أقلام حرة

ما حدث في البصرة

وفوق التصور وأعلى من قدرة التحمل ولا ينفع معه التجمل والصبر، وكنت ـ بحكم خبرتي وتجربتي الطويلة ـ أعرف أن العراقيين يملكون صبرا يتقازم أمامه صبر سيدنا أيوب .. وأعرف أنهم متى ما وصلوا إلى الخط الأحمر يقطعون علاقتهم بكل القيم والمثل التي تدعوا إلى الصبر والتصبر ويثورون غير آبهين لما قد يحدث .. وأعرف أن ثورتهم تبدو غالبا قريبة الشبه بنار القصب التي تراها حينما تهب وكأنها ستأكل الأخضر واليابس ولكنها سرعان ما تخمد بشكل مفاجيء ولا يبقى لها من أثر سوى الدخان وبضع عيدان سوداء محترقة.ولذا طالما سألت نفسي: متى يثور العراقيون إذا وماذا ينتظرون؟ فجاءني الجواب من مدينة البصرة، ولكنه جواب مأساوي لأنه كان خارج سياق المتوقع وبعيدا عن شعارات التغيير المرفوعة سواء من حيث عدم انضباط المتظاهرين وخروجهم على الأعراف المتبعة، أو من حيث الرد الحكومي البعيد جدا عن كل القيم الأخلاقية بما فيها قيم حرية التعبير عن الرأي.

 الغريب أن كل من تناول الموضوع ألقى باللائمة إما على المتظاهرين المطالبين بلمس نتائج التغيير أنفسهم أو على الحكومة والقوات الأمنية، ولم يؤشر أي منهم السبب الحقيقي لوصول الأمور إلى هذا الحد المأساوي.

حقيقة ما حدث أن جماهير البصرة تلك المدينة الساحلية المشهورة بشدة حرارتها وارتفاع نسب الرطوبة فيها لتصل غالبا إلى 100%  وصلت إلى الخط الأحمر قبل غيرها من مدن العراق الأخرى ولها الحق في ذلك فمن ضحى وتعذب وقدم الشهداء ودمرت بيوته ومحلاته وبناه التحتية مثل البصرة؟ البصرة منذ معركة قصف المدن في الحرب العراقية الإيرانية وحتى هذا التاريخ كانت الأكثر تضحية والبوابة التي تتلقى أول الطعنات وآخرها، وكانت تأمل أن يجلب لها التغيير الخير الذي تنتظره ويعوضها عن صبرها وقسوة حياتها ....

القوات الأمنية العراقية الحديثة تعرضت منذ اليوم الأول لتأسيسها وحتى هذا التاريخ إلى أقسى الهجمات الإرهابية وأكثرها دموية وبطشا وتخريبا فتحول الموت أو الخوف من الموت لديها إلى هاجس وهي تتوجس الخوف وتشعر بالخطر من أي سلوك مهما كان مستوى العدوانية فيه متدنيا  فترد على ذلك ردا عشوائيا غير منضبط بسلوك عقلاني.....

البعث وحركات تخريبية أخرى وجدت في طيبة أهل البصرة نقطة الضعف التي استغلتها لإعادة تنظيم صفوفها فاتخذتها قاعدة للعمل السياسي والحربي ثم شكلت مؤخرا ما يعرف بـ (حركة تحرير الجنوب) كواجهة شعبية تعمل بين صفوف الناس دون أن تثير الشبهة.

 من سياسات البعث فيما يسميه (مرحلة النضال السلبي) العمل على الاستفادة من المظاهرات التي تنظمها الجهات الأخرى أو المظاهرات العفوية كما هي مظاهرة البصرة للتوغل بين صفوف المتظاهرين ورفع شعاراتهم وتحويل المظاهرات السلمية إلى مظاهرات دموية لإثارة حفيظة الناس ضد الحكومات.

حركة تحرير الجنوب اعترفت ببيانها الذي أصدرته عن المظاهرة أن كوادرها كانوا يتقدمون صفوف المتظاهرين ويؤججون مشاعر الكره تجاه الحكومة، ووزعت البيان على شبكة الانترنيت.

مما تقدم نعرف أن البصرة الصابرة نفد صبرها وخرجت جماهيرها للمطالبة بحقها. والقوات الأمنية كانت ترافق هذه المظاهرة لحمايتها. ولكن دخول العناصر المخربة ممثلة بأعضاء حركة تحرير الجنوب وعناصر البعث الأخرى نجح في حرف المظاهرة عن مقاصدها السلمية وحولها إلى مظاهرة دموية سقط من جرائها شاب بصري بريء كان يأمل أن يحصل على الكهرباء في هذا الصيف اللاهب وجرح آخرون.

 والملام في ذلك ليس المتظاهرين المطالبين بحقوقهم ولا القوات الأمنية التي وجدت نفسها أمام ظاهرة تمثل لها خطرا حقيقيا وإنما الملام جهتان لا ثالث لهما.

 الأولى: وزارة الكهرباء التي لم تنجح بعد سبع سنين من التغيير في توفير الحد الأدنى من حاجة المواطن للكهرباء في عموم المحافظات العراقية باستثناء منطقة شمال العراق حيث رأيت بعيني قبل أيام أن الكهرباء تنقطع نهارا لمدد قصيرة جدا في فترات متباعدة ولكنها منذ الساعة الرابعة عصرا وحتى الساعة الثامنة صباحا لا تنقطع عن المواطن أبدا.

الثانية: الحركات التخريبية المعادية للتغيير والتي تسعى لإعادة الأمور إلى وضعها السابق.

لذا أرى أن من أوليات الحكومة المرتقبة التي طال انتظارنا لها بسبب تقاتل السياسيين على المناصب السيادية أن تهتم إضافة لواجباتها بمسألة الكهرباء كواحد من أهم الأولويات، وتهتم أكثر بحراك التنظيمات التخريبية بنفس درجة اهتمامها بالحركات الإرهابية، وأن تبدأ من الجنوب تحديدا لأن هذه المنطقة تعرضت للحرمان والتهميش والظلم كثيرا ولم يعد من سهم في كنانتها

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1434 الاثنين 21/06/2010)

 

في المثقف اليوم