكننا لم نترك اللقاء في المقهى. وجاء الحصار ليلقي ثقلا جديدا على كاهل الفقراء وفجأة وبعد غياب طويل عاد الجوالون إلى الطرقات وعادت نغمة (عتيق للبيع) تتردد في الحارات وبشكل أوسع من قبل فقال محمود: الآن وصل العراق إلى الحضيض..الآن انتهى كل شيء ولكن حتما سيأتي اليوم الذي يختفي فيه هؤلاء!

وبعد التغيير في 2003 جاءني محمود فرحا مسرورا وكان سبب سروره أنه لم يعد يسمعهم يدورون في الطرقات وقال: أكيد أن بداية الخير قد أتت وأن الحال سوف تتغير للأحسن فقلت له: إن الذي سرقوه من مؤسسات ودوائر الدولة سوف ينفد وسيعودون ثانية للتجوال، ولكنه لم يصدقني، ومع كل يوم يمر ولا يرى فيه جوالا كان محمود يكرر على مسامعي: ها ألم أقل لك أن الخير قد وصل؟ وكنت أكرر على مسامعه رأيي..

وشاءت الإرادة الربانية الحكيمة لمحمود أن لا يعيش مرارة الخيبة ويعرف أن التبديل خدعة كبيرة وأن الجوالين سيعودون إلى شوارعنا حيث استشهد في إحدى المناطق الساخنة في طريق عودته إلى البيت عندما استوقفه جماعة ملثمون وسألوه عن هويته فوجدوا فيه ضالتهم وذبحوه  ووضعوا رأسه على صدره ...

نعم تألمت كثيرا وبكيت على محمود ولكن مع مرور الأيام أصبحت ذكراه رقما في معادلة المذبوحين والمفقودين ولم تعد تثير في نفسي ذاك الألم المر بعد أن كثر فقدان الأقرباء والأصدقاء، لكنه بقي معشعشا في الذاكرة، بل كنت أحيانا أسمع صوته مع كل حالة سلبية أراها ولذا لم أكن ملتفتا لعدد الجوالين الذين يجوبون المناطق، ولما ألتفت وجدتهم جيوشا جرارة تنادي في الحارات ولكن بنغمة جديدة فقد تغيرت طريقة مناداتهم من (عتيق للبيع) إلى (عتيق للتبديل) اندهشت ليس لعودتهم بهذه الكثافة فقط بل ولطريقة ندائهم الجديدة أيضا، ووفاء لذكرى محمود تقدمت من أحدهم وسألته: لماذا عتيق للتبديل وليس للبيع؟

 فقال الجوال: لأننا لا نملك مالا لنشتري منهم عتيقهم، ولأن الناس باعت كل ما تملك ولم يعد لديها ما تبيعه فأخذت تبدل الجيد الموجود لديها والذي لم تفرط به من قبل بحاجتين أو أكثر من الرديء الموجود لدينا لتسد متطلبات حياتها!

وهنا تذكرت مداخلة صديقي الغريسي لأقول له: كيف يتسامح الجوعان والمحتاج والمنكوب والمضطر والمهجر قسرا وهو يرى من هم أصحاب القرار في بناء ثقافة التسامح يتقاتلون على المناصب الوجاهية ولا يستطيعون التوصل لحل مقبول بشأن القائمة المخولة بتشكيل الوزارة بعد ثلاثة أشهر بالتمام والكمال من تاريخ غلق صناديق الاقتراع  في 7 /3  ولحد الآن، في وقت يغرق العراق فيه بدماء الأبرياء لأن العراقيين خدعوا من قبل هؤلاء أنفسهم الذين أقنعوهم أن ثقافة التسامح (ما توكل عيش)؟؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

في المثقف اليوم